يا راحلاً عنَّا
للشاعر/ عبدالرحمن صالح العشماوي ...
ما بين مرتحـلٍ وبيـن مقيـم**تجري الحياةُ بعمرنا المقسـوم
تجري سفائنُها على بحر الرَّدَى**تشكو من الأمواج طولَ هجـومِ
ما بينَ غارقةٍ وناجيـةٍ تـرى**فَرَحَ السَّعيد، ودمعـةَ المكلـومِ
ما أقصرَ الأعوامَ بيـن بدايـةٍ**ونهايـةٍ، ومصيرنـا المحتـوم
نستقبل الدنيا وفـي أَنْفاسهـا**معنى بلـوغ الـروحِ للحلقـومِ
يا رحلةَ الأيَّامِ، مازلنـا نـرى **خطواتنا في دربنـا المرسـومِ
فنحسُّ أنَّ العمرَ صفحةُ قـارئٍ**تُمحى إذا سقَطَتْ من (التَّرقيم)
هذي بحار الموتِ يَرفد بعضُها**بعضاً فيّا سُفُنَ التَّصَبُّرِ، عُومي
خبرٌ تناقَلَـه الـرُّواةُ، وربَّمـا**ساقت لنا الأخبارُ جيشَ همـوم
رَحَل (ابنُ جبرِين)، رويدَك إنَّه**خبرٌ وربِّ الكـون جِـدُّ أَليـمِ
رحل ابن جبرينٍ رحيل مبجَّـلِ**بشموخ محتسبٍ وعِلـمِ عليـمِ
ترك الحياة وقد أنـار دروبَهـا**بجمال أخلاقٍ، ونَشْـر علـومِ
يا راحلاً عنَّا، أمامَـك روضـةٌ**من عَفْو غفَّارٍ، وجُـودِ كريـمِ
انظُرْ إلى خُضر الطيورِ تألَّقَـتْ**في جنَّـةِ المـأوى ودارِ نعيـمِ
لكأنَّني بالكأس تُمْـلأُ بالرِّضـا**ومِزاجُها المختومُ مـن تَسْنيـم
وكأنني بالشيخ يشرب ما صَفَا**من نَبْعها ورحيقهـا المختـومِ
أَمَلٌ مَزَجْتُ به الدعاءَ، وإنَّمـا**نرجو له فَـوْزاً بعفـوِ رَحيـمِ
يا من كسّرْتَ حواجزَ الدنيا التي**تقسو على مُتَذبْـذِبٍ مهـزومِ
يا تاليَ القرآنِ في جُنْح الدُّجـى**متهـجِّـداً متعلِّـقـاً بعظـيـمِ
للهِ دَرُّك، كـم وقَفْـتَ مصلِّيـاً**حتى يَهُزَّ الفجرُ غُصْنَ نسيـمِ
تَمتدُّ رحلتُـكَ الجميلـةُ حُـرَّةً**ما بيـن تكبيـرٍ إلـى تَسليـم
كم جُزْتَ آفاقَ الخشوعِ محلِّقـاً**متجاوزاً فيهـا حـدودَ نُجـوم
ولكم سَعَيْتَ مع الضَّعيفِ لحاجةٍ**سَعْياً يخفِّف لَوْعَـةَ المهمـومِ
ولكم مَسَحْتَ دموعَ أرملةٍ، وكم**كَفْكَفْتَ بالإحسـانِ دَمْـعَ يَتيـمِ
كم طالبٍ للعلم جـاءَك راغبـاً**يسعى إليـكَ بلهفـةِ المحـرومِ
فمنحتَهُ من كَنْز علمـكَ ثـروةً**وسقيتَه بالعَـزْم و (التَّصميـمِ)
بَطَلُ العقيدةِ أنتَ، لم َتْترُكْ على**أبوابهـا أَثْـراً لكـفِّ سقيـمِ
جاهدتَ دون صفائها ونقائهـا**وردَدْتَ عنها وَهْمَ كلِّ خَصيـمِ
وصدَدْت عنها بِدْعَةً مشؤومـةً**بُنِيَتْ على التَّلفيـق والتَّهْويـمِ
إني عرفتُك بالتواضُعِ شامخـاً**مترفعاً عن سَفْسطاتِ خُصـوم
يا راحلاً عنَّا، مكانُكَ لـم يـزلْ**فينـا شِعَـارَ العلـم والتَّعليـمِ
إنْ غيَّبَ الموتُ الكـرامَ فإنَّهـم**يبقون في عِـز وفـي تكريـمِ
يبقونَ في أذهاننا الفجرَ الـذي**ترتـدُّ عنـه جحافـلُ التَّعتيـم
فالشمسُ لا تخفى على أنظارنا**مهمـا تلبَّـد أُفْقُهـا بغـيـوم