الجاحظ
هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي بالولاء. أبو عثمان, الشهير بالجاحظ, كبير أئمة الأدب, مولده ووفاته بالبصر وأخذ العلم عن أشهر شيوخها في الأدب والنحو واللغة, ومنهم أبو عبيد معمر ابن المثنى, والأصمعي, وأبو زيد الأنصاري والأخفش, وأخذ علم الكلام عن أبي إسحاق إبراهيم النظام أحد شيوخ المعتزلة, فتأثر به وبمقالته ونصر الاعتزال بكتابته وأصبح رئيس فرقة في الاعتزال تعرف باسم (الجاحظية) .
قضى الجاحظ أكثر عمره في البصرة وقصد بغداد بدعوة من المأمون وعينه في ديوان الرسائل وجعل له الصدارة فيه, وما انقضت ثلاثة أيام حتى استعفى من منصبه فأعفي, إلا أنه بقي مخلصا للمأمون, فأيسرت حاله بعد بؤس, وانقطع بعد ذلك إلى محمد بن عبد الملك الزيات طول وزاراته الثلاث, وظل مقيما في بغداد إلى أيام المتوكل, فلما نكب المتوكل ابن الزيات وقتله سنة 233هـ عاد الجاحظ إلى البصرة واستقر فيها إلى وفاته.
كان الجاحظ أسود اللون, دميم الخلقة, جهم الوجه, جاحظ العينين, فسمي الجاحظ واشتهر بهذه التسمية, وكان يضرب المثل ببشاعته, قيل أنه ذكر للخليفة المتوكل لتأديب بعض ولده, فلما رآه استبشع منظره فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه, ولكنه كان خفيف الروح, حسن العشرة, ظريف النكات, يتهافت الناس إلى الاستماع لنوادره.
كان للجاحظ إنتاج وفير, وله من الكتب ما يزيد على المائتي كتاب, وهي كما قال ابن العميد: "تعلم العقل أولا والأدب ثانيا" وقد نشر منها: كتاب الحيوان وكتاب البيان والتبيين, وكتاب البخلاء, ورسائل. أما كتاب الحيوان, فقد نشر في سبعة أجزاء, وفيه تناول الجاحظ وصف طبائع الحيوان, وفيه عرض لأطراف من العلوم وتجاربها وخصائصها, ووجه النظر إلى الطبيعة وتأكيد الثقة في حقائقها وبراهينها فسبق بذلك (بيكون r-bacon) واتبع في دراسته الشك المنهجي, فسبق بذلك (ديكارت r-descartes) ودعا إلى التبصر عند النظر, والتوقف عند القضية, موقف الشك, قبل الحكم فيها وعدم التسليم بها إلا بعد اختبارها ببرهان عقلي, وهو عنده العلامة المميزة للعقل الإنساني, وهي الأساس الذي يقوم عليه مذهب المعتزلة. وأما كتاب البيان والتبيين فهو من أهم كتب الجاحظ قال فيه ابن خلدون: ".. وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة, وكتاب الكامل للمبرد وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي, وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها" وقد جمع الجاحظ في هذا الكتاب كعادته البلاغة والأدب والفقه والتاريخ والمنطق, وكانت الغاية من وضعه الرد على الشعوبية بتبيان تفوق العرب في البلاغة والبيان. وأما كتاب البخلاء فهو دراسة أدبية فكهة, جمع فيها الجاحظ أخبار البخلاء والمبخلين في عصره من أهل البصرة وخراسان بنوع خاص, وصور لنا نماذج حية ناطقة من أولئك الذين استهواهم الدرهم, فصاروا أضحوكة الناس ومدار تندرهم. ومن خلال صور البخلاء والأشحاء يلقي الجاحظ في هذا الكتاب, أكثر منه في أي كتاب آخر, أضواء على بيئة عصره بشتى نواحيها, ويعتبر هذا الكتاب مرجعا وثيقا لدراسة المجتمع العباسي إبان ازدهار بغداد والبصرة وخراسان, من عهد الرشيد إلى عهد المتوكل. أما الرسائل فهي أبحاث في مواضيع شتى منها في الفلسفة والدين, كرسالته في فضيلة المعتزلة أو الرد على النصارى, ومنها في السياسة كرسالته في مناقب الترك أو في فخر السودان على البيضان, أو العثمانية, أو رسالة في بني أمية, ومنها اجتماعية كالقيان والعشق ومنها أخلاقية كالحاسد والمحسود, وذم الكتاب, ومنها علمية أو اقتصادية كرسالته في الخراج, ورسالته في الكيمياء وغير ذلك من الرسائل والأبحاث. وهناك رسائل أخرى نسبت إلى الجاحظ ولكن نسبتها تثير الشك ككتاب التاج, وكان من الشائع في ذلك الزمان أن ينسب كتاب ما إلى أديب معروف بقصد ترويجه, وقد لجأ الجاحظ نفسه إلى هذه الطريقة في أول عهده الكتابي.
ويذكر ياقوت في كتب الجاحظ التي أوردها كتاب (البلدان) ويدعوه المسعودي (الأخبار عن الأمصار وعجائب البلدان) . وقد نقل عنه ابن قتيبة في كتابه (عيون الأخبار) كما نقل عنه ابن رستة في كتابه (الأعلاق النفيسة) . وله كتاب (التبصرة في التجارة) ويدل هذان الكتابان على شدة اهتمامه بالجغرافية ولعله أول محاولة قام بها العرب في ميدان الجغرافية الاقتصادية, من أجل ذلك يعتبر الجاحظ من الجغرافيين.
وتدل كتب الجاحظ على حذقه في جميع الثقافات التي تناولها في كتبه, فهو موسوعي المعرفة, وقد أودع في كتبه الكثير من آرائه الفلسفية والفكرية وثمرات اهتماماته العلمية التي غلب عليها طابع الأدب. على أن في مصنفاته ما يعاب عليه, فهي كلها تقريبا تفتقر إلى حسن التنظيم في التحرير والتبويب, وقد أكثر الجاحظ فيها من الاستطراد وملأها بالنوادر.
ويمتاز أسلوب الجاحظ بالسلاسة الممتعة التي تشد إليها القلوب والأسماع, وكثيرا ما يطبع أسلوبه بشيء من السخرية, يتجلى فيها الجمال الفني في السبك والتعبير.
فُلِجَ الجاحظ في آخر حياته, فاعتزل الناس إلا أقلهم, وقضى في فراشه مدة يغالب الداء, ومع ذلك لم ينقطع عن الكتابة, فقد مات والكتاب على صدره وقد بلغ من العمر 92 عاما وخلف وراءه ثروة أدبية ما زالت تروي العقول وتنير الأفهام.
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ************فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
و ما بي إن اقصيتني من ضـراعة************و لا افتقرت نفسي إلى من يضيمها
إذا أنت لم تكرم بأرضك فارتحل ************فـلا خـير في دار مهان كريمها
حارث المخزومي