بسم الله الرحمن الرحيم ..
* موضوع لـ أصحاب النفس الطويل !
شارعٌ يخلو من الأحياء لاشيء يتحرك سوى الشجر التي تتراقص على عزف الهواء ، ورجلٌ مسن وحيداً أحنى الزمن ظهره وصنعت الحياة على محياه التجاعيد وعروق مضخمه على يداه
وشعر كثيف مزّق جلد وجهه ليخرج منه لحى بيضاء ورمادية وعصا متشبث بها لا يكاد يفارقها أشبه بإن تكون إحدى أعضاء جسده والهدوء يشع من تصرفاته مشيت تجاهه ووقفت بجانبه
فلم يحرّك ساكناً فألقيت عليه السلام و رد السلام دون أن يلتفت إلي فسألته عن حاله وأخبرني بإنه بخير طالما أنه على قيد الحياة ، أثارني الفضول وأقحمت سؤالي على ساحة حوارنا
(مالذي يجعلك واقفاً هنا في ظل هذا الجو الصامت وعدم وجود الناس؟) ثم ألتفت نحوي وخديه ترتفع قليلاً ومع إرتفاعها بدأت عيناه تضيق شيئاً فشيئاً كانت إبتسامة لطيفة منه
فأجابني (نحن نرى الحياة بصورتها الحقيقة حينما نكون لوحدنا) فقلت (كيف ذلك ؟) أجابني ((( إذهب إلى البحر مع اصدقائك ثم إذهب إلى البحر وحدك ، مالفرق ؟ حتماً هناك فرق ، فحينما
تذهب وحدك إلى البحر فإن عيناك تتسع أكثر وعقلك يدرك أكثر حول صورة الحياة ، وحينما تذهب مع أصدقائك فإنك تنشغل بالمرح معهم وتضع رؤية الحياة آخر إهتمامك "هذا في حالة وضع
رؤية الحياة من ضمن إهتمامك أساساً هه" .. هكذا يكون تعاملنا مع الحياة بشكلٍ عام فهي تنظر لنا وتبرز مفاتنها ونحن للأسف لا نبالي بها ، فإن ذهبت إلى البحر يابُني مع أصدقائك فلن تنعم
برؤية الطبيعة المذهلة ولكن حالما تذهب لوحدك قُبيل الصباح فإنك ستستمتع برؤية ولادة الشمس من بطن البحر والسماء يتبدل لونها وستستمتع برؤية السماء وهي تتقلد الشمس على
صدرها .. هي مناظر رائعة لكنها للأسف عن الأنظار غائبة .. الله سبحانه وتعالى خلق الطبيعة للتفكر بها بقوله تعالى :
(إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ .الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ . رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ)
التمعن في الطبيعة تساعد على تقوية الإيمان بأن هذه الطبيعة المذهلة لم تتواجد هكذا نتيجة لإنفجار العظيم أو ما شابه فالتمعن بها تساعد على عدم سيطرة الإلحاد على الفكر ..
أتعلم يا بُني ماهو الخطر الأكبر ؟ [ الإنتحار .. والإلحاد ]
لا تظن بإنه في أوطاننا لا يتواجد الملحد والراغب في الإنتحار بل هم يتواجدون لكن لا يظهرون ذلك بالعلن ، هناك من يخرجون من رحم أمهاتنا ملحدين ومنتحرين هم فئة من الواجب علينا
تسليط ضوء إهتماماتنا عليهم لإن مسألتهم لا تتعلق بالدنيا وحسب بل مسألتهم تتعلق بالآخرة بالحياة المخلدة بالعذاب الأبدي فعلينا إنقاذهم قبل فوات الأوان وأن ينتقلوا إلى مدينة الراحلين
نحن أضعنا ترتيب الأولويات فبدلاً أن ننشغل بالأساسيات أنشغلنا بالفرعيات فما زالوا بعض المشائخ يقومون بتكوين أحزاب بداخل أحزاب متناسين الهموم الخفيّة التي على عاتق البعض منا
ولا زالوا يتطاحنون بعضهم بعضا واللجوء إلى القضاء ليحتكم أحدهم على الآخر .. للأسف تفرغوا للشخصنة !
فوالله أشفق على حال المنتحر والملحد .. فالأول يعلم بإنه ذاهب إلى النار ويظن بإنه قادر على تحملها ، فكيف يكون قادراً على تحمل عذاب النار وهو لم يقدر على تحمل حال الدنيا ؟
وأما الآخر فالتساؤلات قادته للإلحاد .. نحن جميعنا لدينا تساؤلات حول الحياة والإله والدين ولكن نستعذ بالله ونكمل طريق حياتنا
والآخرون يقفون عند هذه التساؤلات (وهي أولى مراحل الألحاد) فيصيبهم الفضول .. فمن أسباب الإلحاد أيضاً هو الشخص الذي يبحث بالإنترنت عمن يجيب على تساؤلاته الفكرية ويجد
صفحة تتحدث عن الإلحاد والرد على الإسلام فيدخل هذه الصفحة ويقرأ مافيها ويجد أُناس كثيرون يتشاركون بنفس التساؤلات من ثم يصل لمرحلة الشك (وهي ثاني مراحل الإلحاد) .. وبعد
ذلك سيجد الأجوبة ويعيش تحت ضغوط الحيرة مابين التساؤلات والإجابات ويظل يقلّب الشكوك ويتفكر بالإجابات يوماً بعد يوم ،، ويدخل هذه المواقع بشكلٍ مستمر وتزيد نسبة الإلحاد لحظةً بعد
لحظة إلى أن يتخذ القرار الأليم ويقطع الشك باليقين ويعتنق الإلحاد .. هكذا الإلحاد تساؤلات ثم تكبر وتتحول إلى الشك وبعد ذلك يُصبح يقيناً .. فكرة باحها شخص في الإنترنت وقرأها الآخر
فآمن بها .. هكذا تكون الفكرة فهي كالفايروس تتنقل مابين عقلٍ وعقل دون أن نلحظ .. والإنسان تركيبته اللامرئية أعقد بكثير من تركيبته المرئية كأعضاء الجسم ووظائفها وما إلى ذلك ..
السؤال هو : لماذا ألحد ؟ ببساطة لإنه لم يجد أحداً يُفهمه الإسلام بشكلٍ أوضح .. والمسؤولية هنا تقع على كاهل المشائخ وأصحاب القنوات وأصحاب الصوت المسموع ..
فالضجيج كله الآن حول الليبراليين والمتشددين والسنة والشيعة والنهضوي والجامي متناسين تلك الفئتين الصامتتين ، بكل أسف هنا تسلط كامل إهتمامتنا ..
يابُني نحن لا نستوعب فهم ما يشرحه لنا عالم الفيزياء حينما يكتشف عن نظريته الجديدة لإننا لم نتعمق مثله وبذلك لا نستطيع إستيعاب ما توصل إليه على الرغم بإنه بشرٌ مثلنا فما بالنا
بمن خلق هذا الكون وخلقنا ؟ .. من المنطقي جداً الأ تستيعب عقولنا عن حقيقة ماهية الكون فإدراك المخلوقات ليس كإدراك الخالق الذي يسع كل شيء ..
من يولد في الدنيا أولاً يكون الأكبر سناً ، ولكن من يموت أولاً هل يكون في الآخرة الأكبر سناً ؟ .. هي أمور لا نملك أجوبتها تدل على أن للحديث مابعد الموت بقيّة
فالحياة جارية وتزداد تعقيداً .. نحن نعيش وسط إنفلات فكري ذاك يتناقش عن أمرٍ ما ، والآخر يتجادل حول أمر يشغل باله دوماً ..
الكل يفكر على ليلاه والكل يواصل الضحك على العقول والكل يجسد دور قائد الأمة بزعم محاربته للفئة الأكثر خطراً على الأمة (وهي في الحقيقة ليست خطراً بقدر كراهيته لهذه الفئة فقط)
نجد ذاك الرجل أقتبس شخصية قدوته وظن بإنه قادراً على أن يقتبس حياة ورواية قدوته .. لولا أن الظروف ليست كمثل ظروف قدوته مما يجعل فكرة الإقتباس لا تعني النجاح ..
والحياة يابُني أصبحت أكثر تعقيداً وقالها الرسول صلى الله عليه وسلم [ يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر ] .. وهذا مانعيشه الآن )))
غلّف الصمت أجوائنا وعاد لـ هدوءه الباعث للفضول وعيناه عادت للإتساع متجهة أنظارها نحو الأرض ومن شدة عُمق أنظاره ظننت لوهلة بإنه يرى باطن الأرض
فأحسست بإن الجو يحتاج إلى سؤالٍ آخر كي تعود ماكينة عقله للتفكير وبوح مايؤمن به عقله حتى يغذّي فضولي ويشبعه ..
فقاطعت صمته وقلت [ آخر ماقلته "وهذا مانعيشه الآن" .. وحينما نتحدث عن الأجواء التي نعيشها الآن فلابد أن تكون الثورات العربية هي لُب الأحداث ، فما رأيك بها ؟ ]
ضحك تلك الضحكة التي تمتزج مابين الإحباط والحسرة وقال : ( كان يوم الجمعة هو عيد المسلمين .. وبعد ظهور الثورة بقليل أصبح يوم كريه للحُكام
والآن أصبح يوم غير محبب به عند الحكام والشعوب عامةً )
لم تشبعني إجابته بعد وسألته مرةً أخرى [ وهل أنت مع الثورات أم ضدها ؟ ]
رمقني بإبتسامة وكأنه قد شعر بحجم فضولي .. فأجاب ( أنا مع الثورات لكن ليس أن تكون بحجم هذا الضرر وهذه الخسائر .. يابُني أراك كثير الأسئلة فدعني أحلُّ مكانك واسألك )
فأعطيته الإذن والقبول بالسؤال .. فسألني ( هل أنت تعمل ، وإن كنت تعمل فماهو عملك ؟ )
فأخبرته بإني متخصص طب طوارئ وعلى وشك أن أتقدم بوظيفة في الهلال الأحمر .. فرفع رأسه إلى السماء وكأنه يحادثها
وقال (إذن ستكون على موعد مع ملك الموت الذي رأسه في السماء وقدماه على الأرض تمر يداه بجانبك بشكلٍ متكرر دون أن تلحظ ذلك ليلتقط أرواح الأشخاص في الحوادث ،
فلربما تكون أنت آخر شخص يراه المتوفي يوصيك بأشياء ويتمتم بكلمات ودائعية للحياة .. وفي الحالة الأخرى تنقذ الأشخاص وتكون سبباً في رسم السعادة على محيا الأهالي وتشعر بسعادة لا
مدى لها على الإطلاق فأنت موعود على حالات متضادة ومتفاوتة المشاعر .. إما تكون شاهداً على الموت أو يكتب الله بإنك تنقذه من الموت .. وهي في النهاية وظيفة إنسانية
قبل أن تكون وظيفة معيشية من أجل الراتب)
وأضاف بعدما أخذ تنهيدة عميقة (أكثر لحظة يقدّر بها المرء هذه الحياة ، هي أن يواجه الموت .. حينئذٍ سيشعر ويدرك قيمة الحياة ومدى رغبته في الإستمرار بها)
وألتفت نحوي بسرعة فسألني (مافلسفتك حول عملك المستقبلي؟) .. أجبته وكان السؤال قد أعجبني (باحث أحاول إيجاد الأمل بين سطور الحياة) فسألني (أتعني إنقاذ الناس؟)
فأجبت بحزم (نعم تماماً) ضحك وقال (هذه من فرط الحماسة ليس الإ .. وحينما تباشر بعملك سيتبدل الحماس إلى التوتر والرهبة)
وأخبرته (بإني فعلاً أعاني من ذلك ، شعوري متأرجح حول هذا العمل .. كأني على حد شفرة الموج)
أمسك بكتفي وبصوته الداعي للطمأنينة (لاعليك يابُني .. فالطيور تُعلم أبناؤها الطيران حينما تلقيهم من العش فهكذا تكون الحياة يتطلب منا
القسوة لأجل حصد المنفعة .. عليك أن تُقسي قلبك كي تستمر بالعمل دون الإستسلام من أول حدثٍ تشهده)
ثم أعاد رأسه ونظره إلى الشارع (دعنا نبتعد عن هذا الحديث وأن أكمل دور السائل .. هل إلتزامنا لشريعة الإسلام ناتجاً عن رهبتنا من النار ورغبةً منا للجنة ؟ أو إن إلتزامنا نتيجة لمحبتنا لله وما يأمره علينا ؟
إن كان رهبةً من النار ورغبةً للجنة .. فماذا لو كان الإسلام موجوداً ولا يدخل النار من لا يؤمن بالإسلام ولن تكون هناك جنة أساساً ..
هل سنمتثل للإسلام أم نتخلى عنه وننخرط نحو الشهوات رامين محبة الله خلف ظهورنا ؟
ما أعنيه هو .. إن كنا نحب الله فعلاً ، فإن ميزان المحبة لمن تميل أكثر ((للشهوة دون عقاب أم لله من دون ثواب)) سيما وأن لله فضلٌ كبير علينا
الأ وهو "الوجودية" أي أن تكون موجوداً من العدم .. وهذا كفيل بحد ذاته لإمتثال ما يؤمرنا به الله سبحانه من باب الشكر ،، ماذا ستختار حينها يا بُني ؟)
وقفت صامتاً والحيرة تضيء محياي وبدأت أتئتئ حيرةً بماذا أُجيب فقلت (سأؤمن بالإسلام حتى وإن كان بلا ثواب)
فقاطعني بسرعة (لم تصدُق بالإجابة .. لماذا لا نؤدي شريعة الإسلام بصورتها الحقيقية الآن على الرغم من وجود عقاب لتاركها ووجود ثواب لمن قام بها .. لماذا ؟!
أتعلم لماذا .. لإننا نحب الشهوات أكثر يا بُني هذه الحقيقة التي نحاول حجبها وإنكارها وعدم الإيمان بصحتها ،، اااه كم هو عجيبٌ أمرنا حقاً)
بدأ تفكيري يسرح حول هذا الأمر وقطعت حبل أفكاري قطة تسير ببطئ يمزجها الحذر والخوف وما إن قدّمت خطوتي إليها حتى هربت دون أدنى تردد .. وشاهد المُسن هذه اللحظة فسألني
(الحيوانات وهي صغيرة لا تهرب من البشر ، بينما إذا كبرت فإنها تخشانا وتهرب .. فهل الخوف نابع من القلب أم من العقل ؟) أجبته (من العقل طبعاً)
فقال (إذن فإن الحيوانات أعقل من بعض البشر فهي تكبر وتعقل .. وهناك الكثير من الأشخاص عقولهم تجاوزت الثلاثين عاماً ومع ذلك لا تزال عقولهم متشبثه بسن الثامنة عشر )
أومأت رأسي موافقاً على مايقوله فأضفت عليه للتأكيد على صحة كلامه (على سبيل المثال فالكثير منهم يخالفون الأنظمة المرورية .. ولم يجعلوا هناك فارقاً مابينهم ومابين الصبية)
ولما فرغت من كلامي أتاني وقال بصوت خافت (يابُني إنهم يجهلون النظام ويضعون الخطأ على النظام .. لم يجعلوا هناك فارقاً مابينهم ومابين الصبية ..
يمتعضون من النصح ويعتبرون العقلاء والمفكرين بإنهم سُذّج .. وأن هذه الحياة لا تحتاج إلى التعقيد "وهم يقصدون بالتعقيد أي بالتفكير" .. محزن حالهم كثيراً)
وأردف قائلاً (هل الله وهب لنا عقولاً كـ عضو لتكملة الفراغ في أعلى الجمجمة ؟ وهل نتّبع قناعات من سبقونا دون عناء التفكير في صحة مايؤمنون به ؟ من يتحدث عن القناعات
غير المعهودة لدى المجتمع وعامة الناس يردون عليه قائلين "أنت من ضمن خالف تُعرف" وكأنهم يطلبون مني بطريقة غير مباشرة بأن أتوقف والأ أفكر على الإطلاق ..
فهذه العبارة تعارض الإنتاج الفكري .. ولولا الإنتاج الفكري لظللنا على حال من سبقونا ولم نتغير بعد ..
فكل جيل يرضى أن يتغير عن الجيل السابق ولكنه لا يرضى أن يأتي جيل في زمنهم ليخالفهم)
والجو تغيّر بعض الشيء ، والهواء بدأ يزداد قوةً .. الأشجار تتحرك بقوة وكأن المنظر يُرينا بإن الأرض تتشبث بالأشجار ممسكةً بها كي لا تطير !
أتفقنا أن نرحل كون الجو غير ملائم للإستمرار في النقاشات .. فسألته سؤالاً أخيراً ( هل تعتبر اسألتي الكثيرة .. لقافة أم ثقافة ؟ )
فقال ( اللقافة أن يحشر المرء أنفه فيما لا يعنيه .. والثقافة أن يحشر المرء عقله فيما لا يعنيه .. فذاك سلباً وذاك إيجاباً )
( وداعاً بُني ) أمسك بعصاه وشد على معطفه جيداً .. .. .. .. ورحل !
والسلام عليكم !
~ خآلد آلشمري
..
</b>