كان نبي الله سليمان - عليه السلام - حكيمًا وحريصًا على إتقان العمل والإشراف عليه شخصيًّا، وذات يوم جاء ليُشرِف على العمل فتفقَّد الطيور، ولم يجد الهدهد من بينهم.
قال تعالى: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 20، 21].
وقال تعالى على لسان سليمان: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16]؛ يعني ذلك أن سليمان - عليه السلام - يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغتها، ويُعبِّر بذلك للناس عن مقاصدها وإرادتها.
فلما حضر الهدهد إلى سليمان ليُقدِّم له سببَ غيابه عن العمل، قال: يا نبي الله ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 23، 24]، قال سليمان: ﴿ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]، ثم أراد الهدهد أن يقول: أنا لا أكذب أيها النبي الكريم، لكن صمْت سليمان أخافه، فسكت.
كان سليمان صامتًا يُفكِّر، حتى انتهى إلى قراره، فرفع رأسه وأمر بإحضار ورقة وقلم وكتب رسالة سريعة موجَزة، ومدَّ يده إلى الهدهد وأصدر تعليماته إليه، قال: ﴿ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ﴾ [النمل: 28]، وكان نص هذا الكتاب القرآني الموجَز المعنى والبعيد المرمى:
﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [النمل: 30]، وهكذا كان من ذَهاب الهدهد وتسليمه الرسالة، وينتقل مباشرة إلى الملكة وسط مجلس المستشارين، وهي تقرأ على رؤساء قومها ووزرائها رسالة سليمان: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 29 - 31]، وصفت هذا الكتاب بأنه كريم، وهي لا زالت كافرة، هذا هو نَص خطاب سليمان لملكة سبأ أنه يأمر في خطابه أن يأتوه مسلمين، كان هذا كلامًا واضحًا من لهجة الخطاب القصير المتعالية المهذَّبة في نفس الوقت.
ثم ماذا حدث؟ طرحت الملكة على رؤساء قومها الرسالة: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ﴾ [النمل: 32]، فماذا كان من رؤساء قومها؟
كان التحدي؛ لأن الرسالة بلهجتها المتعالية المهذَّبة، أثارت غرور القوم وأحاسيسهم بالقوة: ﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾ [النمل: 33]، أراد رؤساء قومها أن يقولوا: نحن على استعداد للحرب، ولكن الملكة كانت أكثر حكمة من رؤساء قومها؛ فإن رسالة سليمان أثارت تفكيرَها أكثر مما استفزَّتها للحرب.
فكَّرت الملكة طويلاً في رسالة سليمان، وكان اسمه مجهولاً لديها لم تَسمَع به من قبل، وبالتالي كانت تَجهَل كل شيء عن قوَّته، ربما يكون قويًّا إلى الحد الذي يستطيع فيه غزو مملكتها وهزيمتها، ورجحت الحكمة في نفسها على التهور، وقرَّرت أن تلجأ إلى اللين، وتُرسِل إلى سليمان بهدية، وقرَّرت في نفسها أنه ربما يكون طامعًا، قد سمع عن ثراء الملكة، فحدَّثت نفسها بأن تُهادِنه وتشتري السلام منه بهديَّة، وقرَّرت في نفسها أيضًا أن إرسالها بهدية إليه يُمكِّن رسلها الذين سترسلهم من دخول مملكته، وسيكونون عيونًا لها، يرجعون بأخبار قومه وجيشه، وفي ضوء هذه المعلومات سيكون تقدير موقفها الحقيقي منه ممكنًا، ثم أخبرت رؤساء قومها، بأنها ترى استكشاف نوايا سليمان عن طريق إرسال هديَّة إليه، وأقنعت رؤساء قومها بنبْذ فكرة الحرب مؤقَّتًا، واقتنَع القوم حين لوَّحت الملكة بما يتهدَّدهم من أخطار - ثم قالت: ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 35].
وصلت هدية الملكة بلقيس إلى سليمان، فجاءته أجهزة استطلاعاته بنبأ وصول رُسل بلقيس، وهم يحملون الهدية، وأدرك سليمان على الفور أن الملكة أرسلتْ رجالها ليَعرفوا معلومات عن قوَّته؛ لتُقرِّر موقفها بشأنه، ونادى سليمان في المملكة كلها أن يُحشَد الجيش، ودخل رسل بلقيس وسط غابة كثيفة مدجَّجة بالسلاح، ففوجئ رسل بلقيس بأن كل غناهم وثَرائهم يبدو وسط بهاء مملكة سليمان شيئًا مخجلاً، وصَغُرت هديَّتُهم في عيونهم، وكانت من الذهب، ووقفت رسل بلقيس مع سليمان ريثما ينتهي من استعراض جيشه، وراحت أذهانهم تُسجِّل عدد الجنود ونوعيَّتهم وكثرتهم، ثم فوجئوا أن في الجيش أسودًا ونمورًا وطيورًا وجنودًا، تنقُل عن طريق الطيران.
قال تعالى: ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ [ص: 36]، وتدلَّت أفواههم من الدهشة، وأدركوا أنهم أمام جيش لا يُقاوَم.
فلما انتهى استعراض الجيش، دُعي سفراء الملكة إلى مأدُبة الغداء على مائدة الملك سليمان، وفوجئ السفراء بأنهم أمام أطعمة من أرجاء الأرض المختلفة، وتَصدَّرت المائدة أطعمةٌ تشتهر بلادهم بصُنْعها، ولكنهم يرون لها مذاقًا خاصًّا، كانت الأطباق التي يأكلون فيها من ذهب، وكان يخدُمهم رجال يتحلون بذهب لا تتحلى به ملكتُهم نفسها، وكانت مائدة الطعام تَضُم طيورًا وأسماكًا ولحومًا لم يستطيعوا تمييزَها.
ولم يكن سليمان يُشارِكهم طعامَهم، بل كان يأكل في طبق من الخشب، ويَغمِس الخبز الجاف في الزيت، وهذه وجبة طعامه المفضَّل، أكَل سليمان معهم صامتًا، فأحسوا أن له حضورًا قويًّا ومهابة صاعقة، وانتهى الطعام، فقدَّموا لسليمان هدية الملكة بلقيس على استحياء شديد، وكانت الهدية من الذهب، وكانت قيِّمة بالنسبة إليهم، لكنها هنا تبدو باهتة وضئيلة وسط هذا الثراء.
نظر سليمان إلى هدية الملكة، وأشاح ببصره؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ [النمل: 36]، وأفهم السفراء أنه لا يقبل شراء رضاه بالمال، ويستطيعون شراء رضاه بشيء آخر وهو: ﴿ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 31]، وعاد يتحدَّث ببطء: ﴿ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [النمل: 37]، ثم بعد ذلك صرَف الملكُ سليمان رسلَ الملكة، بعد تهديده الذي بدا أمام أعينهم فاجعًا وحاسمًا في نفس الوقت.
وجاء رسل الملكة بعدما رأوا واقترحوا زيارة بلقيس بنفسها، ورجوه أن ينتظر حتى تجيئه الملكة في مهمة سلام، وبعد وصول رسل بلقيس إلى سبأ هُرعوا إلى الملكة، وهم بتراب السفر وحدَّثوها بأن بلادهم في أزمة، حدَّثوها عن قوة سليمان، واستحالة صد جيشه، وأفهموها أنها ينبغي لها أن تزوره وتترضَّاه، وجهَّزت الملكة نفسها، وبدأت رحلتها نحو مملكة سليمان، وذات يوم جلس سليمان في مجلس المُلْك وسط رؤساء قومه ووزرائه وقادة جنده وعلمائه، وكان يفكِّر في بلقيس، ويعرف أنها في الطريق إليه تسوقها الرهبةُ لا الرغبة، ويدفعها الخوف وليس الاقتناع.
وكانت أجهزة مخابرات الملك سليمان، قد حدَّثته أن أعجب العجائب في مملكة سبأ هو عرش الملكة بلقيس، فقد كان مصنوعًا من الذهب والجواهر الكريمة، وكانت حجرة العرش وكرسي العرش آيتين في فن الصناعة والسبك، وكانت الحراسة لا تغفُل عن العرش لحظة، ويُحضِر لها سليمان عرشها هنا في مملكته لتجلس عليه حين تجيء، يريد أن يَبهَرها بقدرته التي يستمدُّها من إسلامه؛ لتُسلِم هي الأخرى.
ثم دارت هذه الخواطر في نفس سليمان فرفع رأسه، والتفت لرجاله، ﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 38]، كانت أفكار سليمان كلها تدور حول إسلام عبدةِ الشمس، وكان أول من أجاب سليمان عِفريت من الجن الذين سخَّرهم الله تعالى له: ﴿ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾ [النمل: 39]، وكان سليمان يقوم من مقامه بعد ساعة أو ساعتين، وقد تعهَّد له العفريت أن يُحضِره قبل ذلك، ونحن مع مجلس سليمان في فلسطين العرش في اليمن، والمسافة بين العرش ومجلس سليمان تَزيد على آلاف الأميال وأقوى الطائرات النفاثة التي نَعرِفها اليوم لا تستطيع أن تذهب وتجيء في ساعة.
ولم يُعلِّق سليمان بشيء على ما قاله عِفريت الجن، ويبدو أنه كان ينتظر أن يسمع عرضًا يُحضِر عرش بلقيس أسرع من ذلك، التفت سليمان نحو واحد هناك يجلس في الظل: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ﴾ [النمل: 40]، لم يكد الذي عنده عِلم من الكتاب يقول جملتَه، حتى كان العرش مستقرًّا عند سليمان، استغرق إحضاره أقل من رمشة العين حين تُغلَق وتفتح، هذا هو العرش ماثلاً أمام سليمان، فتأملَّ تصرُّف سليمان بعد هذه المعجزة!!
لم يستخفَّه الفرح بقدرته، ولم يُزهِه الشعور بقوته، وإنما أرجع الفضل لمالك الملك، وشكَر الله الذي يستحقُّ بهذه القدرة، أيشكر أم يَكفُر؟ تأمَّل سليمان عرش الملكة طويلاً، ثم أمر بتغييره ببعض التعديلات عليه ليمتَحِن بلقيس حين تأتي، ويرى هل تهتدي إلى عرشها أم تكون من الذين لا يهتدون؛ ﴿ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 41]، أمر سليمان ببناء القصر ليستَقبل فيه بلقيس، واختار مكانًا رائعًا على البحر وأمر أن تُصنع أرضية القصر من زجاج ثمين شديد الصلابة، وتَمَّ بناء القصر ومن نقاء الزجاج الذي صُنِعت منه أرض حجراته، لم يكن يبدو أن هناك زجاجًا.
أخبر الهدهد سليمان أن بلقيس قد بلغت مشارف مملكته، جاءت بلقيس أخيرًا!
ويتجاوز السياق القرآني استقبال سليمان لها إلى موقفين:
• موقفها أمام عرشها الذي سبقها بالمجيء، وقد تركتْه وراءها وعليه الحراس.
• موقفها أمام أرضية القصر البلورية الشفافة التي تَسبَح تحتها الأسماك:
﴿ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 42].
تُصوِّر الآية موقف الحوار بين سليمان وبلقيس، نظرت بلقيس إلى عرشها تمامًا، فإذا كان عرشها فكيف سبقها إلى المجيء؟ وإذا لم يكن عرشها فكيف أَمكن تقليده بهذه الدقة، قال سليمان وهو يراها تتأمَّل العرش ﴿ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ﴾، قالت بلقيس بعد حَيرة قصيرة: ﴿ كَأَنَّهُ هُوَ ﴾.
قال سليمان: ﴿ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 42]، لقد سبَقها سليمان إلى العلم بالإسلام، بعدها صار من السهل عليه أن يسبقها في العلوم الأخرى.
هذا ما توحي به كلمة سليمان لبلقيس: أدركت أن هذا هو عرشها سبقها إلى المجيء، ونُكِّرت فيه أجزاء وغيّرت أجزاء، وهي لم تزل تقطع الطريق لسليمان، فأي قدرة يَملِكها هذا النبي؛ أي: سليمان؟! ثم انبهرت بلقيس بما شاهدته من إيمان سليمان وصِلته بالله، ثم انبهرت بما رأته من تَقدُّمه في الصناعات والفنون والعلوم، وأدهشها أكثر هذا الاتصال العميق بين إسلام سليمان وحكمته وعِلمه: ﴿ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ [النمل: 43].
انتهى الأمر واهتزت داخل عقلها آلاف الأشياء، رأت عقيدة قومها تتهاوى هنا أمام سليمان، وأدركتْ أن الشمس التي يعبدها قومها ليست إلا مخلوقًا، خلقه الله تعالى وسخَّره للعباد، وقد أحسنتْ بلقيس اختيار الوقت الذي أعلنتْ فيها إسلامها؛ قال تعالى: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44]، قيل لبلقيس: ادخلي القصر، فلما نظرت لم ترَ الزجاج، ورأت المياه وحسِبت أنها ستغوص في البحر، وكشفت عن ساقيها حتى لا يتبلَّل رداؤها، ونبَّهها سليمان دون أن ينظر ألا تخاف على ثيابها من البلل، بأنه ليست هناك مياه، بل إنه صَرْح ممرد من قوارير؛ إنه من زجاج ناعم.
اختارت بلقيس هذه اللحظة لإعلان إسلامها، اعترفت بظلمها لنفسها، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وتَبِعها قومها على الإسلام، أدركت أنها تُواجِه أعظم ملوك الأرض أحد أنبياء الله الكرام.
أضاء وجه سليمان بابتسامة راضية أول مرة منذ زارته بلقيس، وسكت السياق القرآني عن قصة بلقيس بعد إسلامها.
وهكذا أسلمت الملكة وقومها بمشيئة الله تعالى، ثم بسبب اكتشاف الهدهد مملكتها، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ﴾ [يونس: 99].