اسمحوا لى بالمشاركة .
أشعر أنّ ذكريات الدراسة شيئ جميل ، يجب أن يكتب المرء مذكراته لأولاده
وللأجيال القادمة من بعده .
بالنسبة لي وبكل صدق ، أسرد لكم تاريخي المدرسي ، نشأت في قرية المسجد بها عبارة عن عريش من الأخشاب المسقوف بشجر القلمى أو الحلفى في لغتنا
وهو عبارة عن شجر نهري يشبه زراعة الأرز إلا أن أعواده تتميز بالصلابة وتميل إلى الصفرة .
يجلس الشيخ بها بعد صلاة العصر إلى المغرب يعلمنا القرآن الكريم ، والكتابة
القراءة بألواح الخشب المطلية بالقطران .
نكتب عليها بأحجار النورة أو الجص الأبيض حجر يشبه الطباشير نأخذه من
الجبل وهو بكثرة عندنا .
وللأسف أكثر شيوخنا في ذلك الوقت من اليمن يأتون ويسكنون في القرية فمن
يحسن القراءة والكتابة يمتهن التعليم .
وكان عندنا رجل يحفظ القرآن الكريم اسمه السيد عبدالله الكبسي .
رحمه الله وغفرله
يعلمون القرآن إلا أنه كان يشد علينا ويضربنا ضرب غرائب الإبل فهرب منه
ابناء القرية ماعداي فكان والدي محبا للعلم علما أنه لايحسن إلا قراءة اسمه
فقط ويحفظ من القرآن إلى سورة الشمس ويعتبر أعلم شخصية في القرية أما
الباقون فلا يقرأون ولايكتبون ، فقط يسمعون أنّ هناك من يقرأ حجج
الأراضى .
وقواعدها فيذهبون إليه ليميز لهم أرض فلان من فلانةوحدود تلك الزبر .
نعود لأستاذنا ا لكبسي .
يأخذ أجره من الخميس إلى الخميس عبارة عن كيلو أو كيلو ونصف من الذرة
وبعضهم يأتى ، بخبز جاهز ، وبعضهم يأتي بسكر وشاي ، وبعضهم يأتى ببن
أوزيت أو عسل ، وبعضهم يأتى بلبن وزبدة أو لحمة من ذبيحة ، وبعضهم يعلف حماره .
والناس يحترمونه ويأخذ من أموالهم مايشاء وكان لايطلب أحدا بل هم يعرفون
حاجته فيقضونها له وكان على منزلة عالية من الأنفة وعزة النفس.
ولكن من شدته هجره التلاميذ واشتغلوا بالرعي وتركو التعلم ، ماعداي وابنه
أحمد وابنته فاطمة .
وكان يضرب أحمد وفاطمة كمايضربنا ، وكان خفيف الجسم رشيق البنية
قد اتخذ كرسيا مرتفعا وبطّنه بالقطن ونجّده ، ووضع عليه بطّانية صغيرة
على التنجيد ، وعندما يقعد عليه يقفز قفزا براشاقة وخفة حتى يستوي عليه
ويقابلنا..
ويقول سمّع يافلان ويبدأ بولده ثمّ بي ثمّ بابنته فاطمة ، ومن حضر،
ومن لايحفظ ضربه بسوط خيزرانة يلهب الفؤاد على الكف والقدم وإن
امتنعت على الضهر والبطن وإن تهرب طردك وأعادك وأنت بين مخافة
ورجاء ، وكل واحد منّا الثلاثة أو الحضور، يشفق على زميله من غضبه
وبطشه .
وبدأنا نكبر ونحن على هذه الحالة ومن الخوف لم نصل إلى جزء تبارك حفظا
أما القراءة فإننا نقرأ بطلاقة حسب الحركات والسكنات وبحميع أنواع الهجاء
كالرشد ي ، الموسيقى
والكسر والخفظ ، والنصب والفتح ، والرفع والضم ، والجزم
والسكون .
فاتفقنا ثلاثتنا على أذية معلمنا ، كلنا الثلاثة وكان ولده أحمد صاحب الفكرة
وأنا المهندس وابنته أمينة السر .
فوضعنا تحت بطّانيته فرع شجرة سدر
يابسة مليئة بالشوك الصلب الذي يشبه الكلا ليب ، وقعدنا أمامه ننتظر قفزته
على الكرسي وهل الشوك سينتقم لنا أم لا .
وبالفعل كما توقعنا لم ينفض البطانية ولم يصلح من شأنها ولم يتفقد الكرسي
وقفز أمامنا بقفزته المعهودة على الشوك فعلقت الأشواك بظهره ، فنزل من
سريره.
ونحن نشاهده ولم يضحك منّا أحد قط ، فلم ينظر إلينا ولم يسألنا بل أخذ
بطانيته ورمى بالشوك بعيدا وأصلح من شأنه ، وقال : لنا هاه ، هل كل واحد
منكم
حفظ معشره .
المعشر الواجب فقلنا نعم يافقيه
فبدأ بولده فأخطأ في كلمتين فقال : تعال : فجاء إليه وأمسك بأذنه وبصق في
أحد أصابعه وغمصها بالرمل فامتلأت حجارة رملية زجاجية تشبه الكرستال
وفرك بالرمل شحمة أذنه حتى ملت دموعه خده ، وأوشك أن يستفرغ من شدة
الألم ، ثم جاء دوري ففعل بي مافعل بأحمد ثم جاء دور الفتاة فبكت وقالت :
والله يا أبى ما وضعت أنا الشوك بل محمد وأحمد فقال :لها انصرفي .
وبعد
أن أنتهت حلقتنا قال : لى لا أريد أن أرى وجهك في بيتى والتمس لك معلما
غيري ، ولم يخبر والدى بذلك أبدا .
فسألنى والدي لماذا لاتهيش أي تذهب إلى السيد قلت له بطّل التعليم وأنا
ياوالدي الآن أقرأ وأكتب وانتهى العلم الذي عنده ، فاقتنع والدى ، وبعد وفاة
والدي بأيام قليلة ، دخلت مدرسة ابتدائية في جازان وهي بعيدة عن قريتى
دخلتها مباشرة بالصف الثالث الابتدائي لأننى أحسن القراءة والجمع والطرح
وحافظ لجدول الضرب من ذلك المعلم السيد عبد الله الكبسي فكان مدرس
الصف يتركه لى
وأنا أدير حصصه .
وكنت آتي مشيا على الأ قدام من مسافة عشرة كيلو فأستغرق ساعة ونصف
مابين الهرولة والمشيوالطريق تششوبه العوائق والمنحدرات والمرتفاعات
والوحول والحقول الزراعية ، فأصل أحيانا مع الطابور وأحيانا في بداية الحصة .
وفي يوم من الأيام عندنا علوم ، وكان معلمنا سوداني الجنسية
أبالغ لوقلت طوله مترين ، ويشبه المصارعين ، وعليه خط ورسم لم أشاهد
مثيلا له إلا في الكتب المطبوعة بالألوان أو عالم الكميوتر اليوم وكان معنا
جادا ومخلصا ، ولم يعرف عن ظروفي أنني آتي من منطقة بعيدة ، وكانت
بعض حصصه التى تحمل الرسم يخرجنا فيها
إلى بستان قريب من المدرسة ، والطين هناك بالساقية أو الحوض الذي يصب به الغرب أو الدلو
أحمر اللون ويتشكل معك كعجينة الطحين أو الصلصال ، وكان عنوان
الرسم الثور صديق الفلاح ، طلب رسم الثور من التلاميذ وكنت أكبرهم سنا
فسألت أحــد زملائي ماذا طلب الأستاذ ، كى نرسم له
فقال : الكلب ..
فأخذت قطعة من الطين وبسرعة هائلة رسمت كلبا وجئت إليه ،فرحا أستاذ كلب ، أستاذ كلب .
فأول ماجئته سطرني كفا شعرت أن شهابا وقع على عينى ووجهي ،ثم أمسك
بيدى وكان بجانبه صندوق خشب للشاي رقيق الخشب اللدن فانتزع منه
ماشاء وبدأ بضرب يدي اليمنى حتى تعبت ثم اليسرى حتى تعب هو وتخدّرت هي .
ولم أبك أبدا لأن البكاء كان عيبا في قاموسنا ولاسيما أنني غريب على تلك المدرسة .
ثم تركنى فانزويت بعيدا عن الطلاب وبكيت بكاء مرا ، وعدت أدراجي إلى
قريتى ولم أعد إلى تلك المدرسة مطلقا .
ولكن نفسي كانت تتوق للعلم ، فجاءني أحد أصدقاء أبي وقال : لى هناك
مدرسة دينية سلفية يديرها هنود بسامطة ومعترف بها فلوذهبت إليهم
وراجعت القرآن وحفظه ، وحفظت الأربعين النووية ووكتاب كشف الشبهات
والأ صول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب لمنحوك الشهادة الابتدائية ، ثمّ
تسافر إلى المدينة وتكمل دراستك بمعهد دار الحديث ثم الجامعة الإسلامية
خير لك من الجلوس والتمله بين الولائد هنا بدون فائدة .
فاستحسنت الفكرة وأعطاني هو نفسه الكتب فحفظتها وأخذني مشكورا لتلك
المدرسة بمحافظة صامطة بجازان فاختبرت ونجحت ومنحت الشهادة
الابتدائية بدرجات المواد في خلال ساعتين كان الاختبار حفظا شفويا ومقابلة
شخصية مع أولئك الهنود ، القراء والعلماء ، وسجلوني في سجلّ الخريجين
ومنحوني شهادة مختومة ومصدقة ، ثم طرت إلى المدينة ودخلت مدرسة دار
الحديث المتوسطة.
ووجدت من مديرها سعيد حلاّة ووكيلها عمر حلاّبة كل رعاية واحترام وكانوا نعم العون للطلاب حميعا .
والثلاث السنوات تجاوزتها في سنتين فقط ، لأن النظام في ذلك الوقت يسمح
لك في العطلة الصيفية التسجيل في فصل دراسي كامل والاختبار في جميع المواد .
فلونجحت تنقل للفصل الذي بعده مباشرة ، فأكملت المتوسطة في سنتين
وكان رئيسنا العام فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
ودخلت المعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية ، ثم تخرجت منه ، ولى رغبة
شديدة في كلية الشريعة . على عهد عميد الجامعة عبد المحسن العباد .
وكان رجلا نظيفا وعفيفا وزاهدا وعالما وخيّرا محبّا لطلبة العلم
وكنت أتمنى لوكنت قاضيا ، ولكن عمادة الجامعة شكلت لجانا حسب درجات
التخرج فكانت درجاتي الأدبية أكثر من الدينية .
أي اللغة العربية المطالعة والإنشاء والنحو والصرف والأدب وتاريخه ونقده.
أما من هو في الحديث وروايته ومصطلحه فكلية الحديث .
ومن هو في التفسير والتوحيد واتاريخ فكلية الدعوة وأصول الدين
ومن هو في الفقه وأصوله والفقه المقارن فكلية الشريعة .
فكان نصيبي في كلية اللغة العربية .
فهدأت وقبلت بها على مضض ، وكنت أشغل نفسي بنشاط الكلية الصحافة والإذاعة والرياضة والرحلات ، وكانت ناشءة ونحن من أوائل الخريجين نعتبر النخبة فشدو علينا بالدرجات بهدف نكون عبرة لمن بعدنا حتى يعرفوا صعوبةاللغة
ولم أتفرغ قط للدراسة ولم أعرها الاهتمام الكافي .
وكان الدكاترة يطبلون لى كل يريدني في زاوية نشاطه ، والكل يضرب
على
صدره بمساعدتى ، فصدقت قولهم حتى عميد الكلية التزم لى بكل ما أريد وفي الأخير.غض طرفا عني غفر الله له
وعدوني جميعا بإكمال دراسة الماجستير ولكنني نقصت أربع درجات عن
التقدير المطلوب ، فاستبعدوني وكان كلام عميد الكلية غفر الله له ، أحمد الله
أنك تخرجت .
فكتبت قصيدة في ذلك العميد بعنوان .
كريم الأصل لاينسى الودادا ... وإن سكن الحضارة أو تبادى
إذا أخفقت في طلب المعالى ... فنفسي كابدت والحظ حـــاد ا
سلام الله يادرسي وفصلي ... ســلام مــودع بالشـعــر جـادا
وأرسلتها إليه فأرسل إلي أن الكلية مفتوحة لك في أي وقت تريد مشاركتها
رحلاتها ومناسباتها .
فقلت مشكورا.
لن آتيها سوى للسلام على أساتذة الكلية
أما بالنسبة للمشاكل مع الطلاّب فكنت مسالما ومحبوبا بصفتى رياضيا
وبطل الكلية ونادي أحد بألعاب القوى الركض والدراجات والسباحة
وهذا ماشفع لى عند جميع زملائى .
وبالنسبة للغش في الاختبارات كان في زمننا يعنى الفصل مطلقا وبدون
مراجعة .
لأنهم يعدوننا للقضاء والدعوة والإرشاد ، ويطبقون نظرية من غشنا فليس منّا
وكنا ملتزمين بهذا السلوك وعندنا رغبة أكيدة في التنافس وطلب العلم .
فلم أر من يغش مطلقا .
آمل أن تكون قلوبكم قد اتسعت لنا فإنني سعدت بهذا الموضوع وأبحت لكم
أسرار نفسي وما علق بذاكرتي أثناء دراستى
ودمتم بخير ..