للكاتب /عبد الباري عطوان
نعترف اننا ارتكبنا خطيئة كبري عندما نعينا في افتتاحية سابقة الرأي العام العربي، ووصفناه بالموات. فالمظاهرات والمهرجانات التي تجري حاليا في الاردن ولبنان وسورية في اطار حمي اسمها سوبر ستار تؤكد ان الشارع العربي يتحرك فعلا، ولكن في الاتجاه الامريكي الصحيح.
محطة المستقبل الفضائية اللبنانية التي نقلت الينا هذه التقليعة الجديدة، في حال بث مستمر لتشجيع الناس علي التصويت للاختيار بين الاردنية ديانا كرازون والسورية رويدا عطية.
التلفزيون الرسمي السوري ألغي معظم برامجه الخفيف منها والثقيل، واقام مهرجانات في الحدائق العامة، وفي مختلف المدن والمحافظات، ونصب شاشات عملاقة لحشد التأييد والمساندة لرمز سورية الوطني رويدا عطية، التي ستحرر الجولان وفلسطين وربما العراق بعد فوزها!
في الاردن نسي الناس ازمات المياه وانقطاع الكهرباء، والبطالة المتفاقمة، والفقر المدقع، وباتوا في حال استنفار لدعم القضية الوطنية الاولي، اي التصويت للاختيار للآنسة ديانا، حتي ترفع رأس الاردن والأمة العربية في المعركة المصيرية ضد السورية رويدا.
لبنان وضع مزارع شبعا جانبا، فالوقت ليس وقت مقاومة وتحرير، هناك ما هو اهم، فالصحف منشغلة بالمرشح اللبناني ملحم زين الذي خرج من المسابقة ضحية مؤامرة امبريالية كبري تستهدف لبنان وارضه وارزه وتاريخه الحضاري، حتي ان الخبر الرئيسي في نشرة اخبار تلفزيون المستقبل يوم امس هو استقبال الرئيس اللبناني اميل لحود للمرشح المهزوم ملحم زين، وعلي قدم المساواة مع وزير الخارجية الفلسطيني نبيل شعث.
نأسف ان نقول، وبألم شديد، اننا نعيش علامات الساعة. وان امتنا التي طالما أنشدنا لها، وسطرنا القصائد في التغني بامجادها، وعظمتها، هي امة وصلت الي ادني درجات التفاهة، ولهذا تنهال عليها الهزائم والنكبات من كل حدب وصوب.
بغداد تحت الاحتلال، وقوات امريكية تعربد وتقتل وتنتهك حرمات وطن وشعب، وانتفاضة في الارض المحتلة تذبح، واغلي المقدسات تتعرض للتدنيس في القدس، ولا احد يتحرك او يحرك ساكنا، ولكن قضية ديانا، وملحم ورويدا تحرك الملايين، وتدفعهم الي الشوارع متظاهرين لابطال العرب الجدد ومصدر فخرهم وعزتهم.
التلفزيونات الرسمية العربية لم تهتم الاهتمام نفسه بغزو العراق، ولم تحرض الجماهير للتظاهر ضــ ـد العدوان، ولم تنصب الشاشات الضخمة والعمـــــلاقة في الساحات العامة لحشد التأييد للانتفاضة والتضامن مع شهدائها، ولكنها تفعل ذلك من اجل صوت ديانا الذهبي، واحبال رويدا الصوتية البلاتينية.
قوات الامن في الاردن وسورية ولبنان لم تطلق كلابها البوليسية لنهش لحوم المتظاهرين، ولم تستخدم الهراوات الغليظة لشج رؤوسهم، فهذه هي المظاهرات النموذجية التي تتمناها في هذه المرحلة، وكل المراحل القادمة، وهذه هي القضايا المصيرية التي يجب ان ينشغل بها الرأي العام.
فالتنافس بين الاردن وسورية ولبنان او اي من البلدان الاخري، لا يجب ان يكون في قضايا متخلفة مثل تحرير العراق او فلسطــــين، او في كيفية اطلاق الحريات العامة وحماية حقوق الانسان، وتكريس القضاء المستقل، التنافس يجب ان يكون في الغنـــــاء والطرب والرقص، التصويت يجب ان لا يكون لانتخاب برلمان حر ديمقــــراطي، وفي ظل نظام حزبي تعددي، فهذا مضيعة وقت، واهدار للمال والجهد. التصويت الصحيح والحضاري هو لاختيار من يحرك وسط الجماهير رقصا، ورؤوسها طربا بصوته العذب، وحنجرته الاصيلة.
الحناجر القوية التي تهتف بسقوط الاستعمار، وتطالب بالتحرير، وتتبني المطالب الشعبية في الاستقلال الحقيقي، هذه حناجر اصواتها نشاز، واحبالها الصوتية مزعجة يجب ان تقطع من جذورها. فمن العار اصلا ان تكون موجودة في زمن ديانا ورويدا وملحم السعيد.
انه نجاح كبير ومذهل لكل جهود التسخيف و التسطيح التي مارستها الانظمة العربية واعلامها للمواطن العربي، والذوق العام. ولا بد ان الادارة الامريكية مسرورة بهذا الانجاز وتعكف حاليا علي اعداد برقيات التهنئة للمسؤولين عنه.
امريكا لم تعد بحاجة الي اقامة اذاعات او محطات تلفزيونية لغسل دماغ المواطن العربي، من خلال الموسيقي الشعبية والمسلسلات المكسيكية، والافلام الخليعة، فقد كفتها التلفزيونات العربية هذه المهمة الصعبة التي خصصت لها عشرات الملايين من الدولارات، وجيوشا من الخبراء في علم الاجتماع والنفس والاعلام. وهاهي تحقق لها اهدافها مجانا ودون مقابل.
ان ما يجري هو احد ابرز عناوين الانحدار والتفاهة، والتخدير الفكري والاجتماعي والسياسي والوطني.
نعترف مرة اخري اننا ننتمي الي فكر منقرض، والي امة غير الأمة التي نعرفها، فمن كان يصدق ان نشاهد رجال دين يتدخلون لمنع التظاهر ضد الاحتلال في العراق، وحكومات عربية تعترف بمجلس حكم نصبه الاجنبي الغازي، ورئيس وزراء فلسطيني ينفي وجود اي عداء بين العرب واليهود، وزعماء عرب يطالبون شعوبهم بالتصويت لمطرب او مطربة في برنامج تلفزيوني غرائزي!
انها فعلا علامات الساعة والبقاء لله.