أعلن حفظه الله، نبذه لكافة أشكال التصنيفات في حفل عام بمنطقة القصيم قبل عدة سنوات، وسار مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني منذ تأسيسه عام 1424هـ، على هذا النهج الذي خطه مؤسسه وراعيه الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى اليوم.
ومع بزوغ فجر يوم العيد السعيد لهذا العام، تسلم حفظه الله التقرير السنوي لنشاطات مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني للعام المنصرم، ليضغط من جديد، على ما سبق أن رسمه من نهج قويم للحوار بين فئات المجتمع وطبقاته، وما وضعه من معايير وآليات لنجاح رؤية الملك المفدى على ضوء ما جاء على لسانه في هذه المناسبة؛ حيث قال:
(إن أي حوار لا يلتزم بمنهج الحوار الصحيح وقواعده وآدابه يتحول إلى فوضى)
محذراً من مغبة غياب الحوار أو الوقوع في فخ التصنيفات الفكرية حيث قال:
(إن بوسع الجميع التعايش مع الاختلاف والتنوع، ولكن يصعب التعايش مع خلافات لا تنضبط بضوابط الشرعية والوطنية)
إن التصنيفات الفكرية المؤدلجة، التي ظهرت في أوساط المجتمع قبل ثلاثة عقود ونيف، كانت وبالاً على الكل:
المصنِّف والمصنَّف
عرفنا مع بداية ظهور هذه الآفة، أن مجتمعنا هو أقسام وأصناف وأجزاء.
وجدنا من يصنف نفسه على أنه ملتزم، واقتضى هذا بالضرورة أن يكون غيره غير ملتزم..! ووجدنا من يصنف نفسه على أنه حداثي تنويري، ولزم الأمر أن يكون غيره رجعيا متخلفا..! واسترسل المصنفون في الفرز الاجتماعي على أسس غير شرعية ولا منطقية، حتى خيل للمرء أن المجتمع العربي المسلم الواحد، أصبح على بضع وسبعين شعبة، حتى برز من بينه من صنف نفسه على أنه هو وليس غيره الفرقة الناجية، وأنه هو وحده إسلامي، وغيره ممن يختلف معه من بين مجتمعه المسلم غير إسلامي..!!
لقد قامت هذه التصنيفات البغيضة، على أسس عقدية ومذهبية ظنية في بداية الأمر، ثم جاء الوقت الذي تأدلجت فيه وتسيّست، حتى راح المصنفون يفرزون الناس على حسب انتماءاتهم وتبعاتهم ، إما لجماعات متطرفة خوارجية، أو لمشيخات ورموز فكرية لا أكثر.
صار الملتزم في مواجهة المنفلت، والمتزمت في مواجهة الليبرالي، والمتطرف في مواجهة العلماني، والأصولي في مقابلة التغريبي..
وهكذا دواليك.
لم يبق سعودي على ترابه الوطني، إلا وهو موصوم بصفة عقدية أو مذهبية أو مناطقية أو سلوكية، حتى أنه من السهل تصنيف المرء بناءً على رسمه أو مشيته أو ملبسه أو مأكله أو لهجته..!
إن من صنّف نفسه على أي صنف كان؛ فهو بالضرورة صنف غيره..
هذه بديهية لا جدال فيها، ولو تحذر الناس من هذا قبل أن يصنفوا أنفسهم، لما وقعنا في هذا المستنقع الذي لا خلاص لنا منه، إلا بنبذ هذه التصنيفات البغيضة، التي هي في حقيقتها ألقاب للتنابز والتنابذ والتحارب والإقصاء، وهو ما ظل خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، يدعو إليه في أكثر من مناسبة.
توجد تصنيفات وصفية، ليس فيها ذم ولا انتقاص ولا إقصاء، من ذلك قول الحراني الذي أورده ابن حيان التوحيدي في كتاب الصداقة والصديق.
قال:
(الناس منهم من هو كالغذاء الذي يمسك رمقك ولا بد لك منه على كل حال، لأنه قوام حياتك وزينة دهرك.
ومنهم من هو كالدواء، يُحتاج إليه في الحين بعد الحين على مقدار محدود.
ومنهم من هو كالسم الذي لا ينبغي أن تقربه، فإنه سبب هلاكك).
وتصنيف آخر أورده الإمام الغزالي في كتابه:
(القسطاس المستقيم)
قال:
الناس بين عوام وخواص وأهل جدل، فالعوام هم أهل السلامة
أي العامة على فطرتهم، والخواص هم أهل الذكاء والبصيرة، وبينهما طائفة هم أهل الجدل
هذه تصنيفات
لا تذم ولا تقدح ولا تكفر ولا تنفر
ولكنها عامة وقائمة على خبرة وتبصر بأحوال الناس كمجموع، وليس كفئات مذهبية أو عقدية أو سلوكية
إن المصنفين بالظن
ينصّبون أنفسهم قضاة عتاة على عباد الله
يصنفونهم عقائدياً أو مذهبياً أو سلوكياً
بناءً على
كلمة أو مقال أو قصيدة أو محاضرة أو كتاب
أو حتى
مظهر أو ملبس
وقد عانى من كان قبلنا من
هذه الآفة
حتى لم يسلم أحد من ألسن الناس
قال الزمحشري في هذا المعنى:
إذا سألوا عن مذهبي لم أبُحْ به
وأكْتُمُه كتمانُهُ ليَ أَسلَمُ
فإن حَنَفياً قُلتُ
قالوا:
بأنّني
أُبيحُ الطِّلا وهو الشرابُ المحرّمُ
وإن مالكيًّا قلتُ
قالوا:
بأنَّني
أبيحُ لهم أكْلَ الكلابِ وهمْ هُمُ
وإن شافعيًّا قلتُ
قالوا:
بأنَّني
أُبيحُ نكاحَ البِنْتِ والبنتُ تَحْرُمُ
وإن حنبليًّا قلتُ
قالوا:
بأنّني
ثقيلٌ حُلُوليٌّ بغيضٌ مُجَسِّمُ
وإن قلتُ من أهل الحديث وحِزْبِهِ
يقولون
تيسُ ليس يَدْرِي ويَفْهمُ
تَعَجّبتُ من هذا الزمانِ وأهِلهِ
فما أحدٌ مِنْ أَلسْنِ الناس يَسْلمُ