ونحن في شهر الصيام نريد أن نقف وقفة بسيطة عند حديث كريم للنبي لتعرفوا معي جميعاً مبلغ إعجاز هذا اللسان الشريف ومبلغ حكمة هذا النبي الكريم الذي قال عنه مولاه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} كثر الكلام في أيامنا وقبل أيامنا وسيتوالى بعد أيامنا عن الحكمة من فريضة الصيام لماذا أوجبه الله علينا؟ولماذا قضاه الله علينا؟وكل واحد من العلماء يتحدث عنه بطريقته فأهل العلم الديني يتكلمون عن حكمته الشرعية وأهل الوعظ يتكلمون عن حكمته في غفران الذنوب وستر العيوب وفي تقريب الإنسان لحضرة علام الغيوب وأهل الطب يتكلمون عن حكمته في علاج الأبدان والأجسام وأهل الأمراض النفسية والعصبية يتكلمون عن حكمته في إزالة التوتر والضغط من نفوس الصائمين وإكسابهم الصحة الروحانية والسعادة النفسية التي لا ينالها الإنسان إلا في مصحة شهر رمضان وكل هذه الأمراض وغيرها جمعها رسولكم الكريم في كلمتين نستطيع جميعاً أن نحفظهما بل إن صبياننا يستطيعون حفظهما في يسر وسهولة ماذا قال؟ قال {الصَّوْمُ جُنَّةٌ الصَّوْمُ جُنَّةٌ الصَّوْمُ جُنَّةٌ }[1] هذان اللفظان جمعا كل أسرار فريضة الصيام التي من أجلها أوجبها علينا الملك العلام وكلمة جُنَّة يعني وقاية ويعني حفظ ويعني أمان وطمأنينة فالصوم جُنَّة من الأمراض الجسمانية ووقاية من المتاعب النفسية وعناية للمجتمعات من المشاكل والخلافات ووقاية للصدور من الأحقاد والأحساد والغل والطمع والبغض مما يجعل الجميع يعيشون في محبة ووئام والصوم وقاية للصائم من نار جهنم والصوم صيانة للصائم من عطش يوم القيامة فإن الصائمين يكرمهم رب العالمين فيسقيهم من حوض سيدنا رسول الله الكوثر شربة هنيئة مريئة لا يظمئون بعدها أبداً في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة والصوم وقاية من نار الله والصوم وقاية للجوارح من الوقوع في غضب الله وفي سخط الله وفي مقت الله وفي عقاب الله والصوم وقاية لكثير وكثير من الذي لا نستطيع أن نفصّله في هذا الوقت حتى لا تملّوا ويكفينا أن نشير إلى بعض نقاط منها وهي التي نحن جميعاً في أشد الحاجة إليها فقد قالت السيدة عائشة {أول بدعة حدثت بعد رسول الله الشبع إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى الدنيا }[2] أي فاستطالوا في معاصي الله وفسر هذا الأمر الإمام علي فقال{ما ملأ آدمي بطنه إلا همّ بمعصية قالوا ولِمَ؟ قال: لأن العروق والأوداج إذا شبع الإنسان امتلأت بالدم وعندها إن لم يوفقه الله لطاعته فسيفكر في معصيته} ومن هنا كان الصيام وقاية لنا جميعاً من الذنوب والآثام وقد قيل أن الله أول ما خلق النفس دعاها وقال لها من أنا؟ ومن أنت؟ فقالت أنت الله الواحد القهار وأنا النفس ولكن من الأدب أن لا يرى الإنسان أو النفس أو القلب شيئاً لأنفسهم في حضرة الله لأنه يوم القيامة سينادي على الجميع ولا يرد أحد عليه من عظمته وهيبته عندما يقول {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه فيقول {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وعندها حبس الله النفس عن شهواتها وملاذها وعن أهوائها وجوعها ثم أوقفها بين يديه وسألها: من أنا؟ ومن أنت؟ فقالت: أنت الواحد القهار وأنا لا شئ يا الله في حضرة عظمتك وجبروتك فالإنسان إذا صام تطهر الأعضاء وتسكن عن العصيان وإذا همَّ فإن القلب يكون يقظاً فيردها بسرعة إلى حضرة الله فالصيام يقي الإنسان من الذنوب والمعاصي ولذا قال النبي {إذا كان أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ ومَردَةُ الجِنِّ وغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النِيران فلم يُفْتَحْ منها بابٌ وفُتِّحَتْ أبوابُ الجَنَّةِ فلم يُغْلَقْ منها بابٌ }[3] فأبواب الجنان في الجنة تفتح وأبواب النيران تغلق عن الصائمين لكن ما بال العصاة والمذنبين لا يرجعون إلى الله وقد صفدت الشياطين وسلسلت الشياطين وأمر الله جبريل وقال له: يا جبريل صفد مردة الشياطين وألق بهم في لجج البحار حتى لا يفسدوا على أمة حبيبي صيامهم وقيامهم إذاً الذي يقتل في رمضان والذي يظلم في رمضان والذي يسب ويشتم في رمضان من أين له هذا؟من نفسه وليس من الشيطان لأن الشيطان مسجون سَلْسَله الله وسجنه في قيعان البحار وإنما من النفس فإذا وفق الله العبد الصالح للصيام وسجن له نفسه وحفظ له نفسه من لمّاتها ومن صفاتها السيئة ومن أحقادها الشريرة فإن هذا العبد يفتح الله فيه الأبواب التي تدخله جنة الله ويغلق الله فيه الأبواب التي تدخله نار جهنم أين هذه الأبواب؟ أبواب الجنة فيك وأبواب النار فيك فالعين: إذا تلوت بها كتاب الله أو نظرت بها إلى الفقراء والمساكين لتوصل إليهم ما حباك به الله فهي باب لك إلى جنة عرضها السموات والأرض لكنك إذا نظرت بها إلى النساء في الطرقات أو تحسست بها العورات أو تحسست بها على الآمنين فإنها تفتح لك باباً من أبواب الجحيم واللسان إذا ذكرت به الله أو سبحت الله أو استغفرت الله أو كبرت الله أو هللت الله أو أمرت به بمعروف أو نهيت به عن منكر أو نصحت به مؤمن أو خففت به عن مصاب فهو باب لك من أبواب الجنة وإذا سببت به أو شتمت به وعبت إخوانك به وتغامزت به وأوقعت بين الناس بالنميمة به فهو باب من أبواب جهنم قال النبي { لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ ولاَ اللَّعَّانِ ولا الفَاحِشِ ولا البَذِيِّ}[4] وكذا الأذن إذا سخرتها في سماع كلام الله أو سماع حديث رسول الله أو دروس العلماء العاملين أو قبول النصيحة من الموحدين فهي باب من أبواب جنة رب العالمين وإذا سخرتها في سماع الغيبة والنميمة والكذب والزور دخلت في قول الله{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}وتقول لا شأن لي وأنا لا أتكلم وقد ورد في الأثر المشهور {السامع والمغتاب في الإثم شريكان} فإذا وظفتها في هذه الأعمال صارت باباً إلى النار وقس عل ذلك اليد إذا فعلت بها معروفاً أو واسيت بها فقيراً أو قضيت بها حاجة لمؤمن ابتغاء وجه الله أو استخدمتها في الركوع والسجود بين يدي الله أو أطعمت بها جائعاً أو كسوت بها عارياً ابتغاء فضل الله أو حتى وضعت بها لقمة في فم زوجتك أو في فم ولدك ابتغاء مرضاة الله فهي باب من أبواب الجنة أما إذا سرقت بها أو قتلت بها أو ظلمت بها فهي باب من أبواب الجحيم والرجل إذا مشيت بها إلى بيت الله أو سعيت بها لصلة الأرحام أو مشيت بها لزيارة الأيتام أو عُدْت بها مريضاً أو شيعت بها جنازة مؤمن أو مشيت بها للصلح بين المتخاصمين فهي باب من أبواب جنة الله لكن إذا مشيت بها إلى مجالس السوء واللهو أو مشيت بها إلى مجالس حذّر منها الله ونهى عنها سيدنا ومولانا رسول الله فهي باب من أبواب الجحيم وكذا البطن إذا غذّيتها من حلال وأطعمتها اللقمة التي رزقها الله وأمر بها سيدنا رسول الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}ومنعتها عن الشرور والفجور فهي باب من أبواب الجنة إذا أطعمتها من كدّي أو من عملي أو من ميراثي أو من عمل أحلّه الله طعاماً أباحه لي الله وإذا ألقيت فيها لقمة من الحرام أو ألقيت فيها لقمة من الربا أو لقمة ظلم فقير أو مسكين أو غيرها أو بلقمة غش لأحد من المسلمين في بيع أو شراء أو تجارة أو أودعت فيها ما حرم الله من أصناف المسكرات والمفترات كالبيرة أو الحشيش أو الأفيون أو غيرها فهي باب من أبواب الجحيم فأبواب النار فيك وهي العين والأذن واللسان واليد والرجل والفرج والبطن إذا استعملتها في معاصي الله وهي سبعة كما قال الله{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ}وإذا استعملتها في طاعة الله لا تستطيع فعل ذلك إلا إذا صلح القلب وانضم إليها وتصرف فيها فأصبح مهيمناً عليها فتصبح ثمانية بأمر الله وأبواب الجنة ثمانية كما أخبرنا سيدنا رسول الله فقال {إنَّ فِي الْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الصَّائِمُونَ هَلْ لَكُمْ إلَى الرَّيَّانِ مَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَظْمَأْ أَبَداً فَإذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ}[5] وقال {الصِّيامُ جُنَّةٌ فَاذَا كان أحَدُكُمْ يَوْماً صَائِماً فَلا يَجْهَلْ وَلا يَرْفُثْ فإنِ امْرُؤٌ قاتلهُ أَوْ شَتَمَهُ فَلْيَقُل: إِنِّي صائِمٌ إِنِّي صائمٌ}[6] فإذا صام الرجل منا في هذه الدنيا صام كما أمر رسول الله {فليصم سمعك وبصرك} ولسانك عن الكذب والمعاصي وحفظ جوارحه من الوقوع في الزلات وأقبل على طعام أحله له الملك العلام فإن مثل هذا يغفر الله له كل ما تقدم من ذنبه يحفظ الله له كل المحاضر التي سجلها عليه ملك الشمال ويضاعف الله له كل الأجور التي أثبتها له وكتبها له صاحب اليمين لأنه صام الصيام الصحيح لله أما الذي يصوم عن الأكل والشرب والجماع لكنه يجلس في الشارع والطريق يتكلم عن فلان وعن فلانة بالغيبة أو النميمة هذا صائم في نظر نفسه مفطر عند ربه لأنكم جميعاً تعلون قصة المرأتين اللتين جلستا في عصر رسول الله يغتابان الناس والغيبة هي الكلام في حق الآخرين بكلام يكرهونه إذا اطلعوا عليه. والنميمة هي الوقيعة بين الناس{أَنَّ ٱمْرَأَتَيْنِ صَامَتَا وَأَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَاهُنَا ٱمْرَأَتَيْنِ قَدْ صَامَتَا وَإنَّهُمَا قَدْ كَادَتَا أَنْ تَمُوتَا مِنَ الْعَطَشِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَوْ سَكَتَ ثُمَّ عَادَ وَأُرَاهُ قَالَ: بالْهَاجِرَةِ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهُمَا وَاللَّهِ قَدْ مَاتَتَا أَوْ كَادَتَا أَنْ تَمُوتَا؟ قَالَ: ٱدْعُهُمَا قَالَ: فَجَاءَتَا قَالَ: فَجِيءَ بِقَدَحٍ أَوْ عُسٍّ فَقَالَ لإحْدَاهُمَا: قِيئِي فَقَاءَتْ قَيْحاً وَدَماً وَصَدِيداً وَلَحْماً حَتَّى مَلأَتْ نِصْفَ الْقَدَحِ ثُمَّ قَالَ لِلأُخْرَىٰ: قِيئِي فَقَاءَتْ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ وَصَدِيدٍ وَلَحْمٍ عَبِيطٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى مَلأَتِ الْقَدَحَ } فأخذوه إلى معمل التحليل النبوي فنظر فيه بالميكروسكوب الرباني الذي أعطاه الله له {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} نظر بالبصيرة النورانية وأخرج نتيجة التحليل وقال {إنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمَا - لأن الأكل حلال والشرب حلال وجماع الرجل لزوجته في غير الصيام حلال - وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا جَلَسَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الأُخْرَىٰ فَجَعَلَتَا تَأْكُلاَنِ مِنْ لُحُومِ النَّاسِ}[7] الغيبة أكلٌ أن يأكل لحم أخيه ميتاً أكل كما وصفه الله ولو ضغط الإنسان على نفسه وصام وأخذ يتطلع إلى الغاديات والرائحات فإنه صائم عند نفسه مفطر عند ربه فيقول لي هل أمش في الطريق أعمى لا أنظر؟فأقول له قال رسول الله{لَكَ الأُولى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَة}[8] النظرة الأولى مباحة لك لكن الأولى ليست خمس دقائق ولا ربع ساعة الأولى لمحة تعرف بها من هذه أو زوجة من؟أو ابنة من؟لكن النظرة التي تصورها بها من أعلى إلى أسفل هذه هي النظرة المحرمة التي نهانا عنها الله ولو أمسكت نفسك ومنعتها من هذه النظرة ففي الحال يطعمك الله في فؤادك وقلبك حلاوة ليس لها نظير في دنيا الناس قال النبي{النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُوْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيْمَاناً يَجِدُ لَهُ حَلاَوَتَهُ فِي قَلْبِهِ }[9] ومن أمسك على نفسه طوال النهار صائماً ثم افطر على لقمة حرام هذا يقول فيه رسول الله {إنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلٌ أَرْبَعِينَ يَوْماً}[10] فما بالكم بمن ملأ بطنه هذا يقول فيه {وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فَٱلنَّارُ أَوْلَىٰ بِهِ}[11] هذا هو الذي يقول فيه الله {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فإذا أردت أن تكون ولياً لله يستجيب لك إذا سألت ويحقق رجاءك إذا رجوت ماذا عليك؟سأل هذا السؤال سيدنا سعد فقال يا رسول الله: ادعوا الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فلم يكلفه بعبادات لا بصلاة ولا بتلاوة قرآن ولا بأذكار وإنما كلفه بأمر واحد قال فيه {يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ}[12]
[1] أخرجه البخاري عن معاذ بن جبل[2] سبل السلام وإحياء علوم الدين[3] رواه أحمد في مسنده وابن خزيمة في صحيحه والنسائي في سننه والبيهقي في سننه والبخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة[4] رواه أبو يعلى في مسنده والبزار والترمذي والدار قطنى عن ابن مسعود[5] رواه ابن ماجة في سننه والنسائي في سننه وأحمد في مسنده عن سهل بن سعد[6] رواه أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده والنسائي في سننه عن أبي هريرة[7] رواه أحمد واللفظ له وابن أبي الدنيا، وأبو يعلى[8] رواه البزار والطبراني في الأوسط وأحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه وأبو داود في سننه عن علي بن أي طالب[9] رواه الطبراني عن عبد الله بن مسعود[10] رواه الطبراني في الصغير عن ابن عباس[11] ورد في جامع الأحاديث والمراسيل عن أبي بكر رضي الله عنه.[12] رواه الطبراني في الصغير عن ابن عباس.
منقول من كتاب [الخطب الإلهامية رمضان وعيد الفطر]
http://www.fawzyabuzeid.com/table_bo...طر&id=39&cat=3