رمضان وثمار التقوى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
يقول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
بيّن الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة لعباده المؤمنين أنه سبحانه قد كتب عليهم صيام شهر رمضان أي فرضه عليهم لعلهم يتقون, أي لعلها تتحقق فيهم صفة التقوى, وذلك بأن يكونوا عاملين بطاعة الله مبتعدين عن معصيته, وهي الصفة التي تؤهلهم إلى السعادة في الدنيا والآخرة, فقد بيّن سبحانه في آيات أخر فضل التقوى وعظيم آثارها على أهلها فقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وأيّ نعمة وسعادة تعدل ما جاء بيانه في هذه الآيات لآثار التقوى من تفريج للكروب, وتيسير للأمور, وجلب للأرزاق من حيث يدري المرء ومن حيث لا يدري, ومن الفوز بجنات النعيم في دار المقامة التي يقول الله عنها: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} , لا ريب أنها غنيمة عظيمة تتطلع إليها نفوس أهل الإيمان, وتشرئب إليها أعناق أهل الهمم العالية, ولا يزهد فيها ويرغب عنها إلا من ضعف إيمانه, وغلب عليه الهوى واستحوذ عليه الشيطان.
وها هو شهر رمضان قد أوشك حَطُّ رحالِه, وقارب بزوغُ هلالِه, فليستبشر أهل الإيمان الطامعون في لباس التقوى, قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}.
عباد الله مما ينبغي التنبه له أنّ السنة النبوية مُبَيّنة, وموضحة لكتاب الله, كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
وقد بيّنت السنة أنّ الصيام المطلوب شرعا, والذي تترتب عليه تلك الآثار العظيمة ليس هو الإمساك عن الطعام والشراب فحسب, بل هو الصيام الذي يلتزم فيه الصائم بالشروط والآداب, وينتهي عن جميع المحظورات والمخالفات الشرعية, وفيما يلي استعراض تلك الأحاديث: ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه».
فهذا الحديث قد أفاد أن الصيام المؤثر في غفران الذنوب مشروط بأمرين هما: الإيمان والاحتساب.
والمراد بـ "إيماناً" في الحديث: الاعتقاد بفرضية صوم شهر رمضان كما أفاده الحافظ ابن حجر رحمه الله, ومعنى "احتساباً" قال الإمام الخطابي رحمه الله: "أي عزيمة وهو أن يصوم على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه"[الفتح 4/115].
وحاصل ما سيق في معنى الحديث أن يصوم المرء شهر رمضان امتثالاً لأمر الله عز وجل, لا عادةً وتقليداً, ولا استطباباً وحِمْيَةً, ولا لأي غرض دنيوي, وأن يصومه بعزيمة صادقة, مريداً ثواب الله عز وجل, لا يبدي جزعاً ولا تذمراً, ولا يلتفت بقلبه إلى مخلوق ليرثي لحاله, ويشفقَ عليه ويمدّ له يد العون من أجل صيامه.
كما يجب على الصائم أن يحبس نفسه عن جميع المعاصي والمخالفات الشرعية, ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الصيام جُنَّة, فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث, ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم».
والرفث الكلام الفاحش والجماع ومقدماته, والجهل يشمل جميع المعاصي كما أفاده الحافظ ابن حجر, بل وحكى اتفاق أهل العلم على ضرورة سلامة الصيام المحقق للتقوى والمؤثر في مغفرة الذنوب من جميع المعاصي, فقال رحمه الله:" اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصي قولا وفعلا" [الفتح 4/109] , وجاء في الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به, فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» يقول الحافظ ابن حجر: "المراد بالزور هنا الكذب, والجهل, والسفه"[الفتح 4/117] والكذب والجهل والسفه يشمل جميع المعاصي القولية والعملية.
والحاصل أن الصيام المطلوب شرعا هو الإمساك عن الطعام والشراب والشهوات المحرمة جميعها, وفي الحديث القدسي المخرج في الصحيحين يقول الله عز وجل: « يترك طعامه, وشرابه, وشهوته من أجلي الصيام لي، وأنا أجزي به ».
فإذا لم يترك الصائم شهوات النفس المحرمة لم ينفعه إمساكه عن الطعام والشراب لأن صيامه لن يوصله إلى الغاية التي من أجلها شرع الصيام وهي التقوى, فحقيقة التقوى هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.
يقول العلامة البيضاوي رحمه الله تعالى في معنى الحديث السابق: " ليس المقصود من شرعية الصيام نفس الجوع والعطش, بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة بالسوء للنفس المطمئنة, فإن لم يحصل ذلك فلا ينظر الله إليه نظر قبول".[الفتح 4/117]
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من الناس من لا ينتفع بصيامه, ففي مسند الإمام أحمد والمستدرك بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش».
وبناءً على ما سبق تقريره فإنه ينبغي لكل من يريد أن يجني ثمرة صيامه أن يراعي فيه الأمور الواردة في تلك النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم, ومعرفتها بلا شك من العلم الواجب الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: « طلب العلم فريضة على كل مسلم».
هذا ونسأل الله بمنّه أن يبلغنا شهر رمضان, وأن يوفقنا لصيامه, وقيامه, إيماناً, واحتساباً, وأن يجعلنا من عباده المتقين.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد