مامعنى المحكم والمتشابه في القرآن الكريم؟
فتاوى اللقاء الشهري (العثيمين) ، الجزء : 1 ، الصفحة : 75 ت
المحكم والمتشابه في القرآن الكريمس ما هو " المحكم والمتشابه " في القرآن الكريم ، ولمَ لم يكن القرآن كله مُحْكمًا حتى لا يتأوّل الناس منه إلا الحق ؟
اعلم أن القرآن وصفه الله عز وجل بثلاثة أوصاف ؛ فوصفه بأنه محكم كله كما في قوله تعالى { تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } .
وفي قوله {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ } .
ووصفه بأنه متشابه في قوله تعالى { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } .
وهذا عام لكل القرآن معناه أن القرآن محكم متقن في أخباره وأحكامه وألفاظه وغير ذلك مما يتعلق به ، ومعنى كونه متشابهًا أن بعضه يشبه بعضًا في الكمال والجودة والتصديق والموافقة ، فلا نجد في القرآن أحكامًا متناقضة أو أخبارًا متناقضة بل كله يشهد بعضه لبعض ويصدق بعضه بعضاً ، لكن يحتاج إلى تدبر وتأمل في الآيات التي قد يكون فيما يبدو للإنسان فيها تعارض ولهذا قال الله عز وجل { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } .
أما الوصف الثالث للقرآن ، أن بعضه محكم وبعضه متشابه كما في قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } .
والمحكم هنا ما كان معناه بيّنًا ظاهرًا لأن الله تعالى قابله بقوله { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } .
وتفسير الكلمة يعلم بذكر ما يقابلها ، وهذه قاعدة من قواعد التفسير ينبغي للمفسر أن ينتبه لها ، وهي أن الكلمة قد يظهر معناها بما قوبلت به ؛ وانظر إلى قوله تعالى { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } .
فإن كلمة ثُبات قد تبدو مشكلة للإنسان ، ولكن عندما يضمها إلى ما ذكر مقابلاً لها يتبين له معناها ، فإن معنى قوله { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } .
أي متفرقين فُرادى .
{ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } .
أي مجتمعين .
هكذا قوله تعالى { مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } .
نقول إن المحكم في هذه الآية هو الذي كان معناه واضحًا غير مشتبه بحيث يعلمه عامة الناس وخاصتهم ، مثل قوله تعالى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ } .
وما أشبه ذلك من الأمور الظاهرة المعنى .
ومنه آيات متشابهات ، متشابهات يخفى معناها على كثير من الناس لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم ، كما قال تعالى { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } .
على قراءة من قرأها بالوصل وللسلف فيها قولان معروفان أحدهما الوقف على قوله { إِلَّا اللَّهُ } , والثاني الوصل .
ولكل قراءة وجه .
وأما قول السائل ما الحكمة في أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل القرآن كله محكمًا بل جعل منه شيئًا متشابهاً ؟ فالجواب عليه من وجهتين أولا أن القرآن كله محكم بالمعنى العام ، كما ذكرنا في أول الجواب ، وحتى فيما يتعلق بهذه الآية الكريمة ، فإننا إذا رددنا المتشابه إلى المحكم صار معناه واضحًا بينًا ، وصار الجميع كله محكمًا .
أما الوجه الثاني فإننا نقول إن الله سبحانه وتعالى أوجد المتشابه الذي يحتاج إلى تدبر وتأمل وإرجاع إلى المحكم ، أوجده لحكمة وهي الابتلاء والامتحان والاختبار ، حيث إن بعض الناس يأخذ من هذه الآيات المتشابهات طريقًا إلى الفتنة ، وإلى الطعن في القرآن والتشكيك فيه وليكون بهذا ابتلاء وامتحانًا من الله سبحانه وتعالى له ، وهذا كما يكون في أحكام الله الشرعية أو آياته الشرعية كالقرآن ، يكون كذلك في الآيات الكونية القدرية ، فإن الله تعالى قد يقدر بعض الأشياء امتحانًا للإنسان يبلوه في تطبيق شريعته , وانظر إلى ما ابتلي به الله أهل السبت حين حرّم عليهم الحيتان في يوم السبت ، ابتلاهم الله عز وجل بأن تأتي الحيتان شرَّعًا على ظهر الماء في يوم السبت وفي غير يوم السبت لا تأتيهم ، لكنهم لم يصبروا على هذه المحنة فتحيلوا بالحيلة المعروفة حيث وضعوا شركًا في يوم الجمعة ، لتقع فيه الحيتان ، فيأخذونها يوم الأحد ، فعاقبهم الله عز وجل على هذه الحيلة .
وانظر كذلك إلى ما ابتلي الله به الصحابة رضي الله عنهم في قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } .
فابتلاهم الله بسهولة تناول الصيد وهم مُحْرمون وصبروا - رضي الله عنهم - فلم يفعلوا شيئًا مما حرم الله عليهم ، هكذا أيضًا الآيات الشرعية يكون فيها الأشياء المتشابهة التي قد يكون ظاهرها التعارض وتكذيب بعضها أيضًا .