موتـــــهـــــــا
قصة قصيرة :
كنت في الخامسة من العمـر وتوفت أمي وكنت معـها واقفـا أشاهـد ما تعانيه من سكرةالموت بسبب صداع وارتفاع في درجـة حرارتها ثمّ احمرار وتورم بالوجـه وكانت طريحةالفراش لمدة ثلاثة أيام .
وعنـد ما لفظت أنفـاسها كان أبي وجدتي وخالي وعمتي حولها ينظـرون لم يكن تلك الأيام مستشفيات ولا أطباء ولم تكن هناك وسائل للنقل أو حتى إدراك لمعنى الطب ودواء الطبيب .
وبعد سويعات من حضور أمهـا وإخوانها الباقين .
غُسـّلت وكُـفنت ثم حملت إلى قبرهـا ودفنت وكنت أركض وألعب أمـامهـم ولم أكن أستوعب معنى الموت
حتى أدخلت اللحـد وأنا أنظـر إلى اللحـد بأم عيني ثمّ أهيل عليها التراب وسوي القبر وحددت معالمـه ..
وعدنا وأبي للمنزل .
وجاءنا الجيران والمعارف للعزاء ثم انفض الناس ولم يبق سوانا أهـل البيت وقد تركت غيري طفلة عمرها أربع سنوات وطـفلا لازال يحـبو، وهو أخي الأصـغـر ولم نر خيال أمنا ولم نسمع صوتهـا وخيم السكون والصمت على جوانب منزلنا وكنت المقرّب إلى أبي لأني الأكبر .
والحمد لله أنّ جدّتي أم أبي معنا وقد بلغت السبعين سنة من العمـر وتتمتع بصحـة جيدة وبنية نحيفة كانت ترعـانا كما لو كانت أمنا على قيدالحياة
فكانت تتكفل بخبزنا وحلب أبقارنا وإبلنا ، ومن الغريب ، أنهـا كانت عمياء لا ترىشيئا إلا باللمس والشم والسمع .
فكانت تبل يدهـا اليسرى بالماء وتتفحص فم التنور ثم باليد اليمنى تضع لنا الخبز ، وأنا وأختي نعدّ لها لفائف الخرق المبلولة بالماء فتغطي فم التنور ليستوي الخبز
وتقوم بالطبخ وغسل ملابسنا على يدهـا ،
وبعد موت أمي بأسبوع شعرت أن أمي لم تعـد للبيت وبدأت أجوي إليهـا، فذهبت إلى أبي وهو يتوضأ لصلاة المغرب وقلت يا أبي .أين أمي ؟
فقال ذهبت للسوق تشتري لك وإخوانك حلوى ، وبالمناسبة كان السوق عندنا في الأسبوع يوم واحـد فقط ،
فانتظرت أسبوعـا آخـر وأنا أشعـر بشوق لأمي ولكنني منتظـر عودتهـا بالحلوى ، علمـا أن أمي ماتت وهي لم تعرف الأسواق ولم تغادر منزل أبي إلا لزيارة أهلها ،
وكانت صانعة ماهرة في صناعة الخسف بسعف النخيل وتعطي نساء أخريات يبعنه ويؤخذن ثلث القيمة ويشترين لها سعف نخـل آخر، فتجعله زنابيل وسجاجيد وقففا ، وتشتري لنا بما زاد من مال الثياب الجميلة
والحلوى والتمروالبن والسكر والشاي ، وكان أبي لايشتري إلا عند الحاجـة إنما هو متخصص في الفلاحـةورعي الإبل وعـلـف الأبقـار ليس إلا..
ولما انتهى الموعـد ، الذي حدده لي بعودة أمي ، وبنفس الساعة قبيل المغرب ، جئت إليه وقلت له با أبي أمي لم تعد ، من السوق ، وأنت وعدتني ،ومعها الحلوى ..
فجذبني إليه بقوة ، ونظـر في وجهي وقال بعد أن شعرت أنه يكتم أنفاسي .. أمك ماتت .. أمك مـاتت .. والميّت لم يعد أبدا أفهمت ، ؟ لا تسلني مرّة أخـرى.
فعرفت عندهـا أن الميت لا يعود ، وأصبت بصدمـة ، ولم ألاحظ على والدي دمعة واحـدةأمامي ، لأن في شرع القدماء الرجال لا يبكون .
ولـم يتجـّوز بعد موت أمي ، حتى ماتت جدتي وقد بلغت من العمر الثانية عشرة ،
والبنت عشر سنوات والصبي الذي تركته أمه طفلا أصبح بعمـر السادسة ، وأصبح أبي يواجه مشكلة حقيقة فكان لنا عمة ، بعيدة عن منزلنا ، نذهب إليها لتطحن لنا الذرة ، وتعلّم أختي كيف تشعل التنور وتضع الخبز وكنا نستعين بجاريةلنا صديقة لأمي تأتي إلينا فتمشط شعر أختي وتغسل ملابسنا وترتب بيتنا ثم تعود إلى بيت زوجهـا البعيد من منزلنا قليلا ...
ومع مرور الأيام ملّت عمتنا أخت أبينا خدمتناوأخذت تلوم أختي وتوبخها كيف لاتستطيع الاعتناء بنا وهي في سن العاشرة ، بل وضربتهافلم تعد أختي تذهب لبيتهـا ، ولا نحن نحـاول أن نكثر من زيارتهـا ، فقرر أبي أن يتزوّج بأخـرى لتساعدنا ..
ولم يخبر أحـدا منّـا بذلك .
ولكنّ الخبر لم يخف،فأخبرني لداتي ممن سمعـوا الخبر من آبائهـم وأمهـاتهـم بل إن بعض النساء اللاتي ألعب مع أولادهـن
ليلا يقلن لي يا ويلك ..
أبوك سيتزوّج امرأة أخرى غير أمّـك وسوف تسـيمكم العذاب والذل أنت وأختك وأخاك الصغير .
وملئوا رأسي بحقد دفين وكره عات على أبي وزوجته الجديدة
ولمّـا دخلت تلك الزوجة الجديدة ، لم تكن كبيرةبالسن ، إنمـا كانت كبيرة بالعقل ، فصـادقت أختي واعتنت بهـا ، أشدّ العناية ، واعتنت بأخي بتنظيفه وطعـامه
أمـا أنا فقد ناصبتهـا العداء ولم آكل من يدهـابل آكل في بيوت الناس مع أصدقائي وأعود للمنزل متأخرا
فتأتي لي بالعشاء فأقول هذا لم يعجبني فتذهب تأتي بغيره فأقول ولا هذا ؟
فتقسم لو كان هناك شيء أفضـل من هذا لأتت به ، ولم تكلّم والدي بسوء خلقي معهـا بل تعـاملني كأخ وصديق ، ولا تكاد تسمع لهـا صوتا .
وكانت تعمـل مع أبي في حش محاصيل الذرة وقطفهـا ، وكنت أشـاركهـم ، وما هي إلا أشهـر حتى حملت وبدأ بطنهـا بالانتفـاخ ، فقال :لي بعض النسوة المحرضين على الفتنة أنظـر أصبحت حاملا ...
سيأتي لهـا ولد يستأثر بحب أبيك فيعطيه أرضك وحلال أمك ،فبدأ اضطرابي وكرهي لها ولولدهـا القادم
الذي لازال في علم ا لغيب ،
ولكنني صارحتهـا وقلت لها ستأتين بولد لك يرث حلالنا لن أسمح له ولك ، فردت علي وقالت من يقول أن هذا ولدي.
لا لم يكن ولدي ، إنه أخوك من قال : لك هذا الكلام يفرّق بينك وبين أخيك غدا يكبر وتراه ولن أسميه إلا باسمك مسعود الصغير وأنت مسعود الكبير ،أريدك أن تعلمه وتربيه أنت فقط .. لا أريـد غيرك أن يعتني به أو يلمسه ، هـات يدك .
فناولتهـا يدي ووضعتهـاعلى بطنهـا .. وهي واقفة فأحسست بحركة نبضه وقالت هو الآن يسلـم عليك ويحبك .
فزال عنّي كل ذلك الكره وأنجبت أخي وسمته باسمي ولكن في شهادة ميلاده غيّربحرف الهمزة بدل الميم وحذفت الواو، وهو الآن متزوج وله أطفال إلا أنّ أبي بعد رؤيته لطفله الجديد لم يعش سوى ست سنوات ...
ثم وافاه الأجـل وجاء أهلها وبعد اكتمـال عدتهـا فزوجوها بآخـر ولهامنه عشرة أبناء ولازالت تتمتع بصحة جيّدة وكلمـا زرتهـا أقدم لهـا هديتي وهديةإخوتي وكل واحد منّـا يفعل ذلك .
رحم الله أمي وجميع أمهات المسلمين .. ولا زال موتهـا في مخيلتي حتى الآن . ولازلت أحتفظ بمعروف من قام بتربتي ومن مد لأبي ولنا يد العون ،بعرفان الجميل ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ .. النهـــــاية ..