الحجامة والقسط البحري
تأليف
العلامة الدكتور الطبيب
محمـد نزار الـدقر
اختصاصي بالأمراض الجلدية والتناسلية والعلاج التجميلي
دكتور " فلسفة " في العلوم الطبية كاتب متخصص في الطب الإسلامي
إخوتي الشباب ساهموا معنا في ترجمة الكتاب إلى اللغات العالمية
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على معلم الناس الخير سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وبعد، فلقد أصدرت " روائع الطب الإسلامي " في أربعة أجزاء تناولت فيها مجموعة الأوامر والنواهي الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هي في الحقيقية التشريع الإسلامي الذي أقامه سيدنا محمد r في دولة الإسلام في المدينة المنورة لتنظيم أمورها الصحية سواء في طعام الرعية أو شرابهم أو نومهم أو ما تضمنته عباداتهم من أمور تساعد على حفظ الصحة كالطهارة والصلاة والصيام وغيرها ،علاوة على بعض الإرشادات التي وجه النبي بها أمته إلى تعاطي عدد من الأدوية أو الطرق العلاجية أو صحح بها بعض الطرق الخاطئة السائدة في عصره .
لاقت " روائع الطب الإسلامي " رواجاً مقبولاً، واتصل بي الكثيرون مستوضحين عن بعض التفاصيل عن الأدوية النبوية ، ثم هل يصطدم تطبيقها مع تطبيق ما جاء به الطب الحديث بعد التقدم الكبير الذي حصل في هذا العلم المبارك " الطب" .
صحيح أن رسول الله r بعث هادياً ولم يبعث طبيباً، لكن بعث لبناء دولة الإسلام، وإن حفظ النفس هي من مقاصد كل الشرائع السماوية، وما جاء فيها من أوامر ونواه، والتي تدخل في المصطلح الحديث بالطب الوقائي هي أمور شرعية ملزمة لا يختلف في هذا عالمان .إلا أن الخلاف والنقاش يدور حول القسم العلاجي من الطب النبوي، هل هو دين ملزمون باتباعه، أم هو من أمور الدنيا التي قد يقع فيها الخطأ وليست ديناً يتعبد به؟ ثم إنهم يقولون: هل بعد أن تقدم الطب بهذه الخطا الكبيرة والاكتشافات المثيرة نعود لنبش الماضي ولنتعالج بهذه الطرق التراثية؟
عجيب أمر بعض أطبائنا المسلمين الذي يفجرون جام غضبهم عندما تطرح المعالجة بالطب النبوي دون أن يكون في حسبانهم اتباع الطريقة العلمية الصحيحة من أجل رفض أو قبول هذه الطريقة العلاجية .
بادئ ذي بدء أقول ليس هناك تناقض بين الطب النبوي والطب الحديث . ورسول اللهr الذي أرشدنا إلى بعض العلاجات النافعة – رحمة بنا في حالات ألهمها من رب رحيم. فالنبي r تداوى وأتى إليه الأطباء يصفون له العلاج الذي يناسب حالته وهو " عليه الصلاة والسلام " أمر بالتداوي وحث على البحث للوصول إلى الدواء الصحيح حيث يقول :" تداووا عباد الله ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء ،علمه من علمه، وجهله من جهله، فإذا أصاب دواء الداء شفي بإذن الله".
ودعوته r هذه أدت إلى تطور كبير في علم الطب حتى وصل في عهد الخلافة العباسية إلى القمة في طب ذلك العصر وكانت كتب الأطباء المسلمين المصدر الأول لتطور الطب الغربي حيث بقي كتاب القانون لابن سينا يدرس في كليات الطب الأوربية لأكثر من خمسة قرون .
إن النصوص النبوية التي صحت نسبة سندها إلى النبي r ما تزال حية تنبض بالشفاء، إلا أن ما فسرت به منذ مئات السنين، وبما يتوافق مع طب ذلك العصر لم يعد مقبولاً اليوم ، لا لخطأ في تلك النصوص ، بل لعدم فهم حقيقتها بعد التطور الواسع في العلوم الطبية. فمع تقدم الطب وتحسن وسائل التشخيص تغير مفهوم كثير من الأمراض ، كما تغير مضمون كثير من المسميات ، فكان لا بد لأطبائنا وعلمائنا من حث همهم لإجراء البحوث السريرية للكشف عن خواص العلاجات النبوية وتحديد استطباباتها في ضوء الطب الحديث ، وتحديد المقادير العلاجية لتلك الأدوية والطريقة التي يجب أن تطبق بها حتى يتحقق الشفاء بها والتي جاءت دعوة مقتضبة للإرشاد إليها من غير تفصيل في النص النبوي .
يقول العلامة ابن قيم الجوزية :" الطب النبوي والعلاج المحمدي هو أجود الطب وأنفعه ولقد استفاد منه المسلمون كثيراً واستغنوا به عن غيره في كثير من الحادثات المرضية ، كيف لا وقد استمده صلوات الله عليه من وحي السماء وتلقاه عمن أوجد الداء والدواء ! ... ثم إن طب النبي متيقن قطعي إلهي صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل ، وطب غيره أكثره حدس وظنون وتجارب ولا ينكر عدم انتفاع البعض بطب النبوة فإنه ينتفع به من تلقاه بالقبول واعتقاد الشفاء به وكمال التلقي له بالإيمان والإذعان " ..
الباحث الكبير الدكتور محمد علي البار في كتابه " هل هناك طب نبوي ؟ " يؤكد " أن ما ورد عن النبي r من أمور الطب هو حق لامرية فيه ، وإن بدا في بعض هذه الأحاديث تناقض ظاهري مرده إلى عدم معرفة الأسرار الكامنة وراء هذه الأحاديث والتي جاء الطب الحديث يوضح شيئاً كثيراً من هذه الأسرار ".
نحن متفقون على أن الطب قد تطور في كثير من ميادينه وقدم الكثير من الأدوية والطرق العلاجية الحديثة لكن علينا أن لا تعمينا نشوة الظفر والتقدم عن محاذير الأدوية الكيماوية الحديثة . فكم من علاج استعملناه لسنوات كالتتراسيكلين مثلاً فظهرت لنا بعد سنوات آثاره المشوهة لأسنان الأطفال وكالتاليدوميد التي ظهرت آثاره الماسخة للجنين بعد سنوات من استعماله. نعم : يطول بنا الحديث إذا أردنا أن نعدد آلام كثير من المرضى التي نجمت عن تطبيق بعض الأدوية الحديثة والمضاعفات الكثيرة التي آلت إليها حالتهم المرضية . من هنا نجد الدعوات الكثيرة والأصوات العالية التي ترتفع اليوم للحد من استعمال الدواء الكيماوي والاستغناء عنه بطرق بسيطة معروف سلامتها طالما كان ذلك ممكناً .
نعم : إننا نسمع اليوم دعوات منظمة الصحة العالمية للعودة إلى نبش طب الشعوب والاستفادة من خبرات أجيالهم المتعاقبة فيما يستعملونه من أعشاب أو طرق علاجية كالحجامة وسواها والقيام بدراسة سريرية وتحليلية لمركباتها ليتم تطبيقها تحت قواعد علمية صارمة ، وضمن استطابات طبية سليمة . فهذه أمة الصين لم تتخل عن طبها التقليدي ورغم أنها ساهمت إلى حد كبير في تطوير الطب العصري لكنها خصصت معاهد ومشافي طورت بها أيضاً طبها " الصيني " كالوخز بالإبر ووضعت له قواعده ومبادئه العلمية فصار طباً متميزاً يناهض الطب المعاصر وينافسه في استقبال مريديه من المرضى ، وممن عجز الطب الحديث عن تخليصهم من آلامهم وهمومهم الصحية ونحن أمة الإسلام نملك في طب النبوة تراثاً خالداً من المعارف الطبية والوصفات العلاجية التي أثبت بعضها جدارته في خضم هذا الصراع ، ولا ينقص البعض الآخر إلا أن نبذل همنا بدراسته وفق نظم التطور الطبي المعاصر وحتى نتحقق من استطباباته فهي والله أحق بالتصديق والتطبيق فقد نطق به من لا ينطق عن الهوى ، "والنجم إذا هوى ، ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي ، علمه شديد القوى " .
وإني في موسوعة الطب النبوي هذه – والتي أرجو الله أن يوفقني لإنجازها سأخصص لكل مادة أو مادتين من مواد الطب النبوي كتاباً مستقلاً يشمل تحقيقاً لصحة الأحاديث المنسوبة إليه صلى الله عليه وسلم ، ثم أنقل عن بعض خبرات علمائنا القدامى في مجال تلك المواد وتطبيقاتها ثم ننتهي بجمع الأبحاث العلمية المتطورة لهذه المواد. والتي سنرى من خلالها الإعجاز الطبي الرائع والسبق النبوي في وصف هذه المواد والله المستعان وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
هذا الكتاب ....
الحمد لله الخالق البارئ المصور، خالق هذا الجسد وهو نفسه جل جلاله، وضع له منهج حياة يتضمن أوامر ونواهٍ، وهو سبحانه أعرف بما يصلح له، ومن البدهي الذي لا مراء فيه، أن تطبيق هذا المنهج باتباع أوامره واجتناب نواهيه سيؤدي حتماً إلى صلاح هذا الجسد. والحجامة من أوامر الله عز وجلّ التي أوحى بها إلى نبيه فهي بلا شك تصلح من فساد البدن. فقد حدث رسول الله r: أنه ليلة أسري به، ما مر على ملأ من الملائكة إلا أمروه :أن مر أمتك بالحجامة / أخرجه الترمذي بسند حسن.
الصلاة والسلام عليك يا نبي الله، معلم الناس الخير. ألم يرو عنك إمام المحدثين – البخاري – رحمه الله في صحيحه قولك يا سيدي " إن أمثل ما تداويتم به الحجامة "
في مقابلة على الانترنيت مع الأستاذ الدكتور أمير محمد صالح الحائز على البورد الأمريكي في الطب البديل والأستاذ الزائر في جامعة شيكاغو سُئل عن الحجامة فرد بقوله :" الحجامة، هذا العلاج النبوي الرائع، أصبح علاجاً متداولاً في كثير من عواصم العالم، لقد درست الحجامة بعمق وطبقتها في الغرب قبل أن أعرف أنها علاج نبوي، فهي طريقة علاجية تثمنها عالياً عدد من جامعات العالم وتدخل ضمن طرق العلاج بالطب البديل إذ يسمونهاCupping Therapy وعندما سئل ماذا نقول للذين يهاجمون الحجامة أجاب بقوله: أقول لهم افتحوا على الانترنت واقرؤوا واطلعوا فليس الأمر منا تعصباً للسنة النبوية بل هي مسألة علمية بحتة، فلم هذا التشكيك والغرب كله اليوم يلهث وراء هذا الطريقة البسيطة والمفيدة " .
وفي قطرنا العربي السوري ومنذ أكثر من عامين روج للحجامة بشكل غير مسبوق وأعلن في ضجة مشبوهة عن فوائد غير واقعية كمعالجة السرطان وسواه بالحجامة مما قد يسيء لهذه السنة النبوية الطاهرة بتوجيه أصابع الاتهام إليها من بعض الأطباء، وقد دعت نقابة أطباء سورية إلى عقد ندوتين في دمشق حول الحجامة نوقشت فيهما واقع الحجامة في القطر (1). وأشار الدكتور رمضان رمضان نقيب الأطباء في سورية في مستهل الندوة إلى ما ادعي من دراسة علمية نشرت حول الحجامة في الإعلام وفي بعض الكتب المتفرقة (2) فهي تفتقد بالكلية لمنهجية البحث العلمي .. وبما أنه لا توجد معايير أو استطبابات للحجامة بالمفهوم الطبي الحديث وبالتالي فإن انتشار الحجامة بالشكل الحالي يشكل خطراً على الصحة العامة، وإذا ما كان هناك بعض الاستطبابات الطبية فيجب أن تحدد حسب دراسات علمية تقوم بها جهات علمية مسؤولة /إهـ
وفي نفس الندوة تكلم العلامة الدكتور سعيد رمضان البوطي عن هذا الموضوع فأكد أن الحجامة وسيلة استطبابية قديمة، وجاء رسول الله r فتحدث عن هذا الذي عرفه الناس من قبل فقال كلمة فيها قدر كبير من الإقرار وقدر أكبر من التحفظ في حديث صحيح متفق عليه " إن كان في شيء من أدويتكم من خير ففي شرطه محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار "
الحديث موجود منذ 14 قرناً، ولكن الشيء الذي أذهلني أن هياجاً غير متوقع وضجيجاً غير مرتقب قام في السنتين الماضيتين أحدث إشكالات غريبة وعجيبة جداً. تساءلت في نفسي ألم يكن الناس قد سمعوا بكلام الرسول r هذا الذي تناقلته الأجيال إلى يومنا هذا، فما الذي جعل الناس ينتقلون من النقيض إلى النقيض فيهتاجوا ويقوم ضجيج كبير بهذا الموضوع .
قلت في نفسي لعل النبي r لم يكن قد حظي بعد بشهادة التزكية من هؤلاء الذين أعلنوا عن جدوى الحجامة وعن أهميتها، فلما حظي المصطفى بهذا التزكية منهم التفت الناس إلى هذا الأمر وأقبلوا عليه، لكني نظرت فوجدت أن النبيr لم يبق له موقع بين هذا الضجيح واتجهت أجهزة الإعلام وأضواء الدعاية إلى أشخاص آخرين، ورسول الله آخر من ترتبط العلاقة بينه وبين هذا الحديث وتساءلت في نفسي لماذا يقوم الصخب وهذا الضجيج العجيب بالنسبة لمسألة واحدة تلتقط من الطب النبوي كله مع الإعراض التام على الأمور الأخرى ( العجوة، الحبة السوداء .....) هذا السؤال لم أجد عليه جواباً في ذاكرتي إلا أنني أظن أن هنالك من يتصيد من هذه المسألة دعاية ومن ثم هناك من أراد أن يقطف ثمار هذه الدعاية" .
ويتابع الأستاذ البوطي فيقول: " وإذا لاحظنا كلام النبي r عن الأدوية التي أقرها ولفت النظر إليها نجد أنه يستعمل أداة الإطلاق ولا يستعمل أداة التعميم مثل: إن كان في شيء من أدويتكم من خير ففي شرطة محجم .... الخ. إذاً وليس فيها تعميم. فما الفرق بين الإطلاق والتعميم ؟ الإطلاق يعني أن هذا فيه دواء إذا صح أن تكون الحجامة دواء في مرة من المرات، لمرض من الإمراض فقد صدق هذا الكلام وليس في كلام النبي r ما يعني أن الحجامة دواء لكل داء. ندرك من هذا أن النبي r عندما يلفت نظرنا إلى الحجامة وأن فيها دواء من مرض ما فإن تنفيذ ذلك مرده إلى الطب، متى وكيف وبأي نظام وبأي طريق نستعمل. وأشد ما نخشاه من ردود الفعل التي تتولد من المبالغة والتي لا تزال تخلف الإفراط والتفريط /إهـ
وأكد الدكتور عبد الغني عرفة أن الحجامة تطبيق للنظرية العلمية القائلة بوجود جهاز مناعي ذاتي في الجسم وأن هذا الجهاز يصيبه الكسل أحياناً فهو بحاجة إلى إعادة تنشيطه، وقد أكدت التجارب الكثيرة أن الحجامة كفيلة بذلك. أما استطباباتها العلاجية فهي تطبق في الحالات التي يكون فيها الجهاز المناعي متراخياً، ولا أقول معطلاً، كما في حالات الشقيقة والآلام العصبية المختلفة وفي أمراض اضطرابات التغذية كالسكري وفي ارتفاع الضغط الدموي، لكني أقول أن هنالك مبالغة في إمكانية الشفاء إذ لا يوجد دواء عجائبي يمكنه أن يشفي كل ما خلق الله من الأمراض، وإن منظمة الصحة العالمية تدعو إلى نبش التراث العالمي للشعوب وتقول بأننا قد نجد في بعضه ما يفيد في علاج بعض ما استعصى على العلم الحديث من أمراض .
وبين الدكتور عبد المالك الشالاتي أن الحجامة تفيد بدون شك في بعض الأمراض وليس في كل الأمراض، وهي شائعة في كل أنحاء العالم، وهي نوع من الطب البديل الذي له جمعياته المنتشرة هنا وهناك إلا أنني أؤكد أن عملية الحجامة يجب أن تضبط من قبل جهات مسؤولة وأن يكون من يقوم بها مرخصاً له من قبل السلطات الصحية .
وتساءل الدكتور أحمد ديب دشاش: لماذا الحجامة الآن ، وهل عجز الطب عن مداواة بعض الأمراض ونريد تجربة الحجامة ، وهل تفضل الحجامة مثلاً لأنها أكثر فعالية ؟ ثم هل يتم تطبيقها في أماكن أو بأيد ووسائل عقيمة نظيفة تضمن سلامة المريض من انتقال العدوى بمرض خطير كالإيدز مثلاً ؟ إذن لابد من إجراء دراسة تقيم فعالية الحجامة حسب المنهج العلمي .
وأحب أن أؤكد للقارئ الكريم أني لم أكتب هذا الكتاب رداً على أحد فقد بدأت بجمع مواده منذ سنوات، لكن الضجة الإعلامية الحالية حول الحجامة ومبالغة أصحابها في الفوائد المنسوبة إليها، ومن ثم ردود الفعل من هنا وهناك وخاصة ما تكلم به العديد من الأطباء في ندوة نقابتهم جعلتني أسرع في إنجاز هذا الكتاب مع الإحاطة ما أمكن بما تقدمه لنا شبكة الإنترنت من أحدث المعلومات ليجد فيها كل من الفريقين- إن كان منصفاً – حقائق علمية وطبية مثبتة يمكن أن تكون جواباً لتساؤلاته وتمكنه بعد ذلك من الحكم الصحيح .
وقد طورت بعض المراكز الطبية في العالم الحجامة بإضافة عناصر أخرى إليها وأطلقوا عليها اسم "الحجامة الحديثة". وتصف الدكتورة هيلينا عبد الله(1) هذا المصطلح فتقول :" تعتبر الحجامة الحديثة وسيلة لاستخلاص العوادم السمية والعناصر المدمّرة الزائدة من أجسامنا عبر سطح الجلد، ومن ثم تجنيب الكليتين والكبد تبعات العمل الشاق، وهي عملية مأمونة للغاية، غير ضارة، وغير مؤلمة، وخالية من الآثار الجانبية، لكنها رغم ذلك شديدة الفعالية لدى استخدامها العلاجي بهدف تخفيف الآلام أو تنشيط الوظائف الحيوية للجسم، وكذا في الوقاية من بعض الأمراض كآفات القلب والفشل الكلوي وغيرها . والحجامة تحتل مكانة هامة في مجمعنا المعاصر ، ولقد شاهدت على امتداد سنوات، نتائج بالغة الأهمية وتحسناً كبيراً لدى كثير من مرضاي وحتى الحالات العديدة من الإعاقات الجسمية الطويلة الأمد .
لمحة تاريخية
الحجامة علاج عرفته كثير من الشعوب القديمة كالصينيين والبابليين واليونان والفراعنة إذ أن أقدم الوثائق عن الحجامة وجدت منذ 1500 ق.م عند قدامى المصريين تمثلت في نقوش تظهر أدوات طبية استخدموها لهذه العملية (1)
ويرى أبقراط (2) أن الفراعنة قسموا الطب العلاجي إلى نوعين: طب الصوم وطب الإخراج ويعنون به الحجامة عن طريق شرطات يحدثونها في الجلد . وإن ما كتبه أبقراط ( حوالي 400ق.م ) هو أقدم النصوص المكتوبة حيث كان وأتباعه يطبقون الحجامة لمعالجة المصابين بالتهاب اللوزيتن وعسرة الطمث، وكان يشترط في المحاجم أن تكون صغيرة القطر، مخروطية الشكل وخفيفة الوزن وخاصة عندما يكون المرض المعالج متركزاً في الأعماق .
وتؤكد بروس بينتلي(3) أن أبقراط عرف الحجامة بشكليها الجافة والرطبة . وأن الحجامة بقيت معروفة في الممارسة الطبية في كل أنحاء أوربا وطبقها العالم اليوناني غالن (150ق.م) وبراسيلوس(1500م) وأمبروس بار(1590م).
لقد تطورت الحجامة عبر الزمن واستخدمها بعض الأقوام لسحب السموم من لسعات الحيات وغيرها من الإصابات الجلدية باستخدامهم لقرون الحيوانات المجوفة بعد تفريغها من الهواء بمصه عن طريق الفم ثم تطورت باستخدام كؤوس من خشب الخيرزان صنعت من الزجاج(1)
كؤوس الحجامة
ومع تطور الكؤوس تطورت أيضاً التطبيقات السريرية للحجامة وكذا مع تنوع الثقافات التي هيات الحجامة لتكون آلية ممتازة لحفظ الصحة. ويبدو أن الصينيين هم الذين وسعوا الانتفاع بالحجامة. وترى أنيتا شانون أن أول تقرير طبي علمي كتب عام 28 م فيه مقولة صينية مفادها أن المعالجة بوخز الإبر مع الحجامة تشفيان أكثر من نصف أمراض البشر، وتوضح معطيات الطب الصيني أن الحجامة تبدد الركودة الدموية، والتي بسببها تعمل مؤثرات خارجية تدخل العضوية في حالات مرضية مختلفة .
جي هونغ ( عام 340م )أول من وصف في كتابه " وصفات الطوارئ " الحجامة وقررها كعلاج إسعافي واستعمل لها القرون الحيوانية .
وفي كتاب Tang Dynasty وصفت الحجامة لمعالجة السل الرئوي والأمراض المشابهة. بعد ذلك تحدث Zhao Xuemin عن أهمية الحجامة باستعمال محاجم مسخنة بحرق قطعة من الصوف فيها تصنع من الخشب أو الخزف ويصفها لمعالجة الصداع الناجم عن البرد، والدوار، والآلام البطنية وأوجاع المفاصل(1) .
وهناك نصوص من طب الفراعنة تؤكد استعمالهم للحجامة في معالجة حالات مرضية متعددة كالحمى والآلام والدوار واضطراب الطمث وضعف الشهية من أجل تعجيل شفائهم. ومن عند المصريين انطلقت الحجامة إلى اليونانيين ومنهم انتقلت إلى الشعوب الأوربية وحتى إلى الأمريكيين(1)
كما أثبتت المصادر التاريخية معرفة العرب في جاهليتهم للحجامة (2) وقد أقر النبي r قومه على الانتفاع بهذه الطريقة العلاجية، بل واستخدمها النبي r للوقاية من العديد من الأمراض كتبيغ الدم ولمعالجة بعضها الآخر كما سنجد ذلك مفصلاً في فصول قادمة من هذا الكتاب .
ومنذ مطلع القرن التاسع عشر (1)ظهرت أوراق بحث تفيد تطبيق الأطباء الأوربيين والأمريكيين للحجامة في الممارسة العملية. كما أثمرت جهود التعاون بين الأطباء السوفيت والصينين عن نتائج طيبة في التطبيقات السريرية للحجامة وأصبحت من المعالجات الأساسية هناك حيث تجدها مطبقة في معظم مشافي الصين. كما أن حجامة الثديين أصبحت تمارس لمعالجة الأثداء الملتهبة( الشكل 2) وفي اضطرابات الرضاعة حيث طبقت ممصات الثدي العائلية Breast Pumb .
وفي أواخر القرن العشرين (2)دخلت تطورات مهمة على تقنية الحجامة إذ ظهرت نوعيات من الكؤوس مجهزة بمضخات يدوية عوضاً عن استعمال النار في تفريغ الهواء حيث يوجد لها مدك وصمام يتم غلقه أثناء سحب المدكّ ثم يعاد فتحه بعد الانتهاء من عمل الحجامة فيتسلل الهواء إلى داخل الكأس ويمكن بذلك رفعه بسهولة ثم ظهرت بعد ذلك محاجم مزودة بمضخات كهربائية لتفريغ الهواء .
وفي تحقيقه لكتاب " الطب من الكتاب والسنة (3) " كتب د. عبد المعطي قلعجي مؤكداً أنه حتى عام 1960 لم تكن تصدر مجلة طبية أو كتاب في علم وظائف الأعضاء أو العلاج إلا وللحجامة فيه ذكر وفوائد وآلات. و ذكر أن بعض الشركات المختصة بإنتاج الأجهزة الطبية أنتجت حقيبة خاصة لأدوات الحجامة. وفي عام 1973 وقع بيدي كتاب عن علاج الروماتيزم والتهاب المفاصل لمؤلفه د.فورستر لنغ فوجدته يشير إلى الحجامة كمخفف للآلام الرثوية الشديدة .
و في عام 1975 ذكرها الأستاذ زكي سويدان في آخر طبعة من كتابه "التمريض و الإسعاف" القاهرة, حيث ذكر مواضع الحجامة و أنها وسيلة ناجحة لعلاج حالات هبوط القلب المترافق مع ارتشاح في الرئتين و ببعض أمراض القلب و آلام المفاصل.
و في عام 1978 ذكر الحجامة د.عبد العظيم رفعت أستاذ الجراحة في جامعة القاهرة في كتابه Surgery كطريقة لمعالجة عسر التبول الناتجة عن التهاب الكليتين و تطبق الحجامة هنا على الخاصرة.
يدل هذا على أن الطب إن أغفل الحجامة في مطلع القرن العشرين إلا أنه عاد و اعتمدها كعلاج من العلاجات النافعة يتعاضد معها للوصول إلى الشفاء و من ناحية أخرى ترى بعض الأبحاث أن الحجامة تنفرد في معالجات تنفع فيها و تخفف الآلام و ليس لها أي مضاعفات جانبية .
يقول د.أيمن الحسيني(1) في مقدمة كتابه عن الحجامة و الذي صدر عام 2003:
"الحجامة وسيلة علاجية قديمة جدا عادت للظهور و الانتشار من جديد و أصبح تعليمها و القيام بها يستهوي كثيرا من الأطباء بعدما أثبتت دراسات علمية في دول مختلفة من العالم فعالية هذه الوسيلة العلاجية القديمة في مداواة و تخفيف كثير من متاعبنا الصحية" .
الحجامة
في السنة النبوية المطهرة
1-روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي r قال :" الشفاء في ثلاثة: شربة عسل وشرطة محجم وكية بنار وأنهى أمتي عن الكي ".
2-وروى البخاري ومسلم في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي r قال :" إن كان في شيء من أدويتكم من خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي ".
3 -عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله r قال :" إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي " رواه الترمذي وحسنه .
4-عن مالك بن أنس بلغه أن رسول الله r قال : "إن كان دواء يبلغ الداء فإن الحجامة تبلغه " أخرجه مالك في الموطأ وقال الأرناؤوط :إسناده معضل .
5 -عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: "نعم العبد الحجام يذهب الدم ويجفف الصلب ويجلو عن البصر " وقال : "إن رسول الله r حيث عرج به، ما مر على ملأ من الملائكة إلا قالوا:عليك بالحجامة"رواه الترمذي وحسنه وهو كما قال ( الأرناؤوط ).
6 -عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عاد المقنع بن سنان فقال:لا أبرح حتى تحتجم فإني سمعت رسول الله r يقول :"إن فيه شفاء " رواه البخاري .
7-وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي r " احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به " رواه البخاري.
8- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن أم سلمة استأذنت رسول الله r في الحجامة، فأمر النبي r أبا طيبة أن يحجمها. قال حسبت أنه قال :" كان أخاها من الرضاع، أو غلاماً لم يحتلم " رواه الإمام مسلم .
9-وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:حدث رسول الله r أنه ليلة أسري به ما مر على ملأ من الملائكة إلا أمروه:أن مر أمتك بالحجامة. أخرجه الترمذي وحسنه.
10-وعن سلمى – خادم رسول الله – رضي الله عنها قالت: ما كان أحد يشتكي وجعاً في رأسه إلا قال:احتجم، ولا وجعاً في رجليه إلا قال:اخضبهما " أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وهو حديث حسن.
11-عن سمرة بن جندب قال :"رأيت رسول الله r وهو يحتجم بقرن ويشرط بطرف سكين فدخل رجل من شمخ فقال له:لم تمكن ظهرك أو عنقك من هذا يفعل بها ما أرى:فقال r : هذا الحجم وهو من خير ما تداويتم به " رواه الإمام أحمد .
12-عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "أن النبي r احتجم وهو محرم " رواه مسلم
وعن ابن بحينة رضي الله عنه " أن النبي r احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه " رواه الإمام مسلم .
13-عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما " أن النبي r احتجم وأعطى الحجام أجره واستعط " رواه البخاري .
14-عن عكرمة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال " احتجم النبي r وهو صائم " رواه البخاري .
15-وعن انس رضي الله عنه قال: احتجم رسول الله r حجمه أبو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخفف عنه وقال: إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري " رواه البخاري .
16-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "أخبرني أبو القاسم أن جبريل أخبره أن الحجم أنفع ما تداوي به الناس" أخرجه البخاري في تاريخه والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي .
أوردنا هذه الأحاديث النبوية التي هي في مرتبة الصحيح أو الحسن وأكثرها مما رواه واتفق عليه الشيخان:البخاري ومسلم ويوجد غيرها أيضاً أثبتناه في مواضع أخرى من فصول الكتاب وكلها تدل أن النبي r تداوى بالحجامة، بل وفعلها من غير سبب واضح أحياناً وهذا ما يفترضه علم الطب من قبيل الطب الوقائي ، كما أمر أصحابه بالحجم وأنه عليه الصلاة والسلام قد أُمِرَ به من الملأ الأعلى. ومع هذا كله فقد اختلفت آراء العلماء من أمتنا المسلمة من حيث تقييم الحجامة وهل أنها سنة نبوية يثاب عليها من فعلها اقتداء برسول الله r أم أنها من الأعمال الدنيوية المباحة حيث لا ثواب ولا عقاب؟
هذا وسننقل أقوال العلماء والمذاهب الإسلامية حول حكم الحجامة في مبحث الأحكام الفقهية للحجامة .
====
يتبع