وسعة في الرزق:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (الأعراف :96)
بركات السماء بالمطر ، وبركات الأرض بالنبات والثمار ، وكثرة المواشي والأنعام ، وحصول الأمن والسلامة ، وذلك لأن السماء تجري مجرى الأب ، والأرض تجري مجرى الأم ، ومنها يحصل جميع المنافع والخيرات بخلق الله تعالى وتدبيره .الرازي
يقول صاحب الظلال : إن الإيمان بالله ، وتقواه ، ليؤهلان لفيض من بركات السماء والأرض . وعدا من الله . ومن أوفى بعهده من الله؟ بركات مفتوحة بلا حساب . من فوقهم ومن تحت أرجلهم . والتعبير القرآني بعمومه وشموله يلقي ظلال الفيض الغامر ، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر من الأرزاق والأقوات . .
ونحن - المؤمنين بالله - نتلقى هذا الوعد بقلب المؤمن ، فنصدقه ابتداء ، لا نسأل عن علله وأسبابه؛ ولا نتردد لحظة في توقع مدلوله . . نحن نؤمن بالله - بالغيب - ونصدق بوعده بمقتضى هذا الإيمان . . ثم ننظر إلى وعد الله نظرة التدبر - كما يأمرنا إيماننا كذلك - فنجد علته وسببه! وهذه كذلك من مؤهلات النجاح في الحياة الواقعية .
وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح ، عاملة في الأرض ، متطلعة إلى السماء ، متحررة من الهوى والطغيان البشري ، عابدة خاشعة لله . . تسير سيرة صالحة منتجة تستحق مدد الله بعد رضاه ، فلا جرم تحفها البركة ، ويعمها الخير ، ويظلها الفلاح . . والمسألة - من هذا الجانب - مسألة واقع منظور - إلى جانب لطف الله المستور - واقع له علله وأسبابه الظاهرة ، إلى جانب قدر الله الغيبي الموعود . .
والبركات التي يَعِدُ الله بها الذين يؤمنون ويتقون ، في توكيد ويقين ، ألوان شتى لا يفصلها النص ولا يحددها وإيحاء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان ، النابع من كل مكان ، بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان . فهي البركات بكل أنواعها وألوانها ، وبكل صورها وأشكالها ، ما يعهده الناس وما يتخيلونه ، وما لم يتهيأ لهم في واقع ولا خيال!
والذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة ، لا صلة لها بواقع الناس في الأرض ، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة! وما أجدرهم أن ينظروا هذه الصلة قائمة يشهد بها الله - سبحانه - وكفى بالله شهيداً . ويحققها النظر بأسبابها التي يعرفها الناس :
ولقد ينظر بعض الناس فيرى أمماً - يقولون : إنهم مسلمون - مضيقاً عليهم في الرزق ، لا يجدون إلا الجدب والمحق! . . ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون ، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ . . فيتساءل : وأين إذن هي السنة التي لا تتخلف؟
ولكن هذا وذلك وهم تخيله ظواهر الأحوال!
إن أولئك الذين يقولون : إنهم مسلمون . . لا مؤمنون ولا متقون! إنهم لا يخلصون عبوديتهم لله ، ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله! إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم ، يتألهون عليهم ، ويشرعون لهم - سواء القوانين أو القيم والتقاليد - وما أولئك بالمؤمنين . فالمؤمن لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه ، ولا يجعل عبداً من العبيد ربه الذي يصرف حياته بشرعه وأمره . . ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مسلمين حقاً . دانت لهم الدنيا ، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض ، وتحقق لهم وعد الله .
فأما أولئك المفتوح عليهم في الرزق .
وما معنى البركة؟ . البركة هي أن يعطي الموجودُ فوق ما يتطلبه حجمه؛ كواحد مرتبه قليل ونجده يعيش هو وأولاده في رضا وسعادة ، ودون ضيق ، فنتساءل : كيف يعيش؟ ويجيبك : إنها البركة . وللبركة تفسير كوني لأن الناس دائماً - كما قلنا سابقاً - ينظرون في وارداتهم إلى رزق الإِيجاب ، ويغفلون رزق السلب . رزق الإِيجاب أن يجعل سبحانه دخلك آلاف الجنيهات ولكنك قد تحتاج إلى أضعافهم ، ورزق السلب يجعل دخلك قليلا ويسلب عنك مصارف كثيرة ، كأن يمنحك العافية فلا تحتاج إلى أجر طبيب أو نفقة علاج وكأن يبارك في أولادك فلا يحتاجون إلي دروس خصوصية و ...... تفسير الشعراوي بتصريف
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم * ِوَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة :65-66)
إن تطبيق شرع الله والتزام منهجه واتباع سنة نبيه تكفير للسيئات وفوز بالسعادة ودخول لجنة الفردوس في الدنيا قبل الآخرة
وتأمل معي كيف يكون دخول فردوس الدنيا قبل فردوس الآخرة بأن يأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم .إنه فيض الخير وعموم البركات ولكل نفس ما تمنت وما اشتهت إنه السعادة الغامرة والحياة الرضية والعيشة الهنية .
{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * } (نوح :10-14) إن لزوم الاستغفار صائد للخيرات ومفرج الكربات فيا من تعاني من قلة الرزق وضيق العيش الزم الاستغفار ويا من تتمنى النسل والولد الصالح ويا من ترجو صلاح ولدك الزم الاستغفار يا من تشكوا من أي ضائقة ويا من ترجو أي نفع وتتمني أي خير إنه الاستغفار إنه الركن الركين إن الملك كله بيد مالك خزائن السموات والأرض إنه بيد من {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يــس :82)
وصلة الرحم وهي من الطاعات تبارك في الرزق وتوسعه وتزيد في العمر روى البخاري ومسلم عن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِى رِزْقِهِ ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِى أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ » .
وقوة في البدن:
عن عَلِىٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا ، فَأَتَى النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم سَبْىٌ ، فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ ، فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ ، فَأَخْبَرَتْهَا ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِىءِ فَاطِمَةَ ، فَجَاءَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا ، وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا ، فَذَهَبْتُ لأَقُومَ فَقَالَ « عَلَى مَكَانِكُمَا » . فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِى وَقَالَ « أَلاَ أُعَلِّمُكُمَا خَيْراً مِمَّا سَأَلْتُمَانِى إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعاً وَثَلاَثِينَ ، وَتُسَبِّحَا ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ ، وَتَحْمَدَا ثَلاَثَةً وَثَلاَثِينَ ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ » . البخاري ومسلم
وفي الصحيحين قَالَ عَلِىٌّ مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم . قِيلَ لَهُ وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ قَالَ وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينِ .
يقول ابن حجر : وفيه أن من واظب على هذا الذكر عند النوم لم يصبه إعياء لأن فاطمة شكت التعب من العمل فأحالها صلى الله عليه و سلم على ذلك , كذا أفاده بن تيمية وفيه نظر ولا يتعين رفع التعب بل يحتمل أن يكون من واظب عليه لا يتضرر بكثرة العمل ولا يشق عليه ولو حصل له التعب والله اعلم ( فتح الباري - ابن حجر )
ويعضد ذلك قول النبي صلي الله عليه وسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَاداً الْمَلاَئِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ إِنْ غَابُوا يَفْتَقِدُونَهُمْ وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِى حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ » . أحمد والحاكم وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين موقوف و لم يخرجاه وتعليق الذهبي في التلخيص : على شرط البخاري ومسلم
ويعضد ذلك قول النبي صلي الله عليه وسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « إِنَّ لِلْمَسَاجِدِ أَوْتَاداً الْمَلاَئِكَةُ جُلَسَاؤُهُمْ إِنْ غَابُوا يَفْتَقِدُونَهُمْ وَإِنْ مَرِضُوا عَادُوهُمْ وَإِنْ كَانُوا فِى حَاجَةٍ أَعَانُوهُمْ » . أحمد والحاكم وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين موقوف و لم يخرجاه وتعليق الذهبي في التلخيص : على شرط البخاري ومسلم
وثبت كذلك أن اختيار ساعات الصلاة في أوقاتها الخمسة إعجاز علمي حيث يحتاج الجسم في هذه الأوقات إلي النهوض وأداء الصلاة ليتخلص من مواد ضارة تصيبه وتزوده بهرمونات ترفع من كفاءة الجسم وخاصة صلاة الفجر . وما يتنزل في وقت السحر من غازات مفيدة للجسم .
ومن هنا نفهم ما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ مَكَانَهَا عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ . فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا ، فَأَصْبَحَ نَشِيطاً طَيِّبَ النَّفْسِ ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ » . وفي رواية مسلم (وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَتَانِ فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ قَالَ « ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِى أُذُنَيْهِ » . أَوْ قَالَ « فِى أُذُنِهِ » . متفق عليه .
ومحبة في قلوب الخلق:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّى أُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ - قَالَ - فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِى فِى السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ . فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ - قَالَ - ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى الأَرْضِ . وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ إِنِّى أُبْغِضُ فُلاَناً فَأَبْغِضْهُ - قَالَ - فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِى فِى أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلاَناً فَأَبْغِضُوهُ - قَالَ - فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِى الأَرْضِ » . البخاري ومسلم
روى أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « إِنَّ الْعَبْدَ لَيَلْتَمِسُ مَرْضَاةَ اللَّهِ وَلاَ يَزَالُ بِذَلِكَ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجِبْرِيلَ إِنَّ فُلاَناً عَبْدِى يَلْتَمِسُ أَنْ يُرْضِيَنِى أَلاَ وَإِنَّ رَحْمَتِى عَلَيْهِ . فَيَقُولُ جِبْرِيلُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى فُلاَنٍ . وَيَقُولُهَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَيَقُولُهَا مَنْ حَوْلَهُمْ حَتَّى يَقُولَهَا أَهْلُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ ثُمَّ تَهْبِطُ لَهُ إِلَى الأَرْضِ »
الطاعة المثمرة ... من الحال إلي المقام :
السر إذا ليس في الأيام والليالي وإنما السر في الأعمال التي نعملها في هذه الأيام , السر في طاعة الله في القرآن الذي كنا نقرأه وفي الصيام ومراقبتنا فيه لله عز وجل وفي الصلاة والدعاء والتسامح والتزاور والتغافر وصلة الأرحام والتهادي وانتشار المودة والمحبة بين الناس فإذا عشنا أوقاتٍ للطاعة كنا علي حال طيبة وشعرنا بالسعادة , وعند انتهاء هذه الطاعة نعود إلي أصل حالنا فيكف نستمر علي حالة السعادة ؟ أن نظل علي حال الطاعة لأننا بتركنا للطاعة سرعان ما تزول عنا هذه الحال وذلك بعودة المشاعر إلى حالتها الأولى، فنجد الشخص يتأثر بالموعظة ويبكي وينتحب ثم بعد ذلك يعود إلى سابق عهده من الانشغال بالدنيا والغفلة عن الآخرة، فإذا استمر الطرق على المشاعر في اتجاه ما كالخوف أو الحب..استمرت الحالة الشعورية للشخص، وشيئا فشيئا يستقر "الحال" في المشاعر ليصبح "مقاما"، أي تُشكل هذه الحالة جزءاً ثابتاً من المشاعر، ويسهُل استثارتها بأدنى مؤثر، وتصبح منطلقا دائما للسلوك. من هنا يتضح لنا أنه لكي نصل إلي دوام الراحة والسعادة لابد أن نلتزم بالطاعة أولاً، وأن تنتقل هذه الطاعة من العقل إلى القلب، وأن تكون مستمرة حتى يرسخ مدلولها في مشاعر الإنسان وقلبه وتصبح إيماناً راسخاً فتشكل بذلك منطلقاً للسلوك.
روى مسلم حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِىِّ قَالَ - وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ - لَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيراً قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا . فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « وَمَا ذَاكَ » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيراً . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِى وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً » . ثَلاَثَ مَرَّاتٍ .
نعم، أغلبنا يشتكي من اضطراب في نفسه وعدم استقرار مع ما نعمله من طاعة وحسنات ، والسبب في ذلك هو أن الطاعة المطلوبة والتي من شأنها أن تسعد العبد ، وتصل به إلي الطمأنينة ، لابد لها أن تكون طاعة تنبع من داخله ترسخ في يقين الإنسان وتؤثر في قلبه، أو بعبارة أخرى: تؤثر في مشاعره باعتبار أن القلب هو مجمع المشاعر داخل الإنسان، ومن ثَمَّ تشكل هذه الطاعة جزءاً أصيلاً من إيمانه، مثل ما قال الله عز وجل: { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } (الحج:54) .
أما الطاعة المحدودة العابرة فلا يمكنها أن تؤثر تأثيراً مستمراً في حياة العبد، والدليل على ذلك أننا عندما نقيم الليل علي سبيل المثال في ليالي رمضان وخاصة ليلة القدر وتكون القراءة مؤثرة ببكاء وخشية ، فإن المشاعر تعلو، ويزداد الإيمان ونشعر وكأننا نحلق في السماء ثم بعد ذلك تخفت حرارة تلك المشاعر بانتهاء أثر العبادة التي أقمناها، وهذا هو الفارق بين الحال والمقام.
"فالحال" هو الحالة الشعورية العابرة التي تنتاب المرء عندما تُستثار مشاعره في اتجاه ما.
معنى هذا أننا بحاجة إلى أن نجعل معرفتنا بالله ومن ثم طاعته تستقر في القلب وترسخ فيه وتنمو شيئا فشيئا حتى تشكل الجزء الأكبر من المشاعر، فيصير حبه سبحانه أحب الأشياء لدينا وخشيته أخوف الأشياء عندنا، وهكذا في بقية المشاعر فتظهر تبعاً لذلك الثمار الطيبة لهذه المعرفة النافعة والطاعة المثمرة كما في الحديث:عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ » البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم « ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ طَعْمَ الإِيمَانِ »
وعند مسلم عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً » . أي استقر الحب في قلبه فإذا ما اكتفت الطاعة علي وقت معين أو موسم فقط، ولم تصل إلى الدوام عليها والاستمرار ، ولم يستقر حبها في القلب، لن تظهر ثمارها راحة وسعادة واستقرارا .
من هنا يتضح لنا أنه لكي نصل إلي حالة الرضا والاستقرار علينا بالطاعة المثمرة التي يكون القلب فيها حاضرا خاشعا أي الطاعة المؤثرة وكلما ازدادت مساحة هذه الطاعة، ازداد انجذاب المشاعر لله عز وجل، وتمكن الإيمان من القلب، وتجلت فيه أنواره، وظهر أثر ذلك على حالة العبد، فيسعد بحياته ويري كل الأمور ما دامت في رضا الله يراها خيرا وصدق ذلك قول النبي صلي الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام مسلم عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ » .
هل تأملت أن السراء التي تصيب العبد المؤمن لا تخرجه عن مقام الرضا والطمأنينة فلا يسخط ولا يجزع .
فإذا أرت أن تعيش كما كنت في رمضان أو أي مناسبة سعيدة فما عليك سوى أن تجعل كل أيامك رمضان وكل لحظاتك طاعة ومرتبطة بالله وأن تعيش في رحاب الله وتحيى مع الله وبالله وانظر ما كنت تفعل فيها من طاعات فلا تبرحها وداوم عليها ومن هنا نعلم أن رمضان انطلاقة له ما بعده وبداية لهل تتابعها .
نسأل الله العلي العظيم أن يديم علينا فضله وأن يكلأنا برحمته وأن يحفظنا بعينه التي لا تنام اللهم احفظنا بحفظك القوي المتين الذي حفظت به أنبياءك والمرسلين واحفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا واحفظنا أن نختال من تحتنا
وإلي لقاء مع ( ظلمة المعصية ... وشقاء الدارين )
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات:1