الشيخ عاطف عبد المعز الفيومي
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ونبيِّه ورسوله محمدِ بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
أما بعد:
فهذه إشارةٌ عابرة ومهمة إلى بعض مرويات أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين، فيما اتَّفق عليه البخاري ومسلم - رحمهما الله تعالى - ولم أقف معها، ولم أعلِّق على شيء منها، فلهذا مكانه ووقته، لكنَّها تَذكرةٌ مهمة، وعرض نافع - بإذن الله - لتتجلَّى لنا مكانة عائشة - رضي الله عنها - في دَواوين السنة النبوية، وما جمعتْه في طياتها من علم وميراث النبوة، وقد ذَيلْتُها بوقفة مهمة مع النِّساء على طريق عائشة، وهذا سيكون في عدة نقاط، كما يلي:
أولاً: آيات الله والحكمة في بيت النبوة:
إنَّ الحديثَ عن بيت النبوة ذو شجون، وإن الوقوف على مناقبهم وفضائلهم لا يُحصيه كاتب، ولا ينثره أديب، لكنه بعضٌ من الواجب علينا، وبعض من الوفاء لحقِّهم الكبير، وبعض من الحب للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وآل بيته الأطهار.
وإن الحديث عن أم المؤمنين أم عبدالله عائشةَ بنتِ الصديق المطهَّرة - حديث له أطلال وظلال، لا تحويه صفحاتٌ ولا ألفاظ، وكيف لا، وهي أمُّنا، وحبيبة قلب نبيِّنا، وقرة عينه، وزوجته المبرأة المكرَّمة؟ وحسبنا هنا أن نقف على شيء من علمها الجمِّ، وحفظها الدقيق الوافر، لجمعٍ مبارك من أحاديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكيف لا، وهي محدِّثة بيت النبوة، وفقيهة عصرها، وسيدة النساء؟ وكيف لا، وقد خاطب الله - تعالى - زوجات بيت النبوة بقوله - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34]؟
قال ابن كثير - رحمه الله -: \"قال ابن جرير - رحمه الله -: واذكرنَ نعمة الله عليكنَّ، بأن جعلكن في بيوت تُتلى فيها آيات الله والحكمة، فاشكرن الله على ذلك واحمدنه\"[1].
وقال ابن جرير الطبري - رحمه الله -: \"وعَنَى بقوله: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 34]: واذكرن ما يُقرأ في بيوتكن من آيات كتاب الله والحكمة، ويعني بالحكمة: ما أُوحي إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أحكام دين الله، ولم ينزل به قرآن، وذلك السُّنة، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل\"[2].
وقال البغوي - رحمه الله -: \"قَوْلُهُ - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب: 34] يَعْنِي: الْقُرْآنَ، ﴿ وَالْحِكْمَةِ ﴾ قال قَتَادَةُ: يَعْنِي السُّنَّةَ، وقال مُقَاتِلٌ: أَحْكَام الْقُرْآنِ وَمَوَاعِظه\"[3].
وقال السعدي - رحمه الله -: \"ولما أمرهن بالعمل، الذي هو فعلٌ وترك، أمرهن بالعلم، وبيَّن لهن طريقه، فقال: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ﴾ [الأحزاب: 34]، والمراد بآيات الله: القرآن، والحكمة: أسراره وسنة رسوله، وأمرُهن بذِكره يشمل ذِكرَ لفظه بتلاوته، وذكر معناه بتدبُّره والتفكر فيه، واستخراج أحكامه وحكمه، وذكر العمل به وتأويله\"[4].
ومن هنا يظهر لنا حكمة رواية المحدِّثة الفقيهة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - لأحاديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنها كانت قائمةً بأمر الله - تعالى - في حياة رسول الله وبعد وفاته، تبلِّغ سنته، وتعلِّم أصحابه، وتُفتي الأمَّة من بعده.
ثانيًا: عائشة - رضي الله عنها - عالمة بيت النبوة وفقيهة الأمة:
ومن تأمل كتب السنة والمسانيد، خرج له كمٌّ كبير وصحيح من روايات أم المؤمنين - رضي الله عنها - وما ذاك إلا لأنها كانت ملازمةً لبيت النبوة لا تفارقه، حديثةَ السن، وقَّادة الحفظ والذكاء، مُحبَّة للتَّلقي والفهم والعمل.
ولقد جمعتْ من هذا كلِّه علمًا جمًّا غزيرًا، كما قال الزهري - رحمه الله تعالى -: لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل[5].
كما أن الله قد وهبها الذكاء والفطنة وسرعة الحافظة؛ قال ابن كثير: \"لم يكن في الأُمم مثل عائشة في حِفظها وعِلمها، وفصاحتها وعقلها\"، ويقول الذَّهبي: \"أفقه نساء الأمَّة على الإطلاق، ولا أعلمُ في أمَّة محمد - بل ولا في النساء مطلقًا - امرأةً أعلمَ منها\".
وقد تَجاوز عدد الأحاديث التي روتْها ألفين ومائة حديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي مشتهرة في كتب السنة: البخاري، ومسلم، والسنن، والمسانيد، وغيرها.
قال الحافظ الذهبي: مسند عائشة يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم لها على مائة وأربعة وسبعين حديثًا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين[6].
ويقول عروة بن الزبير: \"ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطبٍّ ولا بشعر من عائشة - رضي الله عنها\"، وقال فيها أبو عمر بن عبدالبر: \"إن عائشة كانت وحيدةَ عصرِها في ثلاثة علوم: علم الفقه، وعلم الطب، وعلم الشعر\".
كما كانت المرجعَ الكبير لكبار الصحابة، خاصة عند المواقف والملمَّات، كما كانت تفتي بما لديها من علم وفقه في عهد الخليفة عمر وعثمان - رضي الله عنهما - إلى أن تُوفِّيت - رحمها الله.
ولقد روى عنها - رضي الله عنها - جمٌّ غفير من الصحابة الأكارم، وكذلك من التابعين، منهم: عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عمر، وأبو هريرة، وزيد بن خالد، وعبدالله بن عباس، وعروة بن الزبير، ومسروق - رضي الله عنهم - جميعًا.
وقد كانت من أعلم الناس بالفرائض، فقد قال مسروق - رضي الله عنه -: \"والله لقد رأيت أصحاب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأكابر يسألونها عن الفرائض\"؛ رواه الحاكم.
وقال عطاء بن أبي رباح: \"كانت عائشة أفقهَ الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامة\".
كما كانت من أفصح الناس كلامًا وبيانًا، فعن موسى بن طلحة قال: \"ما رأيت أحدًا أفصح من عائشة\"؛ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب.
وعن هشام عن أبيه قال: \"ربما روتْ عائشة القصيدة ستين بيتًا وأكثر\"[7].
ثالثًا: من مرويات أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين:
وهنا أقف مع بعض مرويات أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين، وهي من المتفق عليه في الجملة، وقد سُقتها؛ حتى نقف على شيء من علمها ودقة حفظها، وحتى تكون الأسوة الصالحة للنساء في كل عصر ومِصر، وقد جعلتها من المتفق عليه؛ لأسباب، منها:
أولاً: أن هذه الروايات من أعلى درجات الصحة عند جماهير المحدثين.
ثانيًا: للوقوف على ما صح من مرويات عائشة - رضي الله عنها - دون الضعيف، والصحيحان في الجملة فيهما من الأحاديث ما يُغني في كثير من أبواب العلم وتفريعاته.
ثالثًا: لتكون عونًا على الحفظ لمن أراد أن يستزيد من ميراث النبوة وعلمه، فينهل من معين الإيمان، ومنبع العلم وأصله؛ فعن أبي سلمة بن عبدالرحمن - كما جاء في \"الطبقات\" - قال: \"ما رأيتُ أحدًا أعلمَ بسُنن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا أفقهَ في رأي إن احتيج إلى رأيه، ولا أعلم بآية فيما نزلتْ، ولا فريضة - مِن عائشة\".