لم يعرف تاريخ الفقه من قبله رجلا كتب في الحب وأحوال العشاق بمثل هذه الرقة والعذوبة والصراحة، وجادل الفقهاء في الوقت نفسه بكل تلك الحدة والعنف والصرامة!..
اجتمعت فيه صفات متناقضة: لين الطبع وسعة الأفق وعذوبة النفس، مع التشدد والتضييق وسرعة الانفعال، والتعصب لكل ما يعتقد أنه حق، ورفض ما عداه .. فهو يناقش كل وجوه النظر في المسائل، حتى إذا اطمأن إلى رأي، أدان كل مخالفيه بلا رحمة، وسخر بهم، وكال لهم الاتهامات، لا يراعي لهم فضلا ولا وقارا ..!
من أجل ذلك أحبه بعض الناس حتى تحدوا فيه حكام عصرهم، وكرهه آخرون حتى أهدروا فيه تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق إذ أغروا به السلطان.!
ولد وعاش ومات في الأندلس ـ أجمل بلاد المسلمين وخيرها ـ في شر فترة من عصور التاريخ الإسلامي .. إذ كانت الدولة الإسلامية العظمى في الأندلس، قد تمزقت إلى دويلات صغيرة، فذهب زمن الخلفاء أولى العزم العماليق العظام، ليجيء بدلا منه عصر الحكام الأقزام، ليتصارعوا فيما بينهم، وليكيد كل واحد منهم لأخيه. ويعربد على دويلته فينقصها من أطرافها، ويحالف الفرنجة الطامعين في أن يستعيدوا الأندلس بأسره .. ومن هؤلاء الحكام الأقزام من رضى الدنية في دينه ودنياه، فأغرى الفرنج بالأموال الطائلة ليعينوه على أطماعه في الدويلات الإسلامية المجاورة الأخرى..!
وهكذا انطفأت منارات المعرفة في قرطبة، وهي التي تضيء لكل ما حولها وما يليها من بلاد أوربا، فأصبحت قرطبة عاصمة الدولة الكبرى في الأيام الزاهدة الذاهبة، دويلة من الدويلات الإسلامية..! وانصرف أهل قرطبة من جد الأمور إلى هزلها ..
ونهبت خزائن الكتب في قرطبة، وهي خزائن لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل .. وانصرف أهل قرطبة عن اقتناء الكتب كما تعودوا، إلى حيازة الجواري الحسان والغلمان!. وبعد أن كان الأثرياء يتنافسون على شراء الكتب الجديدة، حتى لقد كان المؤلفون في المشرق العربي ينشرون كتبهم في الأندلس، قبل أن تظهر في بلادهم، كما صنع صاحب الأغاني، بعد كل هذا أصبح الناس يتنافسون على شراء الجواري الشقراوات والغلمان من فرنا وإيطاليا والجزر المجاورة في المحيط والبحر الأبيض المتوسط.
وبدلا من التفنن في إقامة خزائن للكتب، تفننوا في بناء الأجنحة للجواري. وذوي فن النسخ وافتقر الناسخون، لتزدهر صناعة النخاسة ويثري النخاسون!. وأصبحت أسواق الأدب في متنزهات قرطبة مغاني للعشاق وخمائل للمتعة!
وإذ بالعقل العربي في الأندلس يهجر تقاليده الإسلامية في البحث والمغامرة واكتشاف المجهول وإغناء الحياة بالإضافات، ليسقط في الجمود والتقليد. وإذ بالناس يتخذون الشيوخ أولياء من دون الله، ويتشفعون بهم من دون العمل..!
وخلال هذا التحول كانت الفضائل تتهاوى، وقيم الإسلام تترنح، والباطل يغشى وجه الحياة، والإنسان الصادق يغترب .. والحق كسير!
وانطفأت الحمية .. وخبت الغيرة، وتزايل قدر الكتاب والشعراء والمفكرين ومهرة الصناع وأهل الفنون، المنتجة ليعلو مقام الجواري والغلمان والمخنثين والشذاذ..!
وخلال هذا كله يتناقل الناس قصة أمير في أشبيلية اشتهت إحدى نسائه أن تغوص بأقدامها في الطين، فأمر بأن تصنع لها بركة من المسك المعجون بالماء المعطر..! أنفق على هذه البركة ما يكفي لتجهيز جيش، حتى إذا أحاطت جيوش الفرنجة بأشبيلية والأمير ونساؤه يعبثون عراة في طين المسك لم يجد الأمير في خزائنه ما يتقوى به على الدفاع عن مدينته.!
وهكذا سقطوا في الطين .. المعطر!
وفي بعض نواحي الأندلس تقل المياه، وينقطع المطر فتجف الأرض، ويعطش الأحياء، وبدلا من أن يؤدي المسلمون صلاة الاستسقاء، عسى أن يستجيب لهم الله فيعم الماء، ليسقوا الأحياء والأرض، كانوا يتجهون إلى فلنسوة جلبها أسلافهم من الإمام مالك، ليستسقوا بها..!
ثم يتناقل الناس قصة رجل فاضل من أهل العلم عشق جندياً حسن الطلعة من جيش الفرنجة الذي كان يحاصر إحدى المدن، فاستخلص الرجل الذي كان فاضلا هذا الجندي لنفسه، وأمره على قصره لينهي ويأمر فيه، وأباحه حريم القصر، لينال الرجل العالم من الجندي ما يريد..!
وحين كانت خزائن الدويلات خالية مما تتطلبه مؤنة الجيش، بنى أحد الأمراء قصرا ضخما وجلب له غرائب الأزهار والأشجار والطيور النادرة، وشق له نهرا صغيرا من قمة الجبل حيث تتراكم الثلوج في الشتاء لينحدر الماء إذا ذابت الثلوج، ويصب في جداول تتخلل حدائق القصر، وتنتهي إلى بحيرة صنع قاعها من الرخام الأزرق الفاخر الثمين، ورصعت شطآنها بالأحجار الكريمة! لتسبح فيها الجواري الشقراوات المجلوبات من جنوب فرنسا، على شعاع الشمس إذا كان النهار، وعلى ضوء القمر أو المصابيح الذهبية في ليالي الصيف..!
وسط هذا الجو الزاخر بصور رائعة من جمال الطبيعة، ومظاهر مؤسية من فساد المجتمع نشأ ابن حزم.
عاش في هذا المضطرب نحو اثنين وسبعين عاما .. اشتغل خلالها بالسياسة والأدب، والفقه، والشعر، وكابد الحياة والناس، وعرف المتاع والعذاب، وحاول أن يتعاطى الفلسفة والمنطق وعلوم الاجتماع والفلك والرياضة وعلم النفس وسماه بهذه الاسم، واحتك بمجتمعه، فصوره ورسم أعماقه ومفاسده ومظالمه، وهب في انفعال يرفض مجتمعه ذاك، ويحاول أن يهدم واقعه لينيبه من جديد!
وفي سبيل ذلك لم يكتف بالكتابة بل خاض غمرات الصراع السياسي واشترك في مغامرات عسكرية .. وعرف الحب والنعيم، وعرف الجوى، ولم يتحرج ـ وهو الفقيه الذي يتربص به أعداؤه ـ من التصريح بتجاربه ومشاهداته، في بيان مشرق عذب، لم يتكلف فيه تغطية العبارات والألفاظ..
وترك مؤلفات كتبها بلغت عدتها أربعمائة بين كتب طوال ورسائل قصيرة كالمقالات .. ذلك أن ابن حزم كان حين يعكف على القراءة والكتابة لا يخرج عما أخذ فيه، ولا يسمح لأي ظرف مهما يكن خطره بأن يعطله!
وكثيرا ما كان يرفض الخروج من غرفة عمله، ويأمر برد زواره وقاصديه! ولقد أغضب بسلوكه ذاك. كثيرا من أصدقائه والمقربين إليه، ولكنه كان يعتذر إليهم إذا خرج من عمله يستروح، فلولا أنه يأخذ نفسه بالشدة في العمل، لما أتيح له أن ينجز شيئا .. والعمل عنده عبادة، ولئن اعتكف العابد ليتعبد، فما ينبغي أن يصرفه عن شأنه أي طارق حتى يفرغ مما هو فيه!
ولد علي بن احمد بن سعيد بن حزم، في آخر شهر رمضان قبيل شروق يوم عيد الفطر عام 384 هـ، في قرطبة حاضرة ذلك الزمان. كان أبوه وزيراً للخليفة الأموي هشام المؤيد وهو من أواخر الخلفاء الأمويين في الأندلس ..
ولد ابن حزم في قصر فاخر، فقد أصاب أجداده وأبوه ثروة ضخمة، فترك أبوه منازل الأباء في غربي قرطبة حيث يسكن أوساط الناس، واتخذ لنفسه قصرا منيفا في حي السادة شرقي قرطبة، على مقربة من دار الخلافة.
تفتحت عينا الصبي على مجال الترف، ومسارح المتاع، ومغاني الجمال، في قصر أبيه الشامخ على مرتفع يشرف على كل قرطبة، محاطا بحدائق واسعة، ترتفع فيها الأشجار، ويصوغ الزهر، ويغرد الطير، وتنساب الجداول الصغيرة، ويتفجر الماء في نافورات منمنمة الحواشي والجنبات بالفسيفساء...
على مرائي الجمال ومغان الحسن تلك تفتحت عيناه .. فما سمع في طفولته غير الشدو، والغناء، وما رأى غير الوجوه الصباح، وخضرة الحدائق، وروعة ألوان الطبيعة الفتانة، وما ملأ صدره إلا بشذي الزهر وعطر الفاتنات .. الجبال على البعد تجلل هاماتها الثلوج وتغمر الخضرة الريانة كل سفوحها .. وهمس الجداول، وخرير الأنهار، ورنين الضحكات الفضية، وعطر الأنسام، وحلاوة الأنغام واتساق القدود، ونضارة الخدود والتماع الأضواء على الملابس الزاهية تلف القامات المتأودة .. أشعة واهنة من الشمس تتسلل من وراء السحاب وتتخلل الأغصان اللفاء، فتوشي الظلال على الأديم ذي الأعشاب .. منابر الذهب والفضة .. هذا هو كل ما عرفه ابن حزم منذ نشأ حتى وثب به الصبا على أوافل الفتوة .. وبلغ أولى سنوات الشباب ..
وهو في الخامسة عشرة، تمرد على الخليفة هشام المؤيد أقرب الأمراء إليه، فساقوا جيشا من العرب والبربر والفرنجة فأسقطوا الخليفة، وولوا مكانه رجلا آخر من بني أمية .. وعزل الحاكم الجديد والد ابن حزم من منصبه واعتقله، ثم أفرج عنه، بعد حين ..
قال ابن حزم: "شملنا بعد قيام أمر المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والتغريب والاغرام الفادح .. وأرزمت الفتنة وخصتنا، إلى أن توفى أبي الوزير رحمه الله ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنين وأربعمائة" ..
كان ابن حزم في الخامسة عشرة حين سقط الخليفة هشام المؤيد، وعزل أبوه من منصب الوزارة، وصادرت الدولة الجديدة قصره في شرقي قرطبة وما وصلت إليه من أمواله .. وبقى للأسرة بعد ذلك شيء .. منازل قديمة في غربي قرطبة انتقلت إليها، وضياع ودور متفرقة في أرجاء الأندلس.
ولقد عاش أبوه معتزلا الناس أربع سنوات بعد النكبة، ثم مات حزينا محسورا، وتآمر الفرنجة والبربر وبعض بني أمية على الحاكم الجديد، فوثبوا عليه، وولوا مكانه رجلا آخر، وعاثوا في قرطبة فسادا فنهبوا الأموال وانتهكوا الحرمات واغتصبوا النساء.
وهاهو ذا الآن يصبح وحيدا بعد أن قتل أبوه الوزير صبرا وكمدا. ترك الفتى قرطبة باكيا، وكتب يصف حالته "ضرب الدهر ضرباته. وأجلينا عن منازلنا، وتغلب علينا جند البربر، فخرجت عن قرطبة أول المحرم عام أربع وأربعمائة" .. كان إذ ذاك في العشرين .. فتى مثقل القلب بالهموم، تضطرم أعماقه بالإصرار على أن يغير هذا العالم المثخن بالفوضى والمظالم والفساد.! لقد علمه أبوه الوزير وثقفه لكي يصبح وزيرا مثله، فقد كانت الوزارة في ذلك الزمان تورث كما يورث الملك! وقد علمه أبوه منذ بدأ يعي، أنه قرشي من بني أمية .. جاء أجداده مع الفتح الإسلامي. علمه أن جده الأعلى كان أخا بالولاية ليزيد بن أبي سفيان الذي بعثه أبو بكر الصديق في أول بعثة لفتح الشام ..
وإذن فمعاوية عمه، وأجداده هم الذين فتحو الأندلس وأقاموا فيها الدولة العظمى .. فالوفاء لأسلافه يقضي عليه بأن ينتصر للأمويين، ويدافع عنهم، ويدعم دولتهم .. فإذا سقطت هذه الدولة فالوفاء يقتضيه أن يعمل من أجل إحيائها..! .. فإذا تصارع أمراؤها فليعتزل هو الصراع!.
كان قبل، قد نال قسطا من التعليم. وما أرسله أبوه ليتعلم في حلقات الجامع، أو عهد به إلى مدرس .. بل آثر أن يعلمه في القصر. ولأن أباه كان خبيرا بما آلت إليه الحياة من فساد وتفسخ، لم يشأ أن يعهد بهذا الطفل إلى معلمين من الرجال .. بل اختار له معلمات من النساء من قريباته من الجواري .. وكانت من نساء قرطبة فقيهات وراويات شعر ومقرئات ومحدثات وطبيبات وعالمات بالفلك والفلسفة.
ربى ابن حزن في حجور النساء كما قال .. ولازمهن حتى بلغ مرحلة الشباب .. وأتاح له لزومهن معرفة كثير من أحوالهن وأسرارهن، ودراسة خلجات قلوبهن، والإطلاع على ما يملكن من فضائل ورذائل.!
كتب عن هذه المرحلة من صباه فيما بعد، فأعلن عدم ثقته بالنساء، وحكم عليهن في ألفاظ مكشوفة أنهن ما لم يشغلهن العلم أو العمل متفرغات البال للرجال.
"قرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم، يوكل ثقة له بنسائه، يلقي عليهم ضريبة من غزل الصوف، يشتغلن بها أبد الدهر، فالمرأة بغير شغل إنما تشوق إلى الرجال... ثم يقول: "لقد شاهدت النساء، وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري لأني ربيت في حجورهن، نشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب" ثم يسترسل "… وهن علمنني القرآن، وروينني كثيرا من الأشعار، ودربنني على الخط، ولم يكن وكدي (أي همي)، وأعمال ذهني منذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدا إلا تعرف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك وأنا لا أنسى شيئا مما أراه منهن. وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها وسوء ظن في جهتهن فطرت به، فأشرفت من أسبابهن على غير قليل.
ويعترف أنه منذ الطفولة قد اطلع من أسرار النساء والرجال على أمر عظيم، وأصل ذلك أني لم احسن قط بأحد ظنا في هذا الشأن، مع غيرة شديدة ركبت في ...
عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الغيرة من الايمان) ، رواه البزار.
فلم أزل باحثا عن أسرارهن، وكن قد أنسن مني بكتمان، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن، ولولا أن أكون منبها على عورات يستعاذ بالله منها، لأوردت من تنبههن في السر ومكرهن فيه عجائب تذهل الألباب .. ثم يضيف: "أني لأعرف هذا وأتقنه، ومع هذا يعلم الله وكفى به عليما أني برئ الساحة" .. وثم يقسم بأغلظ الأيمان على عفته، وأنه لم يقترف حراما قط.!
وابن حزم يروي ذكريات طفولته عن النساء اللائى عهد إليهن أبوه بتربيته .. وهن كما قال من الجواري المهذبات ومن قرابته. وكان أبوه يزوره خلال الدرس ليطمئن عليه، وقد أقام عليه رقباء ورقائب من الشيوخ والنساء العجائز. على أنه صبا إلى شقراء منهن فامتنعت منه ولاحقها في شرفات القصر عسى أن تبادله ما يحس، فيستوهبها أباه، ولكنها ظلت تتمنع فأباها عليه أبوه، ووهبه شقراء أخرى، ولكن الفتى لم يستطع السلو عنها سنوات .. فزوجه أبوه من شقراء أجل من تلك، ووهبه جارية شقراء أيضاً، وعاش ابن حزم لا يستحسن غير الشقراوات كما قال ..
وكان قد حفظ القرآن وقدرا صالحا من الشعر وجود الخط .. وأن له أن يفارق مدرسة النساء إلى حلقات الرجال. واختار له أبوه عالما زاهدا ناسكا فاضلا، وتحرى الأب أن يكون معلم ابنه حصورا..
كتب ابن حزم "وأني كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة، وتمكن غرارة الفتوة مقصورا، محظورا على بين رقباء، ورقائب (من النساء)، فلما ملكت نفسي وقلت صحبت أبا الحسن بن علي علي الفاسي. وكان عاقلا عالما ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح، وفي الزهد في الدنيا، والاجتهاد للآخرة. ودينا وورعا، فنفعني الله به كثيرا، وعلمت مواضع الإساءة وقبح المعاصي. ومات أبو الحسن رحمه الله في طريق الحق .."
صحب ابن حزم هذا الشيخ الذي اختاره له أبوه، فأنتزعه الشيخ من كل دواعي الإغراء لمن هو في مثل سنه، فما كانت النساء تحجب عن الرجال، وكان هذا كما يقول ابن حزن هو جاري العادة في التربية ببلاد الأندلس.
بدأ الجلوس إلى شيخه وهو في نحو السادة عشرة وصحبه إلى حلقات علماء التفسير والحديث واللغة.
بهر الفتى أشياخه بسرعة استيعابه، وقوة حفظه، ودقة فهمه .. وبعد أن استوعب ابن حزم ما في مجالس القرآن والتفسير، صحبه شيخه ومربيه إلى حلقات الفقه.
حتى إذا خرج مربيه إلى الحج فمات في بعض الطريق، استقل ابن حزم بحضور الحلقات وقد علم من شيخه الراحل قدر كل واحد من أصحاب الحلقات .. فلزم الحلقات بالجامع الكبير بالجانب الغربي من قرطبة، حيث يعيش أواسط الناس وسوادهم، وأهل العلم والطلاب. وفي هذه الحلقات عنى إلى جانب علوم الدين بدراسة النحو وعلوم اللغة والفلك والفلسفة والمنطق وسائر المعارف الإنسانية الموجودة في عصره.
ولقد اهتم بالنحو اهتماما خاصا، وأدرك أن إتقان النحو هو سبيله إلى فهم النصوص. ذلك أنه كان قد شهد عجبا مما يؤدي إليه الجهل الشائع بالنحو. حتى لقد تفكه بحكايات عن ذلك فيما بعد .. فروي أن رجلا كان يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة "وكان عديم الورع قليل الصلاح. فخطبنا يوم الجمعة في جامع قرطبة فتلا في خطبته: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) فقرأها بنونين (عننتم). فلما انتهت الصلاة جاءه بعض تلاميذه وكانوا يأخذون عنه رأي مالك، فذكروا له الآية صحيحة، فأنكرها وزعم أنه هكذا تعلمها وهكذا يعلمها. فلما احتكموا إلى المصحف، دخل وعاد بالمصحف وقد حذف نقطة من ناء عنتم، لتكون نونين!" ..
ويروى عن مقرئ أخر يعلم الناس القرآن، وهو عربي بل قرشي، "وأحد مقرئين ثلاثة كانوا يقرئون العامة في قرطبة"، وكان لا يحسن النحو، فقرأ عليه قارئ يوما في سورة ق .
{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (سورة ق ، الآية : 19 )
فرد عليه القرشي "تحيد بالتنوين". فراجعه القارئ وكان يحسن النحو، فلج المقرئ وثبت على "التنوين". وانتشر الخبر، حتى وصل إلى فقيه كان صديقا لذلك المقرئ، "فذهب إليه وقال للمقرئ القرشي: "انقطع عهدي بقراءة القرآن على مقرئ، وقد أردت تجديد ذلك عليك". فسارع الفقيه إلى ذلك. فبدأ يقرأ من سورة ق حتى إذا بلغ إلى الآية المذكورة ردها عليه المقرئ بتنوين كلمة (تحيد). فقال الفقيه للمقرئ: "لا تفعل ما هي إلا غير منونة بلا شك". فلج المقرئ. فقال له الفقيه: (يا أخي أنه لم يحملني على القراءة عليك إلا ردك إلى الحق في لطف، وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو .. فإن الأفعال لا يدخلها التنوين البتة). فتحير المقرئ ولم يقتنع حتى جاءوا بالمصحف وبعدد من مصاحف الجيران فوجدها مشكولة بلا تنوين".
ظل ابن حزم يدرس العلوم الدينية واللغوية والعلوم الإنسانية ودرس الكتب المترجمة في الأدب والفلسفة والخطابة والفلك. ودرس الرياضات. ودرس الشعر العربي وأخبار العرب والتاريخ.
ولقد درس العلوم الدينية على مذهب الإمام مالك، وكان هو المذهب الرسمي للدولة، فقد فرضه الأمويون، وما كانوا يعينون قضاة أو يسمحون لفقيه أو عالم، بالفتيا أو إلقاء الدروس، إن لم يكن من اتباع الإمام مالك .. ولم يسمحوا لمذهب غيره بالوجود في الأندلس، كما فرض العباسيون في المشرق مذهب الإمام أبي حنيفة .. ولهذا قال ابن حزم: "مذهبان انتشروا بقوة السلطان، مذهب أبي حنيفة في المشرق ومذهب مالك في المغرب".
انكب ابن حزم على طلب العلم .. حتى أصبحت قرطبة مسرحا للحرب بين الأمراء الأمويين في صراعهم الداخلي يرمون قرطبة بجند البربر وعسكر الفرنجة على قرطبة الشماء، ليفسدوا فيها الدماء .. حتى لقد قتلوا نحو عشرين ألفا من أهلها من بينهم عدد كبير من العلماء والفقهاء والمقرئين والقراء وشيوخ المساجد!
فرحل الشاب إلى مرية بعيدا عن قرطبة ليقيم في ضيعة لأهله هناك، وفي أعماقه ينزف القلب الممزق، ويحتدم في صدره الشوق إلى أن ينفذ الإسلام وأن ينشل الأندلس بأسره من كل هذا الهوان ..!
ولكن كيف؟! ما عساه أن يصنع هو وحده، وهو بعد طالب علم في الثانية والعشرين، بلا جيش ولا نصير!؟
فليتفرغ هناك لدراسة كل ما بين يديه من آثار في الدين والفكر، وكل معطيات العقل الإنساني .. فليعمر عقله بالعلم وقلبه بالأمل حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .. وعندما يجئ الوقت، سيشرع قلمه ليواجه الفوضى، والعار، والفساد بأقوى مما يستطيعه السيف البتار!...
وفي المرية، وجد عددا كبيرا من الشيوخ ممن هاجروا في أرض الله الواسعة، نأيا بأنفسهم عن مضطرب الفتنة والدماء في قرطبة المنتهكة، التي غمرت أجواءها العطرة الطيبة، رائحة الموت، والحياة المتعفنة، ورائحة العار ..!
ولزم ابن حزم من وجد في "المرية" من شيوخ قرطبة وأخذ عنهم، وقسم وقته بين حضور الدروس في المسجد، والقراءة في البيت .. وظل على هذا الحال نحو ثلاث سنوات.
ولكن الأمراء الأمويين في صراعهم على السلطة سقطوا جميعاً فآل الأمر في قرطبة إلى آل حمود .. وهم علويون، وبين الأمويين والعلويين خصام متقد!
استولى العلويون على قرطبة، وبسطوا سلطانهم على كثير من أقطار الأندلس، فتوجس ابن حزم في نفسه خيفة مما قد يقع له .. فهو ابن أسرة تنتمي للأمويين.
وصحت مخاوف ابن حزم طالب العلم الذي أصبح في الخامسة والعشرين، إذ أوقع به والي "المرية"، واتهمه بالتآمر مع صاحب له ليعيدوا ملك بني أمية .. فاعتقله هو وصاحبه شهرا ثم أمر بإبعادهما. فتطوع أحد أصحاب حاكم "المرية" باستضافة ابن حزم وصاحبه .. يقول ابن حزم "فأقمنا عنده شهورا في خير دار إقامة، وبين خير أهل وجيران، وعند أجل الناس همة، وأكملهم معروفا، وأتمهم سيادة، ثم ركبنا البحر قاصدين بلنسية عند ظهور أمير المؤمنين المرتضى عبد الرحمن بن محمد وساكناه بها.
كان المرتضى عبد الرحمن بن محمد حفيد عبد الرحمن الناصر رجلا صالحا، هرب من قرطبة حين اشتعلت فيها الحروب الداخلية بين أبناء عمومته من الأمويين، واعتزل الفتنة، ثم ظهر بعد حين في "بلنسية"، ودعا لنفسه بالخلافة..
بادر ابن حزم بتأييد المرتضى .. فهاهو ذا رجل صالح من بني أمية، على نقيض الأمراء الأمويين الآخرين الذين أباحوا قرطبة جيوش البربر والفرنجة، وارتضوا أن يؤدوا الجزية للفرنجة ليستعينوا بهم في الصراع على الحكم!
وكان المرتضى متفقها يعرف ابن حزم عنه التقوى وحسن الدين، ويتوسم فيه أن سيعيد مجد جده الأعلى عبد الرحمن الناصر، أيام نهض يوحد الأندلس، ويستعيد فيه عظمة الإسلام، فسعى في عمارة الأرض وجعل من قرطبة حصنا حصينا للإسلام، ومشرقا لنور المعرفة، وجعل متنزهاتها ندوات للثقافة والجدل الفلسفي، يتمشى فيها المفكرون يجادلون ويعلمون، كما كانت أثينا في عصورها الزاهرة.
وكان المرتضى عبد الرحمن بن محمد نفسه يريد أن يعيد قرطبة والأندلس كله إلى أيام جده حين كان ملوك أوروبا وأمراؤها يسعون إليه أو يقدمون له الجزية، وحين كان العلماء والفقهاء والمفكرون والكتاب والشعراء هم قسمات الوجه المضيء لقرطبة، ودولة الإسلام في الأندلس!
ولكن المرتضى عبد الرحمن بن محمد لم يكن يملك من مواهب رجل الدولة إلا الصلاح وحسن النية والرغبة الصادقة في الإصلاح .. ولا شيء بعد! .. لا حزم، ولا قدرة، ولا حسن بصر بالرجال، ولا سائر الوسائل التي تكفل النجاح لمن يريد أن يتولى أمر الناس ويقود أو ينشئ دولة.!
ولكن ابن حزم وجد نفسه مندفعا إلى مبايعة الرجل الصالح،عسى أن يستطيعا معا هدم هذا العالم الفاسد وبناءه من جديد على البر والتقوى والنجدة والعدل.
أقام ابن حزم في بلنسية مع المرتضى عبد الرحمن بن محمد يدعو إليه ويحشد له طلاب العلم ويخطب الناس ويطالبهم بأن يبايعون بالخلافة. على أنه ظل خلال نشاطه السياسي العارم، يواظب على حلقات الدرس فيتلقى عن شيوخها.
وذات مرة سأل ابن حزم شيخ الحلقة عن مسألة من فقه مالك، فأجابه شيخه، ولكن ابن حزم لم يقتنع بالإجابة فاعترض، وضاق به الشيخ، فقال له أحد الطلاب المقربين إلى شيخ الحلقة: "ليس هذا من منتحلاتك!" ذلك أنه كان حتى ذلك الوقت ينتحل كتابة الشعر والنثر الفني فحسب، وكان زملاؤه يشدون له بطلاوة الأسلوب ورشاقة العبارة، ولم يستطع ابن حزم أن يرد فما كان يعرف فقه مالك بعد، وضحك منه الشيخ والطلاب.
غضب ابن حزم حتى قام لينصرف من الحلقة، ولكنه كظم غيظه وقعد إلى نهاية الدرس، ثم اعتكف في داره يقرأ النهار والليل في فقه مالك، وفقه الأئمة الآخرين أصحاب المذاهب، وخرج بعد عدة أشهر إلى الناس، فحضر الحلقة التي شهدت السخرية منه .. فناظر الشيخ والطلاب احسن مناظرة، فأدهشهم، وقال وهو ينصرف: أنا أتبع الحق واجتهد، ولا أتقيد بمذهب.
وأثناء انقطاعه لقراءة الفقه، أعجب بمذهب الشافعي، فمال إليه ولكنه لم يتقيد به .. أعجب في الشافعي تمسكه بالنصوص من القرآن والسنة، وعزوفه عن تقليد من سبقه، واستنباطه الأحكام من النصوص، واعتباره الفقه هو النص أو الحمل على النص (أي استخراج الحكم من النص أي القياس عليه).
غير أن ابن حزم لم يلبث أن هجر القياس، ووجد أن ما قاله الشافعي في رفض الاستحسان، يصلح حجة لرفض القياس، وأنه لا حكم إلا فيما تضمنته نصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة إجماعا لا يختلف عليه واحد منهم رضي الله عنهم.
وقد اهتدى إلى هذا الرأي عندما ما كان يقرأ فقه الإمام الشافعي .. وما كتبه الآخرون عنه، فوقع على كتاب داود الأصبهاني عن مناقب الشافعي .. وأعجب الشاب بالأصبهاني وكتابته، وحاول أن يتتبعه ولكنه لم يجد في بلنسية ما يغنيه .. لو أنه يعود إلى قرطبة أم المدائن في الأندلس! ففي قرطبة مهما يكن من أمر ما ليس في غيرها من المدائن!
ولقد عاتبه بعض أصدقائه في موقفه من المذهب المالكي، فقال لهم أن الإخلاص للإسلام هو الذي دفعه إلى أن يترك المذهب .. وما يبالي هو ما يكون من أمر، مادام الإخلاص للإسلام هو رائده فيما يأخذ وما يدع من الأمور! ويروى لهم أن عيسى عليه السلام سأله أحد الحواريين ما هو الإخلاص ومن المخلص فقال عليه السلام: "المخلص من إذا عمل خيرا لا يهمه أن يحمده الناس".
عاد ابن حزم يدعو إلى المرتضى عبد الرحمن بن محمد، حتى اجتمع للمرتضى جيش يصلح للزحف، فقرر أن يزحف إلى غرناطة فيستولي عليها، ويجيش من أهلها عسكرا كثيفا يستولي به على قرطبة التي أمتنع فيها العلويون.
وسار ابن حزم مع الجيش تحت راية المرتضى ولكن الجيش لم يصل إلى غرناطة. فقد اغتيل المرتضى وهزم جيشه، ووقع ابن حزم في الأسر! وبعد حين أطلق من الأسر، فاختار أن يعود إلى قرطبة ليتفرغ للعلم بعد أن غاب عنها نحو ستة أعوام.