منذ ألف سنة كان السفر إلى اليمن على الأقدام يحتاج إلى أعوام .. يحمل المسافر خيمته وزاده وزواده وزكائب التمر والبلح والخبز المكسر ويتوكل على الله ..
وبين الفيافي والجبال والوهاد والأحراش يطل عليه الموت من أنياب ذئب جوعان أو قاطع طريق متربص او حرّ لافح يقصم الظهر أو برد قارص يثلج العظام .. فإذا وصل سالما فهو قد ولد من جديد .. وهي الفرحة التي لا تدانيها فرحة ..
والمليونير على أيامها لم يكن يمتاز على الصعلوك إلاّ في الخيول المطهمة .. كان الفرس هو السيارة التي تختصر الأعوام في شهور وكانت هذه هي سرعة البرق فيما مضى .. وعرفنا السفن الشراعية لننتقل من أهوال البر إلى اهوال البحر .. يقلع المسافر فيمسك بأنفاسه وقد أدرك أنه أسلم نفسه إلى غول لا يعرف الرحمة ، فإذا وصل إلى بر الأمان دقت له الطبول والمزامير واستقبلته الأحضان وسجد لله شكرا من فرحة الوصول ..
أما اليوم فنحن نقطع المسافات بين فرنسا وأمريكا في ساعات قليلة معدودة ونشعر طول الوقت بالملل والضجر والبطء ، وننظر إلى ساعتنا حتى إذا وصلنا سالمين بدأنا نسب ونلعن لأننا تأخرنا نصف ساعة !! .. ونركب الطائرة النفاثة لنصل إلى بيروت في دقائق ونشكو مر الشكوى لأن الضباب والعواصف أخّرت وصولنا عشر دقائق !!
وحينما نسافر غدا بالصواريخ إلى المريخ سوف نكون أكثر ملل وتعجّلا وسنقول : ما هذه الصواريخ اللكّع ؟ ألا يعرفون في مصلحة الصواريخ قيمة الوقت ؟!!!
وسوف تتضاعف قيمة الوقت بالفعل ..
ستكون الساعة كافية للدوران حول العالم وسيكون الشهر مهلة عظيمة لجولة في المجموعة الشمسية ..
وسوف تزداد الإمكانيات ولكن سوف تتضاءل السعادة ..
كلما ازدادت الإمكانيات ازداد الطمع ...
وكلما ازدادت السرعة ازدادت العجلة ..
وكلما ازداد الترف ازدادت الشكوى ..
تماما مثل حكاية الغني الذي يزداد طمعا كلما ازداد ثراء ...
وهذا شأن المكاسب المادية .. كلما ازدادت ، ازداد الافتقار إليها وإلى المزيد منها وبالتالي ازدادت التعاسة ..
لأن السعادة موطنها القلب وليس الجيب ولا عبرة فيها بازدياد الإمكانيات المادية ..
السعادة يا إخواني تنبع من الضمير ، ومن علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بالله وهي أصلها شعور ديني وليست شعورا مادياّ ..
وهي تنبع من احساس الإنسان بأنه ليس وحده وأن الله معه ، وأن العناية تحوطه والإلهام الخيّر يسعفه ، وأنه يقوم بكل واجباته ..
ولهذا يمكن أن ينتحر مليونير يملك باخرة وطائرة وعدة ملايين من الدولارات في حين تجد المؤمن الذي يعيش راض قنوع بما قسّمه الله له في سكينة داخلية لا حدّ لها ، ويسارع إلى نجدة الآخرين في محبة وسعادة ، لأنه يؤمن بأن للحياة معنى وحكمة ، وأنها لم تخلق عبثا ، وإنما خلقها العادل الرحيم