بئر لمى
لمى الروقي وبئر الأحزان
حنان العبدالعزيز
كانت الطفلة الجميلة ذات الأربع السنوات تضفر نصف شعرها في جهتين ثم تسدل باقيه الناعم القصير على كتفيها فتهزهما في رقة متجاوبة مع أنشودة جميلة تتردد في سيارة والدها مرتدية فانيلة صوف أنيقة فوقها (شيال) جنز كانت تبدو كعصفور لطيف بحركاتها ولفتاتها الرقيقة ،بينما والدتها تقوم بتصويرها باسمة حاملة أختها ذات السنة والنصف في حجرها والأخت الكبرى ذات الثمان سنوات تجلس في الطرف الآخر من المقعد الخلفي مجاورة ل(لمى) .كان الوالد يقود السيارة مستمتعا بفرحة أسرته الصغيرة فخورا بقيادته لهن باحثا عن أجمل مكان في نزهتهم البرية لملكات قلبه الثلاثة في البرية ليحلقن كطيور لطيفة تتنزه حوله وأخيرا وجد مكانا ذا ظلال وبعيد عن الإزعاج تلفهم الخضرة وتحوطهم النسمات العليلة وتعتليهم سحب لطيفة تفرقت بعد إنجاب أمطار البارحة كانت رائحة المطر بحق منعشة ،زاد المكان روعة القهوة المعدة على السمر الذي كان نكهة المكان الجميلة زاد المكان لطفا صيحات الصغيرات المسرورة وهن يلهون بالقرب من والديهن المستندين على سيارتهم يراقبون لهوهم بغبطة جاءت شوق تتسابق مع لمى حاملات كرات الطين واللاتي أبدعن في صنعها ليعرضنها على والديهن كن مسرورات بحق فقد أنتهت الدراسة وإبتدأت عطلة الصغار الربيعية ،ثم عدن في كرة أخرى إلى اللعب خلف السيارة وبينما الأب يحتسي الشاي سمع فجاءة صراخ شوق وبكاءها :بابا ..بابا ألحقنا لمى يابابا لمى !!
فزع الوالد وهب واقفا ليرى شوق تجري في فزع تسقط تارة لتنهض تارة متعثرة يملأ الغبار وجهها وثيابها :بابا ..بابا لمى سقطت في الحفرة بابا ..طلعها ..ركض الوالدين ناحية الحفرة ليروا حفرة صغيرة مظلمة لايرى لها قاعا كانت تغطيها بعض الحشائش الصحراوية..
أخذ الوالد يصرخ في هستيرية لمى ..لمى ..لمى ردي علي يابنيتي
تردد الوالدة معه نفس النداء وسط بكاء الطفلتين ،،لكن ليس هناك أيه صوت ولا إجابة ظل الوالدين يطلقان نداءاتهما في هستيرية بينما شوق تدعو لمى للخروج لإكمال لعبهما ...
غطت المكان سحب سوداء أحس الوالد بالوجل فمهما بلغ من قوته هناك ما يعجز المرء عنه فإتصل بقوات الدفاع المدني التي حضرت ولكن البئر كان عميقا جدا فأحضروا معدات للحفر بعد استحالة قفز أفراد الدفاع المدني داخل البئر المجهولة والمهجورة ربما من عشرات السنين، بينما بدأت الأمطار في السقوط وبدأت بعض الصخور الصغيرة في الجبال المحيطة في السقوط على أفراد ومعدات الدفاع المدني فعدل المسئول عن إكمال الحفر في هذه الظروف سيما وقد إشتد الظلام برغم إحضار كشافات مضيئة لكن الأب رفض توقف الحفر فظل جالسا قرب البئر ينادي لمى ويدعوها للصبر حتى يخرجها من البئر ولم ينس رمي بسكوتها المفضل مع عصير لعلها تتزود حتى يطلع الصباح ويخرجها ،كانت الرياح تهز الشجيرات المحيطة فيخيل للأب أن لمى تبكي وتستحثه على إخراجها فقد هزها البرد وتريد النوم في أحضان والدتها فكان يبكي عند البئر داعيا الله بالفرج ،توقف الحفر والبحث في البئر لحين يبلج الفجر بينما ظل الأب متوشحا فروته السميكة مبتهلا إلى الله بجوار البئر .
أبلج الصبح وعاد أفراد الدفاع إلى الحفر لكن أبدا لم يستطع أحد النزول إلى البئر ولم يستطيعوا الوصول بعد الحفر إلى قراره ..إمتدت الأيام والليالي والوالد لازال ينتظر خروج لمى ويزودها كل فترة ببسكوتها وعصيرها وبعض الماء لعلها تقاوم الجوع وتنتظر حتى يخرجوها وإزداد الناس المؤيدين له ينتظرون خروج لمى ..بينما لازالت والدة لمى تبكي وتنتظر خروج لمى لتلحفها عن البرد ..وبينما لازالت شوق تستحث الوالد على إخراج لمى ليعودان للعب والدرس سوية ..ازدادت المعدات في
الحفريات والعاملين على ذلك لكن يبدو أن البئر ليس لها قرار فلا زالت تتسع كلما أزداد الحفر ولم تظهر لمى رغم مرور عشرة أيام على سقوطها
كان الكثير يدعمون لمى ويدعون لها بل ويتصدقون عنها لعلها تفرج عنها هذه الصدقة وتواصلت الحملة الإعلامية الداعمة لسرعة إخراجها بل والمتطوعين الذين وافقوا على النزول إلى البئر السحيقة وكان هناك الكثير من حملات الدعوة إلى الدعاء للمى وأن ينزل الصبر عليها والفرج والسكينة على والديها وأسرتها..وأخيرا أعلن أحد المتطوعين مع أفراد الدفاع المدني في البحث عن لمى العثور على أجزاء من جسدها الصغير!
نعم لقد توفيت لمى ..وأسدل الستار على قصتها ومعاناتها وأسرتها ..رحمها الله وأسبغ عليها شآبيب رحمته وربط على قلوب أهلها الكرام !
ولكن هناك بعض من الدروس والتي أتمنى أن يستفاد منها من خلال قصة لمى الروقي من أهمها:
1-ضرورة توفير منتزهات برية في كل منطقة تحت إشراف الدولة الكريمة أبقاها الله تكون فيها حراسات وتحذيرات ويكون فيها خرائط بتفاصيلها للمنتزه ويمكن إستغلال خبرات خريجي وخريجات الجغرافيا في مسح المناطق الملائمة للتنزه البري وعمل خرائط لها تعين على تحديد الأماكن الملائمة والغير ملائمة للتنزه ويتم توظيفهم في هيئات السياحة والآثار أو بلديات المناطق المختلفة .
2-كل شئ بأمر الله ولايمكن أن يلوم الإنسان نفسه على واقع ليس بيده تغييره والتوكل على الله وتفويض الأمر لله من مقومات الحياة الإيمانية الصحية لكن ينبغي الحذر من التنزهات البرية أثناءأو بعد فترة الأمطار بفترة بسيطة حيث تكون التربة عرضة للإنهيارات بفعل الأمطار .
3-ينبغي على امانات مناطق مملكتنا الحبيبة متابعة الآبار القديمة وردمها وحصرها أيضا عبر توظيف خريجي أقسام الجغرافيا والتاريخ في فروع
الأمانة حيث يزودون بالخرائط القديمة للمناطق الحاوية للآبار القديمة والمراجع القديمة ومحاولة تحديثها وتحديد أماكن الآبار لردمها مع إلزام أصحابها إن وجدوا بتسويرها ووضع لافتات وتغريمهم في تأخر ذلك وإلزام الجهة صاحبة البئر المهجورة بتعويض المتضررين منها.
4-أن الإنسان مهما بلغ من قوة وعتاد فهو ضعيف أمام قدرة الله وحين رأيت كم الألات والمعدات والأفراد التي حاولت إخراج الطفلة لمى رحمها الله تذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم (واعلم ان الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك ،، واعلم ان الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله لك )أو كما ورد في النص فيجب عليك أيها الإنسان عدم الإغترار بقوتك والتسليم بحول الله وقوته .
5-في حياة كل إنسان هناك حلم لم يستطع إخراجه من بئر المستحيل برغم سعيه وربما مساعدة من حوله وقد لا يجد سوى أشلاءه في قلبه فيجب عليه عدم الإنكفاء حول البئر وربط الأمل برب السموات والسعي بإصرار المؤمن والتقبل والإنصياع والرضا بقضاء الله !