أُستاذي العــزيــــز !!
توطئة مهمة: هذا المقال إنما يجسد ترجمة للحكمة التي تقول (التعليم في الصغر كالنقش على الحجر) وأنا أيضاً أقول ( الإيذاء والإهانة والتحقير في الصغر يبقى محفوراً في الذاكرة ولا يمحيه إلا ضمة القبر!)
قبل 15 سنة كنت في المرحلة الابتدائية بمنطقة العمرية...وقتها كنت مسالماً بريئاً ليس لي في المشاغبة نصيب وكنت أعشق اللغة العربية لاسيما الشعر والتعبير...وتفتح الأبواب مجدداً لعام دراسي جديد وليس لي هم في اليوم الأول من الدراسة سوى أن أعرف من هو مدرس العربي! ويأتي أستاذ العربي... ويدخل الصف علينا ليحدثنا قبل أن يسلم ويقول: شوفو يا حيوانات هذا أول يوم دراسي معاكم ولازم تعرفون من الآن إني إذا دخلت الفصل عليكم ممنوع أسمع أي صوت ولا حتى نفس واحد فيكم فهمتم يا (...) ثم سكت بعدها وأخذ يحدق في أعيينا البريئة ووالله ما زلت أذكر عيناه وهي يتطاير منها الشرر وكأننا قد قتلنا له قتيل! أذكر أنه بعد أقل من شهر نسيت دفتر الواجب لمادة العربي بالمنزل وجاءت حصة العربي وحضر الأستاذ فقال أي واحد ما كتب الواجب يقف عند السبورة وخرجت لأقول له لقد كتبت الواجب ولكني... ولم أكمل العبارة لأني وجدت نفسي وقد سقطت على الأرض من قوة الصفعة! وبقيت على الأرض وإذ به ينحني إليّ ويمسك أذناي الصغيرتين بيديه ويرفعني منهما!!حتى صار وجهي محاذيا لوجهه ورجلاي ملعقتان في الهواء! ثم أخذ يهزني وأنا أصرخ من الألم وأبكي (والله نسيت الواجب!) ثم أنه أبقاني هكذا معلقا من أذناي وقال لي: أبوك ما يقول لك أعمل الواجب وادرس في البيت!؟ فقلت له وبصوت مكسور أبي مات قبل ثمان سنوات.... فما كان منه سوى أن أفلت أذناي من يده من غير أن ينزلهما لأسقط على الأرض ويرتطم رأسي بالطاولة ليقول لي بعدها روح وأقعد على كرسيك...! وجلست منكسرا بين التلاميذ والحرج والذل يفتت براءتى وطفولتي! وتمضي السنون وقبل أشهر يقدر الله أن أصلي بمسجد سالم الذياب بمنطقة العارضية وبعد أن قضيت الصلاة التفت وإذ بي أرى وجها كالحاً قبيحا... وإذ به هو نفسه مدرس العربي... كنت أظن أن جرحي قد أندمل وإذ بي أفاجئ بأنه كان مختبئ ليس إلا! تقدمت إليه لأسأله هل تمتعت وبلغت بك نشوة الفتونة ذروتها في ذلك اليوم وأنت ترفعني وتعلقني من أذناي؟ تقدمت إليه وشعورا عارما يشدني إلى صفعه لا سؤاله! وحدقت إليه لأرى الشيب وقد ملأ عارضيه فاستعذت بالله وانصرفت لامتشق قلمي وأرسم لكم هذه القصة!
معاشر السادة المدرسين:
إنني أكتب هذه الحادثة لكل مدرس ومدرسة لا سيما مع العام الدراسي الجديد وأقول لهم إن كلامكم وأفعالكم لا يتعلمها ابناؤنا فحسب وإنما ينقشونها في عقولهم وقلوبهم فانقشوا فيهم أخلاقاً كريمة وسلوكاً قويماً وليكن في مدرس العربي وذكراه السيئة عبرة لكم!
لقد كانت التربية عند المعلمين في السابق أهم من التعليم والقراءة بل أن حسن التنشئة وغرس القيم لها شأنها وقيمتها وإليكم هذا النموذج المليء بالأمانة والصدق الذي يجب أن يكون في كل المعلمين.
قيل أن كسرى أنو شروان ابن ملك الفرس جاء له أبيه بمعلم يعلمه يوم أن كان صبياً وكان كسرى نبيها ذكياً سريع الفهم وعلمه معلمه حتى فاق في العلوم كلها وحدث في صبيحة أحد الأيام أن طلبه المعلم عنده في البيت فلما حضر كسرى أغلق الباب دونه وانهال عليه ضرباً مبرحاً من دون ذنب أو سبب! ثم تركه ساعة وبعد أن جفت دموع كسرى انهال عليه بالضرب مجدداً!! ثم تركه ورحل فذهب كسرى إلى أبيه الملك يصرخ شاكياً من ظلم المعلم له فغضب الملك وأمر جنده بإحضاره فلما مثل بين يديه صرخ به لم ضربت ولدي وخليفتي من بعدي دونما سبب؟ فتقدم المعلم وأسر إلى الملك بحديث خاص فسكت الملك ولم يتكلم وأمر ولده أن يكمل تعليمه مع المعلم كالمعتاد! ولما شب كسرى ومات أبوه تولى الحكم من بعده وقد مضى على تلك الحادثة أكثر من عشرون سنة وأول شيء عمله كسرى أن قام باستدعاء معلمه فقال له أخبرني أتذكر يوم أن ضربتني يوم كذا وكذا؟ قال له نعم أذكر والله فلقد كان ضرباً مبرحاً! فقال ويحك ما حملك على ضربي ظلما يا هذا؟ فقال المعلم: لقد علمت آنذاك أنك ستخلف ابيك وستحكم من بعده فأحببت أن أذيقك طعم الظلم ومرارته كي لا يذوق مرارة ظلمك أحد من رعيتك... ثم أن الملك بكى وقبل رأس معلمه..