[align=center]
بسم الله الرحمن الرحيم
اقدم لكم هذا المقطع المفرغ من ( جلسة مع طلبة العلم ) للشيخ : ( محمد مختار الشنقيطي )
الله يصرف قلب صاحب العلم إلى الآخرة
كذلك من ثمرات العلم النافع: أن الله يصرف قلب صاحبه إلى الآخرة ويزهده في هذه الدنيا، ولذلك تجد العلماء أغنى الناس بالله جل جلاله، جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله برحمته الواسعة، فجلس في مجلس الحسن وكان غنياً ثرياً، فلما قام من مجلس الحسن أرسل إليه بخمسة آلاف درهم -خمسة آلاف درهم في أيام الحسن شيء عظيم وكبير- ثم أرسل له بثياب وقطن، ثم جاء إلى الحسن ودفعها إليه في بيته قال له الحسن : عافاك الله ضمّ إليك دراهمك وثيابك وقطنك، فإنه ما حدث أحد بما حدثت به فأخذ ما أعطيت إلا كان يوم القيامة لا خلاق له؛ لأنه يريد ما عند الناس ولا يريد ما عند الله جل جلاله. ويجعل الله الآخرة أكبر همك ومبلغ علمك، دائماً تفكر بآخرتك، وهذا شأن العلماء! تجد العالم دائماً يتذكر مثل هذه الساعة وهو في القبر وهو في اللحد، يتذكر وهو قائم بين يدي الله يسأله عن علمه ماذا عمل به، فإذا كان خالياً دمعت عيناه من خشية الله وقال: اللهم إني أسألك أن تلطف بي، اللهم اجعل علمي حجة لي لا حجة عليَّ، يحس بالآخرة في قلبه فينصرف، وتنصرف همته كلها إلى الآخرة، ولذلك عندما تقرأ في سير السلف الصالح وأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم تحس أن هذه الثمرة قد عجلها لهم الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، ومن خاف من الآخرة أمّنه الله فيها، فإن الله لا يجمع للعبد بين خوفين وأمنين، فإما خوف في الدنيا وأمن في الآخرة، أو العكس، ولذلك لما قيل لبعض السلف وقد اجتهد في العبادة: أتعبت نفسك، قال: راحتها أريد. فالذي يتعب اليوم ويخاف اليوم يأمن غداً. الله أعلم كم ضمت اللحود أقواماً وجلت قلوبهم من خشية الله! فإذا فيها النعيم والرضوان المقيم، الله أعلم كم ضمت اللحود الآن من أئمة ودواوين للسلف وعلماء للأمة علم الله منهم أنهم خافوا الآخرة فأمّنهم اليوم وهم فيها! وذكرهم بصالح الدعوات وقد ولوا ومضوا، فهذه عاجل ثمرات الدنيا.
الله يزكي طالب العلم
كذلك من ثمرات العلم في هذه الدنيا: أن الله سبحانه وتعالى يزكي أهله، وإذا زكىّ الله عبداً بارك له، الله تعالى لا يزكي العبد بحسبه، ولا يزكيه بنسبه، ولا يزكيه بنومه، ولا يزكيه بماله: (فرب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) وما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ضيق من الدنيا، وما كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم إلا معرضاً عن هذه الدنيا، فالله لا يزكيك بهذه الدنيا، ولكن يزكي بما وقر في القلب وصدقه العمل.
الله يقذف في قلوب الناس حب طالب العلم
وثمرات هذا العلم: أن الله يقذف في قلوب الناس حبك، فإذا أخلصت الآن، وحرصت كل الحرص على الأدب مع العلماء ومع من تتلقى عنهم قيض الله لك من تصرف الناس ومعاملتهم معك ما تقر به عينك، ويطمئن به قلبك، وتبهج به نفسك، والله! ما رأينا طالب علم تأدب مع علمائه ومشايخه إلا رأينا آثار ذلك في طلابه، وما رأينا فظاً غليظاً سيئاً جافياً متجافياً عن الحق إلا رأينا مكر الله به كما مكر بمن كان على شاكلته ممن سبقه. فإياك ثم إياك أن تغفل عن هذه الثمرة الكريمة! أن يزكي الله علمك، فيجعل لك بين الناس القبول والمحبة والرضا، وهذا -كما ذكرنا- بالإخلاص، ثم بذكر الله جل جلاله، ثم بالحرص على الأدب مع أهل العلم، فيفتح الله لك عز وجل من فضله، فترى ثمرة العلم في الدنيا، وترى بأم عينيك ما كنت تفعله مع مشايخك من الإجلال والتقدير في طلابك، ومن يأخذ العلم عنك؛ فما جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] والله جل جلاله يقول في كتابه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30] . فمن كان في رياض العلم متأدباً تعلوه السكينة والوقار، وإذا سأل عرف عن أي شيء يسأل، وإذا تكلم عرف أين يضع لسانه، وحفظ لأهل العلم حقهم وقدرهم، وأخذ يختار النماذج الكريمة من السلف الصالح وطلاب العلم الأحياء الذين يرى فيهم وقار العلم وسمته، والأدب مع العلم فتخلق بهذه الأخلاق؛ زكاه الله جل جلاله، والله إن القلوب لتسر حينما ترى نماذج من طلاب العلم في السكينة والوقار يذكرون بهدي السلف الصالح! وإن القلوب لتتقرح وتتألم حينما ترى عكس ذلك! كذلك أيضاً: إذا زكاك الناس وشهدوا لك بالخير كان من عاجل البشرى لك في الدنيا يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا أحب عبداً من عباده نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه) الله أكبر! لو نودي باسمك في السماوات العلى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، اللهم اجعلنا ذلك الرجل! الله ذو العزة والجلال الذي بيده ملكوت كل شيء ينادي باسمك! إذا صلح قولك وعملك، ورأى الله منك هذه المحافظة على الحقوق والواجبات! (نادى يا جبريل! إني أحب فلاناً) لا، والله! ما أحب الله للدنيا، وما أحب للأحساب والأنساب، ولكن أحب للدين والإخلاص. وانظر إلى الأسلوب (إني) وهو للتوكيد والإثبات- (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال صلى الله عليه وسلم: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) فإذا تكلم وضع الله البركة في قوله، فكم من تائب أناب ومهتدٍ اهتدى بإذن الله عز وجل بتذكيره ووعظه! فترجع إلى قومك وعشيرتك وقد وضع الله لك القبول، من عامل الله كان الله له. فمن الآن وطِّن نفسك على أن يحبك الله، فترى هذه الثمرة العاجلة في الدنيا فتقول: يا رب! أحمدك وأشكرك والفضل كله لك، إذا أحبك الله عز وجل ووضع لك القبول فهذه ثمرة الدنيا؛ فيزكيك الناس ويشهدون لك بالخير والفضل ويترحمون عليك، ويذكرونك بصالح الدعوات، ما ذكرت إلا أثنوا عليك ودعوا لك بالخير، وهذا من عاجل البشرى، ولذلك من ذكره الناس بصالح الدعاء كان هذا من عاجل البشرى، والعكس بالعكس! فعلى المسلم أن يحرص على توطين نفسه بالأصول التي تفضي إلى هذه الثمرة الكريمة.
أن يرزق الله العبد التقوى
أيها الأحبة في الله! ثمرة العلم! وما ثمرة العلم؟! فهي أطيب الثمرات، وأعظمها وأجلها وأكرمها؛ لأنها من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم شيء على الله في هذا الوجود كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى رفع قدرهما وأحبهما، فإذا أراد الله عز وجل أن يكرم العبد بأطيب الثمار وأحبها في الدنيا والآخرة ذاق حلاوة العلم. ثمرة العلم ثمرتان: ثمرة عاجلة، وثمرة آجلة. أما الثمرة العاجلة: فإن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يرزق العبد علماً نافعاً رزقه الإخلاص، وقذف في قلبه نور التقوى، فأصبح علمه لله، وقوله لله، وأفعاله وحركاته وسكناته لله جل جلاله، وعندها يطيب عيشه، فما طاب العيش إلا بالله، قال الحسن البصري رحمه الله: (لا يزال الرجل بخير؛ إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله). أول ثمرات العلم في هذه الدنيا الإخلاص، ومن عرف الإخلاص عرف الأمر الذي من أجله خلق الله الخليقة وأوجد هذا الكون، بل الأمر الذي من أجله أظلم الليل وأضاء النهار، ومن أجله كان العشي والإبكار، من عرف الإخلاص عرف الله جل جلاله. فأول ثمرات العلم التي جناها العلماء: أن الدنيا هانت عليهم فتوجهوا إلى الله وحده، إن أصابتهم سراء شكروا.. وإن أصابتهم ضراء صبروا.. فعاشوا الحياة الآمنة المطمئنة: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] وعد الله جل جلاله الذي لا يخلف الميعاد أن من عمل الصالحات أن يحييه الحياة الطيبة، وما طابت الحياة على أتمّ صورها وأكمل حللها وأجملها وأجلّها إلا لأهل العلم، فترى الرجل منهم مرقع الثياب! حافي القدمين! لكنه غني بالله جل جلاله، ما اشتكى يوماً ربه إلى الناس، وتجده يتوسد الأرض ويلتحف السماء راضياً مرضياً، وتجد غيره يرفل في نعيم الدنيا، وهو في هم وغم وكرب ونكد لا يعلمه إلا الله عز وجل. أول ثمرات العلم: أنه يوجهك إلى الله، فتعلم الله بأسمائه وصفاته، وعندها يطيب عيشك، تعلم أن الأمر كله لله، وأن الأمور كلها مردها إلى الله؛ فتهون عليك الدنيا بما فيها، وتحب الله بصدق المحبة، وتتوجه إلى الله بصدق التوجه، ومن أقبل على الله أقبل الله عليه، ومن تقرب إلى الله فإن الله يفتح له من أبواب رحمته، وإذا فتح الله أبواب رحمته لا يستطيع أحد أن يغلقها كائناً من كان، وإذا نشر للعبد من بركته وخيره لا يستطيع أحد أن يقبض ذلك الخير كائناً من كان. دخل سليمان بن عبد الملك إلى بيت الله الحرام وفيه علم من أعلام المسلمين وإمام من أئمة الدين عطاء بن أبي رباح رحمه الله برحمته الواسعة، هذا الإمام الذي كان ينادي المنادي في الحج ويقول: لا يفتي الناس إلا عطاء لعلمه وفضله، كان عطاء في ذلك المسجد يومها فأخذه سليمان وطاف معه، ثم قال: يا عطاء ! سلني حاجتك؟ ما هي حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين! إني لأستحي أن أسأل أحداً في بيت الله جل جلاله -إني لأستحي أي من الله- ، فلما خرجا من المسجد قال: يا عطاء ! سلني حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين! أن يغفر الله ذنبي، قال: ليس ذلك بيدي، قال: ماذا تريد أن أسألك؟ قال: سلني حاجتك من الدنيا، قال: يا أمير المؤمنين! إني لم أسألها من يملكها أفأسألها من لا يملكها! كان العلماء رحمهم الله علماء بحق. فأول ثمرة العلم: الإخلاص والتوجه إلى الله، ولذلك قال الله جل جلاله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] سكنت في قلوبهم خشيته، وسكنت في قلوبهم محبته سبحانه وتعالى، فأصبحت حياتهم كلها لله، لا يسأمون.. ولا يملون.. ولا يضجرون من شيء فيه محبة الله جل جلاله، فأول ثمراته في الدنيا هذا المقام العظيم الذي هو روح الإسلام ولبه يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه).
من ثمرات العلم في الآخرة
أما ثمرات العلم في الآخرة، فأمرها إلى الله علام الغيوب، الله أعلم ماذا ينتظر العلماء في موازين حسناتهم وأجورهم من السنن التي دلوا عليها، وحبّبوا فيها، وعلموها عباد الله، وحرصوا على أن يهتدوا بهديها، وأن يربوا الناس عليها! الله أعلم كم لهم من الأجور والثواب والحسنات والدرجات! الله وحده هو الأعلم، وهو سبحانه لا يضيع أجورهم ولا سهر الليالي وتعب النهار والكدح في طاعة الله ومرضاته: والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] فالمعروف يدوم ويبقى، والخير والبر أبداً ما ينسى! ......
إذا مات لا ينقطع ذكره في الدنيا
ثمرات الآخرة من أعظمها: أن العلماء إذا ماتوا وكانوا في قبورهم فمن عاجل ما يجدون الرحمات التي تغشاهم في قبورهم، لا ينقطع ذكرهم ولا خبرهم، خاصة إذا قيض الله لهم طلاباً صالحين يذكرونهم بالخير، قال الإمام أحمد رحمه الله الرحمة الواسعة لأحد أبناء مشايخه: أبوك -أي: وهو ممن علمني وانتفعت بعلمه- أحد الستة الذين أدعو لهم في صلاتي) ما ذكروا وهم في قبورهم إلا ترحم عليهم، ويذكرون بالجميل! ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير السبيل!
تغشى العالم الرحمات إلى قبره
كذلك أيضاً: تغشاهم الرحمات، ويرون في قبورهم ما يكون لهم من الأجور التي من بعد موتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: -وذكر منها-: أو علم ينتفع به) فهم يموتون وما ماتت مكارمهم، ماتوا وما ماتت مآثرهم، فهي منقوشة في الصدور! والتلميذ البار إذا ذكر شيخه ترحم عليه ودعا له، ومن ذلك: أني رأيت الوالد رحمه الله -وكان قد تتلمذ على الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله- أكثر من مرة ما ذكر الشيخ إلا فاضت عيناه بالدمع، وطأطأ رأسه ثم دعا له وترحم عليه، وكان يقول: ما رأيت بعيني عالماً ملؤها مثل الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله برحمته الواسعة! وتجده يقول إذا ذكره: نعم! نعم العلم والعمل، مما رأى من شيخه من العلم والعمل، ووالله! إذا ذُكِرَت سيرته -لا أبالغ- إذا بالشيخ يسكت فتجد الدمعة تذرف مما يذكر من جميله وإحسانه، وهكذا كان رحمه الله برحمته الواسعة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علمه وورعه وصلاحه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[/align]