لا تنشغل الأوساط العالمية على مختلف صعدها السياسية والثقافية والاجتماعية بشيء في اللحظة الراهنة كانشغالها بالأزمة المالية والاقتصادية التي تهدد الميزانيات المالية للبنوك والدول في الوقت الحالي، ومازالت الندوات تقام والمؤتمرات تعقد في مشارق الأرض ومغاربها من أجل دراسة المشكلة والوقوف على اسبابها وتداعياتها، وبالتالي محاولة التعامل معها بصورة صحيحة وشكل ايجابي.
الملاحظ في العقود الأخيرة أنه كلما ظهرت أزمة مالية او اقتصادية تهدد البشرية في مستوى رفاهيتها أو في استقرارها المالي تتعالى بعض الاصوات الغربية - ولا نقول العربية - مطالبة بوجوب التعاطي مع النظرية الاقتصادية في الاسلام بصورة محايدة وشكل ايجابي من اجل فهمها والانتفاع بأطروحاتها اذا كان الى ذلك من سبيل، ويكفي ان نشير في هذا السياق الى ان روسيا عندما مرت بأزمة مالية عقب انهيار الاتحاد السوفيتي ارسلت في مطلع التسعينيات من القرن الماضي محافظ بنك الدولة ومحافظ موسكو مع مجموعة من الخبراء الاقتصاديين الى مجمع البحوث الاسلامية بالأزهر الشريف للتعرف على النظرية الاقتصادية في الإسلام، فشرح لهم أساتذة الاقتصاد فلسفة النظام الاقتصادي الإسلامي، وموقف الإسلام من الملكية وحركة الأسواق، والسياسات النقدية ، ونظام مالية الدولية.. وبعد هذا اللقاء قال محافظ بنك الدولة الروسي لعلماء الاقتصاد بالازهر الشريف: كيف تكونون على هذه الحالة من التخلف ولديكم هذا النظام التنموي الفاعل؟! ومع ظهور بوادر الأزمة المالية الراهنة عقد مجلس الشيوخ الفرنسي في مايو 2008م ندوة خاصة لدراسة «التمويل الإسلامي» وانتهوا الى أنه من الضروري أن تنظر المصارف الأوروبية والأميركية نظرة إيجابية الى ما جاء من حديث عن الاقتصاد في القرآن الكريم وتحترمه.
والحق أن ما يلفت نظر الغربيين والشرقيين على السواء في الاقتصاد الإسلامي هي الروح الوسطية التي يتمتع بها وتسود مختلف جنباته، فهو نظام يحقق الوسطية في بعديه الاقتصادي والمصرفي بصورة لا تتوافر لغيره من المذاهب الاقتصادية والنظم المصرفية المغايرة له، والحق انه يمكن ان نضع ايدينا على وسطية الاقتصاد الاسلامي من خلال الوقوف على النقاط التالية:
الروح الوسطية في بناء المجتمع الإسلامي
معروف ان هناك العديد من المجتمعات التي تقام وتبني على أسس مادية صرفة فقوامها المادة وعمادها الاقتصاد، الأمر الذي جعل الفلسفة الماركسية ترى أنه يمكن تفسير كل مظاهر تطور وارتقاء الوجود الانساني، وكذلك حركة التاريخ البشري في ضوء المادة والاقتصاد، وهذا ما يسمى بالتفسير المادي للتاريخ.. في حين نجد النظام الاقتصادي الاسلامي يسعى الى تأكيد أن «الهدف من بناء هذا المجتمع الإسلامي لم يكن مادياً، اي انه لم يكن اقتصادياً، بالرغم من ان الاقتصاد عصب الحياة، ولكنه كان هدفاً شمولياً، هو تكوين الأمة الإسلامية، ولو بني المجتمع على أساس اقتصادي صرف لكان في الإمكان إيجاد مجتمعات ووحدات اقتصادية متفرقة لا تخدم الفكرة الاسلامية، كان من الممكن مثلا ألا تجد بعض القبائل العربية مصلحتها في وحدة عربية، فالذين يتاجرون - مثلا - مع الفرس قد يجدون مصلحتهم في تدعيم الوحدة الاقتصادية الفارسية العربية، والذين يتاجرون مع الروم أو مع الأحباش قد يجدون مصلحتهم في إقامة وحدة اقتصادية عربية رومية أو عربية حبشية» (1).
وهكذا ندرك ان المجتمع الاسلامي لم يكن ليقام على اسس مادية صرفة ولا اسس روحية صرفة، بل لقد اخذ من المادة بنصيب باعتبارها من اساسيات الحياة، وعني بالجانب الروحي الذي تفقد الحياة قيمتها ومعناها من دونه، وتلك وسطية تضمن وتكفل للمجتمع البقاء والنجاح والازدهار.
بين الملكية الفردية والملكية العامة
معلوم أن المذاهب الاقتصادية المادية التي تتنازع الساحة العالمية الآن تنقسم الى مذهبين، أحدهما رأسمالي يسمح للإنسان أن يمتلك من الثروة ما يشاء، ولا يعنى بردم الهوة بين الفقراء والأغنياء الا في حدود ضيقة، والمذهب الثاني شيوعي أو اشتراكي يؤكد ملكية الدولة للمؤسسات الصناعية والمالية والتجارية، بمعنى ان الدولة هي المسيطرة على السلطة والثروة والسلاح، وفيه يتم -تقريبا - تجريد الانسان الفرد من الملكية الخاصة.
غير ان للإسلام موقفه الوسطي الخاص في هذا السياق، وللإلمام به يقتضي الأمر أن ندرك ان «المنهج الاسلامي وسط لأنه لم يصادر حرية الانسان في الملكية او في اختيار العمل الذي يلائمه، بل أباح الملكية لكنه وضع حدوداً وتشريعات للمالك في ملكيته، وجعل للمجتمع حقوقاً في ملك الأفراد، وأمر بالعمل وجعله حقا وواجبا، وأباحه وأمر به زراعة وتجارة وصناعة وحرفاً في الوقت نفسه، وحدد له حدوداً، فكل عمل من زراعة او تجارة أو صناعة حرام ما أضر بالمجتمع، فزراعة المخدرات او التجارة في الخمر حرام... وهكذا» (2).
فالإسلام أحل الملكية الفردية وجعل لها حرمة، مادام طريق كسبها مشروعاً ولا يتعارض مع مصلحة المجتمع ولا تضره حسبما يرى التشريع الحنيف.. غير ان حرمة الملكية الخاصة في الاسلام مشروطة بأن يتوفر لكل فرد حد الكفاف، أي الحد الأدنى اللازم لمعيشته، بمعنى انه ان وجد في المجتمع الاسلامي جائع واحد او عار واحد، فان حق الملكية لأي فرد من أفراد هذا المجتمع لا يجب احترامه ولا تجوز حمايته، ومؤدى ذلك ان هذا الجائع الواحد، او المضيع الواحد يسقط شرعية حدود الملكية الى ان يشبع.. وهذا يفسر لنا قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) «...ايما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى» (رواه أحمد)،
وسطية توزيع الثروة
وتقتضي الوسطية في الملكية الفردية والعامة أن يعتمد الإسلام الوسطية كمنهج وأسلوب في توزيع الثروة، و«من هنا يختلف الاقتصاد الاسلامي عن الاقتصادات الوضعية السائدة، فهو لا يقر التفاوت الشديد أو تسلط أقلية على مقدرات الجماعة كما هو شأن المذهب الفردي والنظم المتفرعة عنه كالرأسمالية، كما لا يقر إذابة أو إزالة الفوارق واقامة المساواة الفعلية أو المطلقة كما هو شأن المذهب الجماعي والنظم المتفرعة عنه كالاشتراكية والشيوعية، وإنما هو يحترم التباين والتفاوت تبعاً لاختلاف المواهب والقدرات، مع تقريب الفوارق أو الفجوة بين افراد المجتمع أو دول العالم، بما يحقق لها التعاون والتكامل لا السيطرة والاستغلال» (3).
هكذا يدرك المرء أن الإسلام لا يرفض التفاوت في الحصول على الثروة لكن يرفض ان يجتمع المال - كله أو أغلبه - في يد فئة قليلة من المجتمع، «فالتفاوت في توزيع الثروات والدخول هو أمر طبيعي يقره الإسلام تبعاً لاختلاف المواهب والقدرات، بل يعتبره ضرورة لخلق الحوافز وتحقيق التعاون والتكامل سواء على المستوى المحلي أو العالمي، ولكن الذي رفضه الإسلام بشدة هو التفاوت الفاحش في توزيع الثروات والدخول، والذي تستأثر من خلاله فئة معينة من الأفراد أو دول معينة بالخير كله، مما يؤدي الى تهميش marginilijation الأغلبية أو اغترابها alienation وإثارة حقدها وثورتها» (4) لذا نرى الدول الإسلامية النفطية تمد يد العون والمساعدة للشعوب الاسلامية غير النفطية عندما تتعرض الاخيرة الى ازمات أو عندما يكون لديها طلبات ملحة وعاجلة.
واذا كان الاسلام يبيح امتلاك المال فان منهجه يتميز عن الرأسمالية بكونه يرفض اتساع الشقة بين الاغنياء والفقراء، ففي مجتمع المدينة «كانت مهمة ولي أمر المسلمين - النبي (صلى الله عليه وسلم) - ان يحاول بسياسته المالية تقريب الشقة بين الفقراء (وهم المهاجرون في الغالب) والاغنياء (وهم الانصار في الغالب)، وكان ذلك متيسراً بما أفاء الله عليه من أموال بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة وخيبر بعد ذلك»(5).. وتلك هي سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذا السياق واتبعها الخلفاء الراشدون من بعده.
وسطية النظام المصرفي الاسلامي
معلوم أن لكل مذهب من مذاهب الاقتصاد نظامه المصرفي الذي يتحرك وفقاً لخدمة الايديولوجية السائدة في المجتمع، فهناك بعض الاختلافات والفروق بين النظم المصرفية المعمول بها في الدول التي يسود فيها الفكر الاشتراكي وبين النظم السائدة في الدول ذات التوجه الرأسمالي، وهنا نتوقف لنوضح ان النظام المصرفي الاسلامي يتباين في العديد من النقاط عن النظم الاقتصادية الوضعية، سواء كانت رأسمالية ام اشتراكية، فاذا امعنا النظر في النظام المصرفي الوضعي فإننا نجده تجارة بالمال «أخذاً وعطاءً واستخداماً للمال في المصلحة الشخصية لاصحابه دون إعمال للمصلحة العامة ونتيجة ذلك ان يزداد الفقير فقراً، وهنا يظهر جلياً مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» والغاية هنا هي تحقيق اكبر نسبة عائد بغض النظر عن الوسيلة الى تحقيق هذا العائد. تلك هي طبيعة النظام المصرفي الوضعي وتلك هي النتائج التي انتهى اليها، أما النظام المصرفي الاسلامي فنجده ينطلق من «الأساس الذي يقوم عليه الاقتصاد الإسلامي وهو «أن المال مال الله» استخلف عليه الإنسان لاشباع حاجاته المشروعة دون اسراف او تبذير، وعليه استخدامه في إعمار الأرض والالتزام بعدم الإضرار بالآخرين عند تنميته لهذا المال والانتفاع به، فهو وسيلة لا غاية في حد ذاته.
الهوامش
1- عبدالكريم غلاب، الفكر العربي بين الاستلاب وتأكيد الذات، الدار العربية للكتاب، ليبيا - تونس. 1397هـ - 1977م. ص 81.
2- طاهر عبدالمحسن سليمان، علاج المشكلة الاقتصادية في الإسلام، دار البيان، القاهرة، 1401هـ -1981م، ص41، بتصرف.
3- المصدر نفسه، ص19، 02.
4- المصدر نفسه، ص02.
5- طاهر عبدالمحسن سليمان مرجع سابق، 342.
6- د. رضا أحمد مغاوري، النظم المصرفية في الإسلام، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ذو القعدة 7241 هـ، نوفمبر 2006م، ص11.