القرنفلة
كادت تضحك. أنت؟ ماأصغر الآخرة! وكاد هو أيضا يضحك: أنت؟! تركها وكل منهما في المدرسة بعد. اختفت يومذاك، ولم يعرف مكان بيتها الجديد. خطؤه أنه ظنها باقية في ذلك الحي! كان صغيرا، فلم ينتبه إلى تنقل الناس في مدينته، مع أنه سمع حوار أمه وأبيه. قالت أمه: لم يبق في الحارة أحد نعرفه. باع أهل الحارة بيوتهم، أو أخذوا "فروغها"، وانتقلوا إلى أحياء بعيدة. بالفرق بين ثمن البيت هنا وبين ثمنه هناك اشتروا بيتين أو بيتا ودكانا أو شاركوا في مشاريع. لماذا لانكون مثلهم؟
كان فتيا فلم يتصور أن البنت الجميلة التي تمر كل يوم على رصيف بيته، يمكن أن تنتقل من ذلك الحي. لم يفهم أن المخازن الجديدة التي انتشرت في حارته تعني أن المنطقة غيرت صفتها "من سكنية إلى تجارية". لاحظ أن الستائر نزعت عن نوافذ الطابق الأول من البيوت، وأن الأبواب أغلقت بأخشاب دقت بالمسامير. وأن تلك البيوت بقيت مهجورة زمنا، ثم حضرت الورشات وهدمت جدرانها. ثم رفعت بوابات ذات قناطر، وظهرت مخازن كسيت بالخشب والرخام. فأصبحت البيوت القديمة ذات الأخصاص والسطوح القريبة من الأرض، غريبة في حيها. صارت تبدو فقيرة ومسكينة كأنها تنتظر من يشتريها ويكسوها لتليق بما يجاورها.
ناولته أمه ذات يوم علبة من الكرتون وقالت له: اجمع أغراضك وضعها فيها. بعنا البيت! فهل كان يستطيع أن يعترض؟ وماأهمية أن يبقى في ذلك البيت بعد أن فقد أصحابه وأولاد جيرانه الذين انتقلوا إلى أحياء جديدة؟! أعطوه عناوينهم يوم رحلوا، وحاول أن يزورهم فركب باصات وسرفيسات إلى أحياء لم يرها من قبل. تاه، وسأل المارين وأصحاب الدكاكين، وصف شكل أصحابه وشكل آبائهم، لكنه لم يهتد في يسر إلى تلك البيوت. كان أصحابه سكانا مجهولين في تلك الأنحاء.
لذلك انقبض قلبه. سيكون هو أيضا مجهولا هناك، لايسلم على صاحب الدكان، ولايصادف أولاد الجيران في الطريق. كم مرة وقع في هذا الحي على الأرض فهرع إليه الجيران ودهنوا جرحه باليود وضمدوه دون أن ينادوا أهله! كم مرة فتق قميصه وهو يلعب في الحارة، فخاطه أو رتقه الجيران دون أن يخبروا أهله! حدث أن كسر زجاج نافذة في أحد البيوت وهو يلعب بالطابة مع أصحابه! هرب مثلهم وابتعد عن البيت. فركّب أبوه زجاجا جديدا للنافذة المكسورة، وأرسله ليعتذر عما جنى. فسقاه الجيران شراب الورد، شرابا أطيب من الشراب الذي تحضره أمه! أيمكن أن يجد في الحي الجديد البعيد مثل اولئك الجيران؟
نظر إليها وهما يمشيان تحت السرو، وقال لنفسه: بريق عينيها لم يتغير! وتذكر أنه كان مسحورا به. وحكى لها كيف رتب أغراضه في العلبة التي تناولها من أمه، وانتقل إلى حي بعيد جديد لاأصحاب له فيه. في ذلك العمر تطلب القدمان والعينان مساحات واسعة. يتسلق الفتى الأسوار والأشجار، يقصد الجبل البعيد ليكتشف الصخور والمغاور، يركب الدراجة مع أصحابه ويبتعد عن حارته إلى الربوة، يسبح في النهر سرا ويحاول أن يخفي وجهه الذي لوحته الشمس، ولايمنعه التأنيب من العودة إلى النهر. يكتشف البساتين والأنهار. فكيف يقيد ببيت صغير في بناء، يحتج الجيران فيه إذا جر كرسيا، أو رمى ورقة مشتعلة من النافذة!
هي؟ فقدت يومذاك السطح! كانت تصعد إلى السطح، وترى البلد من مرتفع. تجلس على سقف الدرج، وتنزلق متزحلقة. تتسلق القرميد وتتفرج على حدائق الجيران من فوق. تغرف الماء من برميل الماء على السطح وتسكبه على نفسها وقت الحر، أمام المدينة والسطوح والحمام الذي يدور في السماء، والغسيل المنشور. السطح مملكتها. وقد فقدتها! السطح في البناء الجديد مشترك بين الجيران كلهم. قد يخطر لأحدهم أن يتفقد المدخنة، وقد يخطر لآخر أن ينشر الغسيل، وهي هناك. يراقب سكان الطابق الأخير كل حركة على السطح. تزعجهم الضجة! ممنوع النط على الحبل! بل يشعرون حتى بالخطوة المتسللة! على كل حال، هل تستطيع أن تتحرك في حرية على سطح فيه صواني المربى على الأرض، وفيه الغسيل منشور على الحبال؟
نظر إليها وابتسم: أنت داويتني يومذاك! لو كان في الدنيا، أكان يجرؤ على البوح كما يبوح هنا ببساطة ويسر؟! بحث عنها وقت خروج الطالبات من المدارس. كان يقصد في كل اسبوع مدرستين! يظل واقفا أمامهما حتى تنصرف جميع الطالبات ويغلق الباب. مرة ناداه أبوه وسأله: ألا تظن أنك بكرت في متابعة بنات المدارس؟! وصله إذن الخبر!
ماذا قلت له؟
- لم أستطع أن أعترف له بأني منذ سنوات أتابعك!!
ابتسمت:
- هل أخذت قائمة بأسماء المدارس من مديرية التربية؟!
- تسخرين مني؟ جردت من المدارس مااستطعت!!
لم يترك فرصة غاب فيها أستاذ أو أجّل درس، إلا أفاد منها! بعد إحدى المسيرات سألوه في المدرسة: لماذا هربت؟ ولم يوفق إلا بكذبة يتداولها الطلاب: دخت! لكن هل كنت أكذب؟
- دوختني ياليلى! جعلتني مثل قيس!
ضحكت ضحكتها نفسها ذات الرنين! الضحكة التي أطل على صوتها من النافذة، فرآها أول مرة وهي تعبر بيته مع زميلتها. يومذاك نظر إلى الساعة وحفظ الموعد، واليوم. كتبت ذلك على الجدار. أعلنت أسرارك على الجدران؟ لا، لايستطيع أن يفك تلك الشيفرة غيري! كنت أكتب ماأريد مقطّعا، كلمة فوق، وكلمة تحت، وأخرى مائلة حولاء! هل تركت شيفرتك في البيت القديم؟ تركتها كي يشقوا في حلها! مسكين! طار البيت! مررت به، فلم أعرف أنه كان هناك. لم يتركوا شيئا منه. لم يتركوا حتى شجرة الكينا أمامه! لولا المخزن المقابل له لما استطعت أن أحدد مكانه! إذن عدت إلى هناك؟ طبعا عدت! تصورت أنك سترمي علي قرنفلة أخرى!
تبوح هي أيضا في يسر! لو كانت في الدنيا لما جسرت على البوح! عادت باحثة عنه. لاتتصور أن ذلك كان سهلا! ركبت باصين! في المرة الأولى كان البيت موجودا، وستائر النافذة ماتزال هي نفسها تلك الستائر المطرزة. ولكن ماذا يمكن أن أفعل؟ هل أقف مقابل بيتك حتى تظهر؟ ضحك: كما وقفت أمام المدارس! قالت: لاأستطيع ذلك! لكني عبرت الطريق مرتين وأنا أحدق في الأرض كأني أبحث عن شيء ضاع مني! فنادتني امرأة من النافذة: يابنتي، ماذا ضيعت؟ قلت لها: قلم الحبر! فأرسلت ابنتها لتبحث معي عنه! عبرنا الطريق مرة ثالثة.. ولم نجد القلم!! ابتسم: كنت أبحث عنك في أمكنة بعيدة، وأنت تبحثين قرب بيتي عن القلم!! عادت فيما بعد إلى هناك، لكن البيت نفسه كان قد طار، ولم تلمح في أية نافذة من البناء الجديد الستائر المطرزة، ففهمت أنه ضاع.
كان يمكن أن يصادفها أو أن تصادفه في مركز البلد، في الشعلان مثلا، في سوق الحميدية مثلا.. لكنهما لم يلتقيا أبدا. كان يقال: الدنيا صغيرة! لا، أقول: الآخرة صغيرة! تضحك ويضحك! قالت لي أمي: عيناك زائغتان! لو لم أكن أعرفك، لقلت إنك تبحثين عن شخص! سألني أبي وأنا أركض إلى النافذة: أيذهب بعقلك صوت امرأة؟! ركضت يومذاك إلى النافذة لأني سمعت صوت ضحكة خيل إلي أنها ضحكتك! كان ذلك بعد عشر سنوات على فراقنا. بعد عشر سنوات تتذكر ضحكتي التي سمعتها مرة واحدة؟ ستسخرين مني إذا اعترفت لك بأني رفعت غطاء التابوت وأطللت منه وقت سمعت صوتا يشبه صوتك!
ياللمبالغة! لكن اعترافه ممتع! مرت سنوات طويلة دون أن تسمع مثل هذا الحديث الشيق! جلست على حجر تحت شجرة سرو، وجلس قربها. وتذكرا ذلك اليوم الأول. كانت تمشي مع رفيقتها، راجعتين من المدرسة. كانت تلبس مريولا أزرق، وجوارب قصيرة بيضاء، وكانت على رأسها شريطة بيضاء، وحول رقبتها قبة بيضاء مطرزة. كانت تحمل دفاترها بيدها. كان ذلك آخر يوم من أيام السنة المدرسية، والصيف مايزال طويلا أمامها، وماتزال تتوهم أنه سيتسع لما تعجز عن استيعابه مئات السنوات. لم تكن تحتاج إلى قصة مضحكة كي تضحك. وقتئذ رنت ضحكتها، ضحكة سمعها من غرفته التي تطل على الطريق. كأن نافورة البيت فتحت فجأة! كأن أمه غنت فجأة! كأن جارته أمسكت بالعود فجأة! مدّ نصف جسمه خارج النافذة ليتابعها وهي تمشي مع زميلتها. وظل ينتظرها حتى انتهى الصيف وعادت إلى مدرستها.
صار يركض ليتجاوزها. يسرع ليعود ويعبرها وجها لوجه. لكنها لم تنتبه إليه! فانتظرها مرة في نافذته حتى مرت تحتها، وعندئذ رمى عليها قرنفلة حمراء. تدرب زمنا طويلا، واستعان بزميله كي تسقط القرنفلة تماما أمامها. تدرب حتى اتسخت القرنفلة! في البرهة المنتظرة قطف من الإصيص أجمل قرنفلة وجلس ينتظرها. ونجح! وقعت القرنفلة الحمراء أمامها تماما. رفعت رأسها، متلفتة تبحث عمن رماها. آه، لاتنتبه إليه، تبحث في اتجاه آخر! مدّ نفسه من النافذة وقال: أنا! أنا رميتها! فضحكت، ضحكت، ضحكت وهي تنظر إليه. ثم وضعت ذراعها في ذراع زميلتها ومشت مبتعدة!
لم ترفعي رأسك إلى النافذة فيما بعد أبدا! لم أرفعه، لكني كنت أنظر من بعيد إلى نافذتك! لم ترفعي رأسك أبدا حتى عندما كنت أمد نفسي منها! قالت: كنت أسمع أمك تحذرك: ستقع ياقيس!! ضحكت، ضحكت، ضحكت وهي تنظر إليه: هانحن التقينا أخيرا! يكاد يشعر بالحزن وهو يرد: هنا؟! ضيعنا هناك، لنكسب هنا؟! ابتسمت. الحزن ممنوع هنا، وكذلك الندم !