حُبّ الإدارة
صالح شاب طموح .. كل ممنوع لديه مسموح .. يكره الدروس .. يبغض كل النفوس .. علمه قليل ..
دائماً ذليل .. يكره العمل .. ولا يُرجى منه أمل . بسببه طلابه أغبياء .. لا يُفرقون بين الباء والياء ..
يهوى التأخير .. والعداوة والتزوير ..
زوجته إلهام . كثيرة الخصام والكلام . مُسيطرة على روحه ، نازفة كل جروحه . يدّعي بأنها تخلل شعره بأصابعها . وتمسح وجهه بقطرات من مدامعها . من دونها عقله غثّ ، وجسمه رثّ ، يقول عند ذكرها : أحبك إلى يوم البعث !
هذه بعض أحوال صديقي الفاضح ، الذليلة المكتملة الملامح ، إنه بكلّ حياءٍ الأستاذ .. صالح ..!!
جلسنا حول دائرة ، كل ينظر وينتظر الأقوال الجائرة . جلس المدير . شهيقه غبن ، وظلمه زفير. بدأ الاجتماع المرير .
يا سادة يا كرام ، يا أصحاب الأعقل واللثام ، أنتم لئام ..! تتأخرون في المهام . يزأر جوال المدير بحنين فيردّ متمتماً : نعم .. نعم .. يا أمّ ياسمين ، أنا في اجتماع مع المعلمين ، كيف ؟ لا لا .. لا عليكِ ، سأكذب عليهم طبعاً لكن دون أن أُقسم اليمين ..!
في أقصى الدائرة حيث الحشرات الطائرة ، يجلس محمد وأمين ، تخصص الأول دنيا والآخر دين ، محمد يداعب أمين : ماذا دها هذا المسكين ؟! انزوى خجلاً حين كلّم أمّ ياسمين ، ردّ أمين : أحسن الظن بالمسلمين ..! بجانبهم خالد ، يركل أمين في قدمه اليمين ، ما حكم المضاربة مع المستثمرين ؟! أحسّ أمين بقوة الضربة ، فلكمه في صدره وخدش له الجبين ، هنا الضرب لمثلك جائز ، وبالنسبة للأسهم فلست للعلم حائز ..!
يقفز صالح كالمتسول الضرير ، يا سعادة المدير ، يا سعادة المدير ، أريد أن أحضر زوجتي المصون ، عاهدتها عند زواجنا أن أُحضرها ولا أخون ، أحبها .. أحبها بجنون .
يقول محمد لأمين : هذا مفتون ، غلبت عليه الظنون ، وقلبه أصبح مأسور .
يأتي لقمان مسرعاً ، وللصوت مشرّعاً ، مدير .. مدير .. كلم أمّ العيال ..!
نعم .. نعم .. يا أمّ الغراب ! نعم أمرت لقمان بالذهاب ، الآن .. لا .. لا .. قلت لك أنا في اجتماع ، والآن ليس وقت عتاب ، لا تكثري فيّ العذاب .
يستطرد المدير في بلادة : عفواً يا سادة ، الجوال يُمنع في المدرسة ، من يُحضره سأعرض يده للشلل ، يُمنع التأخر عن الحصص ، يُمنع الإكثار من القصص ..!
يهمس صالح في جواله باهتمام : نعم .. نعم يا إلهام ، سآتي بعد انتهاء المهام ، أظنه اجتماع لن يرقى لمقام . ينتبه المدير لصالح : ما بك يا أستاذ صالح ؟! ألم يُعجبك كلامي ؟!!
لا .. لا .. لا أبداً يا صاحب المعالي ، ولكني أسمع تغريدك فينطلق لساني ..!!
لا تبال ، لا تبال ..!
يُحاور خالد أمين : ما حُكم النياحة على الميتين .. ؟ يعتدل أمين فوق كرسيه الحصين ، ويمطّط وجهه الحسين : النياحة يا أخا المسلمين ..
...
يقاطعهم المدير : اسمعوا ولكلامي اخضعوا !
يدق جوال المدير المستزين : نعم .. نعم .. يا أمّ ياسمين !!
أهلاً .. أهلاً .. حبيبتي ياسمين ، كيف حال المدرسة ؟ هل أجبتِ في الحساب والهندسة ؟ ماذا طبخت مربيتك سندسة ؟
ينتبه المدير لنفسه ثم يدّعي الزمجرة ، أنا في اجتماع يا ياسمين ، سلامي للموجودين !!
يُمنع يا إخوة النوم ، وأكل الحب والثوم ، يُمنع الجلوس ، والكبت في النفوس ، يُمنع التقويل والصياح والعويل ..!
يخرج صالح من الاجتماع مسرعاً ، لن أجلس ، لن أستكين ، فزوجتي أهم من كل المشتكين ..!
...
يتغاضى المدير . يُمنع الخروج من دون إذني ، يُمنع المساهمة بغير اسمي ..! يُعيد خالد السؤال لأمين : هل يجوز المضاربة مع المستثمرين ..؟! يشتاط غضباً أمين ، ويتكئ على شقه اليمين ، يا مدير المدرسة : من جورك اصبحنا أعقاباً متكدسة ، تُجامل صالح زميلنا ، مع أنه في العمر أصغرنا ، يخاف من زوجته قبل طلابنا ، يستحلي النوم في الفصول ، يسرح ويمرح عند الخروج والدخول ، غيابه قائم ، وصياحه دائم ، يتعمد نزف الجراح ، حتى في طابور الصباح .
أطفأت ضوء الشمس في الممرات والساحات ، كوّنت سحباً تمطر استجوابات وإنذارات ، أصبحنا صيداً سهلاً للنعرات ..!
وكأن المدير لم يسمع صعق الحق والحقيقة : يُمنع قول الحق والحقيقة ، يُمنع حمل العصا والحقيبة ،
يتذكر المدير صالحاً وإساءته ، فيشعل غاضباً سيجارته ..! يُمنع التدخين ، والقفز والتطبيل ، يُمنع التباكي ، والوقوف مع الشاكي ، يُمنع السؤال في كل الأحوال .. !!
يأتي لقمان متأبطاً خطاباً كوجهه الدّميم ، يا مدير .. يا مدير .. جاءك هذا التعميم ، قرأه المدير بقلبه قبل لبّه ، مكتوب في صُلبه ، نشكركَ على خدماتك الطوال ، وعلى ضياعك لجميع الأعمال ، ونُخبرك بأنك مُقال ، وبأن من يخلفك أكفأ منك وفالح ، يحضر الحصص ، ويكتب القصص ، إنه جامع كل الممالح ، إنه الأستاذ القدير " صالح" .. !!
تأليف عمر الدرويش