الحب لا يعيش في الظلام.. انه يسعى دائما إلى النور, إلى الحرية, إلى الاعتراف بكيانه.. الحب كالإنسان يريد أن يسير في الشارع, و يتفرج على الدكاكين, و يضحك بصوت عال.. انه لا يطيق الاختباء طويلا, و لا يطيق أن يظل طول عمره يتكلم في همس..
و لكن الحب يحاول أن يخرج إلى النور يصطدم بالمجتمع..
و المجتمع ديكتاتور لا يرحم, يفرض قيودا و نظما دون أن يسمح بمناقشتها.. المجتمع يفرض على الإنسان عندما يسير في الشارع أن يرتدي ثيابا.. و مجتمع القاهرة يفرض ثيابا تخالف الثياب التي يفرضها مجتمع الإسكندرية.. ففي الإسكندرية تستطيع أن تخرج إلى الشارع في مايوه, و لكن في القاهرة يجب أن ترتدي بدلة كاملة .. لماذا يسمح لي مجتمع الإسكندرية أن ارتدي المايوه على شاطئ البحر .. لا .. ممنوع.. حتى لو كانت سعادتك متوقفة على ارتداء المايوه .. إن سعادتك لا تهم المجتمع .. كل ما يهمه هو أن تخضع له.. أن تصير واحدا من القطيع الكبير .. خروفا بين الخرفان .. و كذلك الحب .. فالمجتمع يفرض على الحب ثوبا خاصا يخرج به إلى الشارع.. ثوبا يسمى الزواج.. و لا يهم إذا كان الزواج يسعدك أو يشقيك المهم أن تتزوج ما دمت تريد أن تخرج إلى المجتمع و في ذراعك امرأة.. و المجتمع يبتسم في وجوه ملايين الأزواج الأشقياء المنافقين الآثمين و يرحب بهم.. ثم يكشر في وجوه ملايين الأحبة السعداء الأطهار المخلصين .. لماذا يا مجتمع .. لا منطق.. لا سبب .. فقط , أوامر السلطان .. أوامر الدكتاتورية ..
و هذه حكاية سيدة حائرة بين الحب و المجتمع ..
تزوجت و هي في التاسعة عشر.. و دامت خطبتها قبل الزواج عامين كاملين ..
كان زوجها خلالها رقيقا , مهذبا .. كلامه حلو .. آراؤه متزنة .. يكاد يحملها من فوق الأرض بابتسامته.. و ربما لم تكن تحبه, و لكنها أحبت أن تعيش معه..
و مضت أيام بعد الزواج .. ثم بدأت تكتشف في زوجها شخصا أخر.. انه لم يعد يكلف نفسه مجهودا في الاهتمام بها.. لم يعد يحرص على أن يكون رفيقا مهذبا.. بل لم يعد يحرص على أن يجعلها تحبه.. أصبح ينظر إليها كشيء يمتلكه و من حقه أن يهمله.. أن يلقيه في زاوية حياته .. و عندما يطالبها بشيء لا يطالبها باسم الحب, و لا باسم التعاون, و لا باسم الصداقة.. إنما باسم حق شرعي .. الحق المسجل في عقد مكتوب .. عقد الزواج..
و كافحت طويلا لتقنعه بان يعاملها كشخصية كاملة.. كإنسانة حرة من حقها أن تعطي و من حقها أن تمتنع عن العطاء .. و لكن لا .. أنها ليست إنسانة كاملة .. ليت حرة.. أنها زوجة..
و تعددت الأزمات بينهما.. و أصبحت الحياة ثقيلة, مملة, تعيسة, الهروب منها, أهون من البقاء فيها..
و هربت ..
هربت بعد خمس سنوات و في يدها ابنتها الصغيرة ..
و لم تهرب من الرجل وحده, بل هربت من الزواج نفسه.. من هذا النظام الذي يحيل الرجل إلى مالك, و يحيل المرأة إلى شيء مملوك..
و قضت سنوات و هي وحيدة مع ابنتها .. بلا رجل ..
إلى أن التقت بالحب..
أحبت بكل أعوامها الثلاثين.. و سعدت بالحب .. أن حبيبها رقيق مهذب يحترمها.. و يحترم كيانها .. يحترم حريتها .. حتى عندما يختلفان و يتشاجران يحترمها, و يحرص عليها و على حبها في خلافه و شجاره.. لأنه يعلم أنها حرة ! !
و حاولت أن تبقي حبها في الظلام, لا يدري به احد.. اللقاء خفية , و الحديث همس .. و لكنها لم تستطع .. أن حبها يريد أن يخرج إلى الشارع..
تريد أن تضع يدها في يد حبيبها و تتفرج معه على الدكاكين.. تريد أن تجلس معه على شاطئ النيل.. و ترقص معه في شبرد .. و .. الحب يريد أن يرى النور.. أن يتكلم بصوت عال..
و خرجت إلى النور ..
وضعت يدها في يد حبيبها و واجهت المجتمع..
و كشر المجتمع عن أنيابه .. بدا ينهش بألسنته في لحميهما .. رفض أن يستقبلهما و يفسح لهما مكانا في الزحام.. لا يهم .. أنها تستطيع أن تستغني بحبيبها عن المجتمع.. عن كل الناس ؟
و لكن حبيبها لم يحتمل .. و عرض عليها الزواج , حتى يرضى المجتمع و يسكت السنة الناس .
لا ..
قالت: لا ..
و قال عنها الناس أنها مجنونة .. ليست هناك امرأة ترفض الزواج من حبيبها .
و تكتفي أن تعيش معه الحب..
و لكنها لم تكن مجنونة .. أنها مقتنعة بمنطقها.. أنها تخاف على حبها من الزواج.. تخاف أن تفقد كيانها.. و حريتها فتفقد معها حبيبها .. و هي تحرص عليه حبيبا أكثر مما تريده زوجا .. تحرص عليه رقيقا مهذبا يحيطها باهتمامه. و يشتاق إليها .. و يتلهف عليها ..
ثم ما حاجتها إلى الزواج .. لا شيء ينقصها.. و لا تريد شيئا أكثر .. و هي لا تؤذي بحبها أحدا , فلماذا يتأذى الناس .. ما شان الناس بها و بحياتها .. ما دامت لا ترتكب إثما .. مادامت مخلصة في حبها .. مخلصة لرجل واحد .. و ليس كل الزوجات لهن رجل واحد ! .. و رفضت أن تتزوج..
دعونا أيها الناس .. لا تفسدوا حبي .. لا تفسدوا هنائي .. و إذا اعتبرتم حبي حراما. فهذه الورقة التي يكتبها المأذون لن تجعله حلالا.. أنها ورقة.. مجرد ورقة.. و الحلال و الحرام ليسا مجرد سطور تكتب على ورق..
دعونا .. إنكم تحسدونني .. إنكم تغارون مني .. تكرهون لي أن أحب.. و ترضون لي الزواج حتى لو شقيت..
و أصرت على الرفض ..
و ربما كان لرفضها سب أخر.. ربما خافت أن تزوجت أن يأخذ زوجها السابق ابنتها منها.. و هذا أيضا حكم من أحكام المجتمع .. حكم بلا عقل ..
المجتمع يفرض على المرأة أن تتزوج الرجل الذي تحبه.. فإذا تزوجته اخذ منها ابنتها. و إذا لم تتزوجه اخذ منها حبيبها.. لا .. لن اخضع للمجتمع.. لن استسلم لهذه القسوة.. الظلم.. الأنانية..
و عادت تعيش مع حبيبها .. بلا زواج ..
و يئس المجتمع منها ..
و عندما يئس منها استدار إلى ابنتها . و سلط ألسنته على أذنيها الصغيرتين .. أن أمك تحب رجلا.. بلا زواج .. هل تعلمين معنى الحب بلا زواج .. انه حرام.. و ستدخل أمك النار .. و .. و .. و بكت الصغيرة..
و قرأت إلام دموع ابنتها.. و رأت في عينيها البريئتين حكم المجتمع الظالم ؟؟ حكم بلا منطق .. و بلا حيثيات ..
ماذا تفعل .. إذا تزوجت فستفقد حبيبها, و تفقد ابنتها..
و إذا لم تتزوج فيطارد المجتمع ابنتها حتى يمزق نفسيتها ..
و لم تفعل شيئا ..
كل ما فعلته أن عادت بحبها إلى الظلام.. عادت إلى الاختباء و الهمس ..
و لكن إلى متى ؟!
إن الحب لا يطيق الاختباء طويلا.. و الحب يريد أن يتكلم بصوت عال..
منقووول ( قصة للكاتب احسان عبد القدوس )