قراءة فى حكاية حي بن يقظان
مؤلف الحكاية هو محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي الأندلسي، أبو بكر (المتوفى: 581هـ)
من يقرأ الكتاب سيجد فى الكتاب تناقضا عظيما فالكتاب معظمه قائم على التفلسف للوصول للحق من غير طريق الوحى ومع هذا فالكاتب مقتنع أن الحق هو من طريق الوحى أى الشرع ومن طريق التفلسف الذى جربه حى المزعوم وفى هذا قال :
" وكيف هي الآن بعد وصولها إليهم، وصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي، والجنة والنار، والبعث والنشور، والحشر والحساب، والميزان والصراط ففهم حي بن يقظان ذلك كله ولم ير فيه شيء على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم."
والحكاية قامت منذ البداية على افتراض خاطىء وهو أن الإنسان يستطيع الوصول لدين الله من غير طريق الوحى حتى لو كان هذا الإنسان يجهل اللغة أى الحديث ويعيش مقلدا لأصوات الحيوانات والمخلوقات غير الإنسان وهو فرض خاطىء فمثلا الأصم الأبكم الذى يعيش وسط الناس وهم يتحدثون اللغات ومع أنهم يعلمونه فإنه لا يمكن له الوصول لدين الله فيعمل الخير وفى هذا قال تعالى :
"وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شىء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يامر بالعدل وهو على صراط مستقيم"
ومن ثم فلا يمكن لأى كان أن يعيش دون معلم بشرى يعلمه الوحى أو دون ملاك من الله يعلمه الوحى ويصل لدين الله ولذا قال تعالى "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"
المؤلف افترض أن الرجل يصل عن طريق الأشياء الظاهرة التى نطلق عليها الماديات إلى وجود الله الغيبى ووجود الملائكة وغيرها من الغيبيات وهو افتراض خاطىء فالرجل فى تلك الحالة لا يملك سوى تجاربه المادية الظاهرة ومن ثم فالأشياء التى يتوصل لها لن تتعدى معلومات عن الأشياء التى جربها بحواسه
وابن طفيل من المعروف عنه أنه فقيه ومتفلسف والحكاية لا يمكن أن يقولها فقيه يعرف كتاب الله فيقول كلاما خرافيا مثل:
"ذكر سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - أن جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولد بها الإنسان من غير أم ولا أب، وبها شجر يثمر نساء"
فولادة الناس من غير أب وأم أجاز الكاتب صحتها فقال :
"وهذا القول يحتاج إلى بيان أكثر من هذا، لا يليق بما نحن بسبيله؛ وإنما نبهناك عليه، لأنه من الأمور التي تشهد بصحة ما ذكر من تجويز تولد الإنسان بتلك البقعة من غير أم ولا أب"
ومع هذا زعم المؤلف أن هذه الولادة الطينية زعم والزعم عند الناس غالبا كذب وفى هذا قال الكتاب:
"وأما الذين زعموا أنه تولد من الأرض فانهم قالوا إن بطنا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينه على مر السنين والأعوام، حتى امتزج فيها الحار بالبارد، والرطب باليابس، امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جدا وكان بعضها يفضل بعضا في اعتدال المزاج والتهيؤ لتكون الأمشاج وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهة بمزاج الإنسان: فتمخضت تلك الطينة، وحدث فيها شبه نفاخات الغليان لشدة لزوجتها: وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدا، منقسمة بقسمين، بينها حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى وتشبث به تشبثا يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل؛ إذ قد تبين أن هذا الروح دائم الفيضان من عند الله عز وجل، وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم... قالوا: فلما تعلق هذا الروح بتلك القرارة، خضعت له جميع القوى وسجدت له وسخرت بأمر الله تعالى في كمالها، فتكون بازاء تلك القرارة نفاخة أخرى منقسمة إلى ثلاث قرارت بينهما حجب لطيفة، ومسالك نافذة، وامتلأت بمثل ذلك الهوائي الذي امتلأت منه القرارة الأولى؛ إلا أنه ألطف منه وفي هذه البطون الثلاثة المنقسمة من واحد، طائفة من تلك القوى التي خضعت له وتوكلت بحراستها والقيام عليها، وإنهاء ما يطرأ فيها من دقيق الأشياء وجليلها إلى الروح الأول المتعلق بالقرارة الأولى وتكون بازاء هذه القرارة من الجهة المقابلة للقراءة الثانية، نفاخة ثالثة مملوءة جسما هوائيا، إلا أنه أغلظ من الأولين وسكن في هذه القرارة فريق من تلك القوى الخاضعة، وتوكلت بحفظها والقيام عليها؛ فكانت هذه القرارة الأولى والثانية والثالثة، أول ما تخلق من تلك الطينة المتحمرة على الترتيب الذي ذكرناه واحتاج بعضها إلى بعض: فالأولى منها حاجتها إلى الآخرين، حاجة استخدام وتسخيروالأخريان حاجتهما إلى الأولى حاجة المرؤوس إلى الرئيس، والمدبر إلى المدبر؛ وكلاهما لما يتخلق بعدهما من الأعضاء رئيس لا مرؤوس وأحدهما، وهو الثاني، أتمم رئاسة من الثالث فالأول منهما لما تعلق به الروح، واشتعلت حرارته تشكل بشكل النار لصنوبري وتشكل أيضا الجسم الغليظ المحدق به على شكله، وتكون لحما صلبا، وصار عليه غلاف صفيق يحفظه وسمي العضو كله قلبا واحتاج لما يتبع الحرارة من التحليل وافناء الرطوبات إلى شيء يمده ويغذوه، ويخلف ما تحلل منه على الدوام، وإلا لم يطل بقاؤه، واحتاج أيضا إلى تحسس بما يلائمه فيجذبه، وبما يخالفه فيدفعه فتكفل له العضو الواحد بما فيه من القوى التي أصلها منه بحاجته الواحدة، وتكفل له العضو الآخر بحاجته الأخرى وكان المتكفل بالحس هو الدماغ و المتكفل بالغذاء هو الكبد؛ واحتاج كل واحد من هذين إليه في أن يمدها بحرارته، وبالقوى المخصوصة بهما التي أصلها منه، فانتسجت بينهما لذلك كله مسالك وطرق بعضها أوسع من بعض بحسب ما تدعو اليه الضرورة، فكانت الشرايين والعروق.
وصفه الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك شيئا، إلى أن كمل خلقه، وتمت أعضاؤه، وحصل في حد خروج الجنين من البطن، واستعانوا في وصف كمال ذلك بتلك الطينة الكبيرة المتخمرة، وأنها كانت قد تهيأت لان يتخلق منها كل ما يحتاج إليه في خلق الإنسان من الأغشية المجللة لجملة بدنه وغيرها فلما كمل انشقت عنه تلك الأغشية، بشبه المخاض، وتصدع باقي الطينة إذ كان قد لحقه الجفاف."
والمؤلف يروى الحكاية كروايات التراث من روايات مختلفة أو بتعبير العصر من وجهات نظر مختلفة فبعد أن روى أن حى تولد من الطين روى الحكاية من وجهة النظر الأخرى وهى وجود أب وأم تزوجا سرا وخوفا من قتل طفلهما وضعته الأم فى تابوت وألقته فى الماء وهو قوله:
"ومنهم من أنكر ذلك وروى من أمره خبرا نقصه عليك، فقال: انه كان بازاء تلك الجزيرة، جزيرة عظيمة متسعة الأكتاف، كثيرة الفوائد، عامرة بالناس، يملكها رجل منهم شديد الأنفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر فعضلها ومنعها الأزواج إذا لم يجد لها كفوا وكان له قريب يسمى يقظان فتزوجها سرا على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم ثم إنها حملت منه ووضعت طفلا فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها، وضعته في تابوت أحكمت زمه بعد أن أروته من الرضاع؛ وخرجت به في أول الليل في جملة من خدمها وثقاتها إلى ساحل البحر، وقلبها يحترق صبابة به، وخوفا عليه، ثم إنها ودعته وقالت: "اللهم انك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئا مذكورا، ورزقته في ظلمات الأحشاء، وتكفلت به حتى تم واستوى وأنا قد سلمته إلى لطفك، ورجوت له فضلك، خوفا من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد فكن له، ولا تسلمه، يا أرحم الراحمين" ثم قذفت به في اليم فصادف ذلك جري الماء بقوة المد، فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها. وكان المد يصل في ذلك الوقت إلى موضع لا يصل إليه بعد علم فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة، مستورة عن الرياح والمطر، محجوبة عن الشمس تزاور عنها إذا طلعت، وتميل إذا غربت ثم أخذ الماء في الجزر وبقي التابوت في ذلك الموضع، وعلت الرمال بهبوب الرياح، وتراكمت بعد ذلك حتى سدت مدخل الماء إلى تلك الأجمة.
فكان المد لا ينتهي إليها، وكانت مسامير التابوت قد فلقت، وألواحه قد اضطربت عند رمي الماء في تلك الأجمة."
ألا يذكرنا هذا بقصة موسى(ص) ؟
المؤلف استهل الكتاب الحكائى بصفحات لا علاقة لها بالحكايات وإنما استهلها بالكلام عن الجغرافيا فقال :
"وهي التي ذكر المسعودي أنها جزيرة الوقواق لان تلك الجزيرة اعدل بقاع الأرض هواء؛ أتممها لشروق النور الأعلى عليها استعداد، وان كان ذلك خلاف ما يراه جمهور الفلاسفة وكبار الأطباء، فانهم يرون إن اعدل ما في المعمورة الإقليم الرابع، فان كانوا قالوا ذلك لأنه صح عندهم انه ليس على خط الاستواء عمارة لمانع من الموانع الأرضية، فلقولهم: أن الإقليم الرابع اعدل بقاع الأرض وجه، وان كانوا إنما أرادوا بذلك إن ما على خط الاستواء شديد الحرارة، كالذي يصرح به أكثرهم فهو خطأ يقوم البرهان على خلافه."
فالرجل يذكر خلاف الفلاسفة والرحالة حول أعدل بقاع الأرض وهو خلاف كلامى ليس عليه برهان فلسفى وإنما البرهان هو الواقع فالناس متواجدون فى كل مناطق العالم المعتدلة والمتطرفة
ثم يذكر بعد ذلك كلاما عن علم الطبيعة أى الفيزياء وعن علم الفلك والجغرافيا فيقول:
"وذلك أنه قد تبرهن في العلوم الطبيعية أنه لا سبب لتكون الحرارة إلا الحركة أو ملاقاة الأجسام الحارة والإضاءة؛ وتبين فيها أيضا إن الشمس بذاتها غير حارة ولا متكيفة بشيء من هذه الكيفيات المزاجية؛ وقد تبين فيها أيضا إن الأجسام التي تقبل الإضاءة أتم القبول، هي الأجسام الصقيلة غير الشفافة، ويليها في قبول ذلك الأجسام الكثيفة غير الصقيلة، فأما الأجسام الشفافة التي لاشيء فيها من الكثافة فلا تقبل الضوء بوجه فاللازم عنها أن الشمس لا تسخن الأرض كما تسخن الأجسام الحارة أجسام أخر تماسها، لان الشمس في ذاتها غير حارة ولا الأرض أيضا تسخن بالحركة لأنها ساكنة وعلى حالة واحدة في شروق الشمس عليها وفي وقت مغيبها عنها وأحوالها في التسخين والتبريد، ظاهرة الاختلاف للحس في هذين الوقتين ولا الشمس أيضا تسخن الهواء أولا ثم تسخن بعد ذلك الأرض بتوسط سخونة الهواء، وكيف يكون ذلك ونحن نجد أن ما قرب من الهواء من الأرض في وقت الحر، أسخن كثيرا من الهواء الذي يبعد منه علوا؟ فبقي أن تسخين الشمس للأرض إنما هو على سبيل الإضاءة لا غير، فان الحرارة تتبع الضوء أبدا حتى إن الضوء إذا افرط في المرأة المقعرة، أشعل ما حاذاها.
وقد ثبت في علوم التعاليم بالبراهين القطعية، أن الشمس كروية الشكل، وأن الأرض كذلك، وأن الشمس أعظم من الأرض كثيرا، وأن الذي يستضيء من الشمس أبدا هو أعظم من نصفها، وأن هذا النصف المضيء من الأرض في كل وقت أشد ما يكون الضوء في وسطه، لأنه أبعد المواضع من المظلمة، ولأنه يقابل من الشمس أجزاء أكثر، وما قرب من المحيط كان أقل ضوءا حتى ينتهي إلى الظلمة عند محيط الدائرة الذي ما أضاء موقعه من الأرض قط، وإنما يكون الموضع وسط دائرة الضياء إذا كانت الشمس على سمت رؤوس الساكنين فيه، وحينئذ تكون الحرارة في ذلك الموضع أشد ما يكون فان كان الموضع مما تبعد الشمس عن مسامتة رؤوس أهله، كان شديد البرودة جدا، وان كان مما تدوم فيه المسامتة كان شديد الحرارة، وقد ثبت في علم الهيئة أن بقاع الأرض التي على خط الاستواء لا تسامت الشمس رؤوس أهلها سوى مرتين في العام: عند حلولها برأس الحمل؛ وعند حلولها برأس الميزان.
وهي في سائر العام ستة أشهر جنوبا منهم، وستة أشهر شمالا منهم: فليس عندهم حر مفرط، ولا برد مفرط وأحوالهم بسبب ذلك متشابهة."
وما قاله هنا كلام فيه اخطاء وفيه كلام صحيح لن نتعرض لها كثيرا فمنها أن مناخ المنطقة الاستوائية ليس بردا جدا ولا حارا جدا وهو ما يتعارض مع المعروف حاليا
ثم بدأ الحكاية من نقطة اجماع أصحاب الخلق الطينى وأصحاب الخلق من الأبوين فقال :
"فلما أشتد الجوع بذلك الطفل، بكى واستغاث وعالج الحركة، فوقع صوته في أذن ظبية فقدت طلاها، خرج من كناسه فحمله العقاب، فلما سمعت الصوت ظنته ولدها فتتبعت الصوت وهي تتخيل طلاها حتى وصلت إلى التابوت، ففحصت عنه بأظلافها وهو ينوء ويئن من داخله، حتى طار عن التابوت لوح من أعلاه فحنت الظبية وحنت عليه ورئفت به، وألقمه حلمتها وأروته لبنا سائغا ومازالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى"
وبعد هذا بدأ يحكى كيفية تغير أحواله ووصوله للمعلومات بالتجارب فقال:
"ونحن نصف هنا كيف تربى وكيف أنتقل في أحواله حتى يبلغ المبلغ العظيم"
ونجد المؤلف يناقض نفسه فهو يزعم أن الجزيرة لم يكن بها سباع عادية فى قوله :
"ولم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع العادية"
ومع ذكر وجودها وهى الوحوش فقال :
"وكان بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها"
وهو يزعم أن الوحوش ألفته وألفها فقال:
"فألفته الوحوش وألفها؛ ولم تنكره ولا أنكرها"
وهو ما يناقض أنه كان يحاربها فى قوله:
"وكان بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها، ويقاوم القوي منها"
ويناقض أن الأليف كان ربرب مع الغزالة فى قوله:
"وكان في غدوهما ورواحهما قد ألفهما ربرب يسرح ويبيت معهما حيث مبيتهما"
وكانت حادثة وفاة أمه الظبية وهى الغزالة أول ما علمه التشريح فإنه لما ناداها كثيرا ولم تجبه أراد أن تقوم وتتحرك وفكر فى أنها باردة ولا تتحرك على عكس الأحياء فأحضر ما قدر من أدوات الطبيعة لتشريحها ووصل للقلب فقال :
"وجرد القلب فراه مصمتا من كل جهة، فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة؟ فلم ير فيه شيئا! فشد على يده، فتبين له أن فيه تجويفا، فقال: لعل مطلوبي الأقصى إنما هو في داخل هذا العضو، وأنا حتى الآن لم أصل إليه فشق عليه، فألقى فيه تجويفين اثنين احدهما من الجهة اليمنى والآخر من الجهة اليسرى، والذي من الجهة اليمنى مملوء بعقد منعقد، والذي من الجهة اليسرى خال لا شيء به"
وهو هنا يبين لنا أن القلب يحتوى على اربع غرف وبعد هذا بين المؤلف أن حى توصل إلى الدفن عن طريق غرابين فقال :
"وفي خلال ذلك نتن ذلك الجسد، وقامت منه روائح كريهة، فزادت نفرته عنه، وود أن لا يراه ثم انه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتا ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وان كان قد أساء في قتله اياه! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بآمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب."
ألا يذكرنا هذا بقصة ابنى آدم(ص) ؟
ثم بدأ المؤلف يبين لنا بعض ما علمه حى من علم التشريح وهو كلام كثير نذكر نبذة منه :
"فلما اشتد شغفه بها لما رأى من أحسن آثارها وقوة اقتدارها، وقع في نفسه أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية التي أنشأته، كان من جوهر هذا الوجود أو من شيء يجانسه، وأكد ذلك في ظنه، ما كان يراه من حرارة الحيوان طول مدة حياته، وبرودته من بعد موته، وكل هذا دائم لا يختل فصح عنده أن ذلك البخار الحار هو الذي كان يحرك هذا الحيوان، وأن في كل شخص من أشخاص الحيوانات مثل ذلك، ومتى انفصل عن الحيوان مات فتبين له أن كل شخص من أشخاص الحيوان، وان كان كثيرا بأعضائه وتفنن حواسه وحركاته فانه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد، وانقسامه وانقسامه في سائر الأعضاء منبعث منه. وأن جميع الأعضاء إنما هي خادمة له، أو مؤدية عنه، وأن منزلة ذلك الروح في تصريف الجسد، كمنزلة من يحارب الأعداء بالسلاح التام، ويصيد جميع صيد البر والبحر، فيمد لكل جنس آلة يصيده بها والتي يحارب بها تنقسم: إلى ما يدفع به نكيلة غيره، والى ما ينكي بها غيره وإذا عمل بالكبد كان فعله غذاء واغتذاء وهذه الأعصاب إنما تستمد الروح من بطون الدماغ يستمد الروح من القلب، والدماغ فيه أرواح كثير، لانه موضع تتوزع فيه أقسام كثيرة: فآي عضو عدم هذا الروح بسبب من الأسباب تعطل فعله وصار بمنزلة الآلة المطرحة، التي يصرفها الفاعل ولا ينتفع بها."
ثم بين لنا أنه عن طريق المشاهدة والتجربة وصل إلى أن كل فعل لابد له من فاعل فقال :
"فذلك الاستعداد هو صورته، إذ ليس ها هنا إلا جسم وأشياء تحس عنه، بعد أن لم تكن؛ فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض، واستعداده بصورته، ولاح له مثل ذلك في جميع الصور، فتبين له أن الأفعال الصادرة عنها، ليست في الحقيقة لها، وانما هي لفاعل يفعل بها الأفعال المنسوبة إليها؛ وهذا المعنى الذي لاح له، هو قول الرسول الله عليه الصلاة والسلام: "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به" وفي محكم التنزيل: "بسم الله الرحمن الرحيم" فان تقتلوهم ولكن الله قتلهم؛ وما رميت إذا رميت، ولكن الله رمى! صدق الله العظيم."
كما أدخلنا المؤلف فى علم الهندسة وعلم الفلك فقال :
"وكل جسم يمكن أن تفرض فيه هذه الخطوط، فكل جسم متناه فإذا فرضنا أن جسما غير متناه، فقد فرضنا باطلا ومحالا حتى كانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب، دائرتين اثنتين: إحداهما حول القطب الجنوبي، وهي مدار سهيل، والاخرى حول القطب الشمالي، وهي المدار الفرقدين ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه أولا، كانت هذه الدوائر كلها على سطح آفة ومتشابهة في الجنوب والشمال وكان القطبان معا ظاهرين له، وكان يترقب إذا طلع كوكب من الكواكب على دائرة كبيرة، وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة، وكان طلوعهما معا، فكان يرى غروبهما معا."
ثم بين أن حى توصل للتفكير فى وجود الخالق عن طريق التفكير فى الحوادث وأنه ليست متسلسلة ولا قديمة وغير هذا من المقولات الفلسفية:
"وذلك أنه كان إذا أزمع على اعتقاد القدم، اعترضه عوارض كثيرة، من استحالة وجود ما لا نهاية له، بمثل الذي استحال عنده به وجود جسم لا نهاية وكذلك أيضا كان يرى أن هذا الوجود لا يخلو من الحوادث، فهو لا يمكن تقدمه عليها، وما لا يمكن أن يتقدم على الحوادث، فهو أيضا محدث وإذا أزمع على اعتقاد الحدوث، اعترضته عوارض أخرى، وذلك أنه كان يرى أن معنى حدوثه، بعد أن لم يكن لا يفهم إلا على أن الزمان تقدمه، فرأى انه إن اعتقد حدوث العالم خروجه إلى الوجود بعد العدم، فاللازم عن ذلك ضرورة، انه لا يمكن أن يخرج إلى الوجود بنفسه، وانه لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود، وان ذلك الفاعل لا يمكن إن يدرك بشيء من الحواس، لانه لو أدرك بشيء من الحواس لكان جسما من الأجسام، ولو كان جسما من الأجسام لكان من جملة العالم، وكان حادثا واحتاج إلى محدث، ولو كان ذلك المحدث الثاني أيضا جسما، لحتاج إلى محدث ثالث، والثالث إلى رابع، ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية وهو باطل
فإذن لابد للعالم من فاعل ليس بجسم، وإذا لم يكن جسما فليس إلى إدراكه لشيء من الحواس سبيل، ..زوإذا كان فاعلا للعالم فهو لا محالة قادر عليه وعالم به "بسم الله الرحمن الرحيم" إلا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؟ صدق الله العظيم ...وراى أيضا انه إن اعتقد قدم العالم، وان العدم لم يسبقه، وانه لم يزل كما هو، فان اللازم عن ذلك أن حركته قديمة لا نهاية لها من جهة الابتداء، إذ لم يسبقها سكون يكون مبدؤها منه، وكل حركة فلابد لها من محرك ضرورة، والمحرك أما أن يكون قوة سارية في جسم من الأجسام - أما جسم المتحرك نفسه، وأما جسم أخر خارج عنه - وأما أن تكون قوة ليست سارية ولا شائعة قي جسم كما انك إذا أخذت في قبضتك جسما من الأجسام، ثم حركت يدك، فان ذلك الجسم لا محالة يتحرك تابعا لحركة يدك، حركة متأخرة عن حركة يدك، تأخرا بالذات؛ وان كانت لم تتأخر بالزمان عنها، بل كان ابتداؤهما معا، فكذلك العالم كله، معلول ومخلوق لهذا الفاعل بغير زمان "بسم الله الرحمن الرحيم" إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون صدق الله العظيم.
من فيض ذلك الفاعل المختار - جل جلاله - ومن وجوده، ومن فعله، فعلم أن الذي هو في ذاته أعظم منها، وأكمل، واتمم وأحسن، وأبهى وأجمل وأدوم، وأنه لا نسبة لهذه إلى تلك فما زال يتتبع صفات الكمال كلها، فيراها له وصادرة عنه، ويرى أنه أحق بها من كل ما يوصف بها دونه وتتبع صفات النقص كلها فرآه بريئا منها، ومنزها عنها"
ثم حكى أن حى توصل للحلال والحرام عن طريق التالى:
"فاتجهت عنده الأعمال التي يجب عليه أن يفعلها نحو ثلاثة أغراض: أما عمل يتشبه بالحيوان الغير الناطق وأما عمل يتشبه به بالأجسام السماوية وأما عمل يتشبه به بالموجود الواجب الوجود فالتشبه الأول: يجب عليه من حيث البدن المظلم ذو الأعضاء المنقسمة، والقوى المختلفة، والمنازع المتفننة والتشبه الثاني: يجب عليه من حيث له الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، وهو مبدأ لسائر البدن، ولما فيه من القوى والتشبه الثالث: يجب عليه من حيث هو، أي: من حيث هو الذات التي بها عرف ذلك الموجود الواجب الوجود.
وكان أولا قد وقف على أن سعادته وفوزه من الشقاء، إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، حتى يكون بحيث لا يعرض بطرفة عين فان عدم هذه، فله أن يأخذ من الحيوان آو من بيضه، والشرط عليه من الحيوان إن يأخذ من أكثره وجودا، ويستأصل منه نوعا بأسره هذا ما رأى في جنس ما يتغذى به فجعل يتشبه بها جهده في كل من هذه الاضرب الثلاثة آما الضرب الأول: فكان تشبه بها فيه: إن ألزم نفسه إن لا يرى ذا حاجة آو عاهة آو مضرة، أو ذا عائق من الحيوان أو النبات، وهو يقدر على أزالتها عنه إلا ويزيلها فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب آو تعلق به نبات آخر يؤذيه، أو عطش عطشا يكاد يفسده، أزال عنه ذلك الحاجب إن كان ما يزال، وفصل بينه وبين ذلك المؤذي بفاصل لا يضر المؤذي، وتهده بالسقي ما أمكنه ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه سبع آو نشب به ناشب، آو تعلق به شوك، آو سقط على عينيه آو آذنيه شيء يؤذيه، آو مسه ظمأ آو جوع، تكفل بإزالة ذلك كله عنه جهده واطعمه وسقاه ممره ذلك عائق، من حجر سقط فيه، آو جرف انهار عليه، ازال ذلك كله عنه وما زال يمعن في هذا النوع من ضروب التشبه حتى بلغ فيه الغاية.
وأما الضرب الثاني: فكان تشبهه بها فيه إن الزم نفسه دوام الطهارة وإزالة الدنس والرجس عن جسمه والاغتسال بالماء في اكثر الأوقات، وتنظيف ما كان من أظافره واسنانه ومغابن بدنه، وتطيبها بما أمكن من طيبات النبات وصنوف الدهون العطرة، وتعهد لباسه بالتنظيف والتطييب حتى كان يتلألأ حسنا وجمالا ونظافة وطيبا والتزم مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة: فتارة كان يطوف بالجزيرة، ويدور على ساحلها ويسيح بأكنافها، وتارة كان يطوف ببيته، او ببعض الكدى أدوارا معدوده: آما مشيا، آما هرولة؛ وتارة يدور على نفسه حتى يغشه عليه.
واما الضرب الثالث: فكان تشبهه بها فيه، إن كان يلازم الفكرة في تلك الموجود الواجب الوجود، ثم يقطع علائق المحسوسات ويغمض عينيه، ويسد أذنيه، ويضرب جهده عن تتبع الخيال، ويروم بمبلغ طاقته إن لا يفكر في شيء سواه، ولا يشترك به احدا ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها فجعل يطلب كيف يتشبه به في كل واحد من هذين الضربين.
آما صفات الايجاب، فلما علم انها كلها راجعة إلى حقيقة ذاته، وانه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، إذ الكثرة من صفات الأجسام؛ وعلم إن علمه بذاته؛ ليس معنى زائدا على ذاته، بل ذاته هي علمه لذاته؛ وعلمه بذاته هو ذاته، تبين له انه إن أمكنه هو إن يعلم ذاته، فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معنى زائدا على ذاته، بل هو هو! فرأى إن التشبه به من صفات الايجاب، هو ان يعلمه فقط دون إن يشرك به شيئا من صفات الأجسام؛ فاخذ نفسه بذلك وأما صفات السلب، فانها كلها راجعة إلى التنزه عن الجسمية فجعل يطرح اوصاف الجسمية عن ذاته ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك، وغابت عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية، وجميع القوى المفارقة للمواد، والتي هي الذوات العارفه بالموجود الحق؛ وغابت ذاته في جملة تلك الذوات، وتلاشى الكل واضمحل، وصار هباء منثورا، ولم يبقى إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود وهو يقول بقوله الذي ليس معنى زائدا على ذاته: "بسم الله الرحمن الرحيم" لمن الملك اليوم لله الواحد القهار صدق الله العظيم ففهم كلامه وسمع ندائه ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام، ولا يتكلم"
وقد توصل حى فى الحكاية لمعرفة ذاته فذكر لها وصفا خرافيا فقال:
"فرأى له ذاتا بريئة عن المادة ليست شيئا من الذوات التي شاهدها قبلها، ولا هي سواها ولهذه سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان، يسبح بها ذات الواحد الحق، ويقدسها ويمجدها، لا يفتر؛ ورأى لهذه الذات، التي توهم فيها الكثرة وليست كثيرة، من الكمال واللذة، مثل الذي رآه لما قبلها وكأن هذه الذات صورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج، وقد انعكست إليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى إليها الانعكاس على الترتيب المتقدم من المرآة الأولى التي قابلت الشمس بعينها ثم شاهد لنفسه ذاتا مفارقة، لو جاز إن تتبعض ذات السبعين ألف وجه، لقلنا انها بعضها ولولا إن هذه الذات حدثت بعد إن لم تكن، لقلنا إنها هي! ولولا اختصاصها ببدنه عند حدوثه، لقلنا إنها لم تحدث! وشاهد في هذه الرتبة ذواتا، مثل ذاته، لاجسام كانت ثم اضمحلت، ولاجسام لم تزل معه في واما الذوات الإلهية، والأرواح الربانية، فانها كلها بريئة عن الأجسام ولواحقها ومنزهة غاية التنزيه عنها، فلا ارتباط ولا تعلق لها بها"
وبعد انتهى المؤلف من ذكر خمسين سنة ذكر مبدأ اتصال حى بالناس وهو أن عالما اسمه أسال وصل الجزيرة من جزيرة مجاورة فحاول حى الاتصال به وبعد شد وجذب بينهما نتيجة عدم وجود طريقة تواصل بينهما عرف أسال أنه لابد أن يعلمه اللغة فعلمه اللغة وبعد الانتهاء بدأ يعلمه الدين فتوصل حى إلى أن الدين الذى وصل له هو ما أخبره به أسال فقال :
" ذكروا: إن جزيرة قريبة من الجزيرة التي ولد بها حي بن يقظان على أحد القولين المختلفين على صفة مبدئه، انتقلت إليه ملة من الملل الصحيحة الماخوذه على بعض الأنبياء المتقدمين، صلوات الله عليهم وكانت ملة محاكية لجميع الموجودات الحقيقية بالأمثال المضروبة التي خيالات تلك الأشياء، وتثبت رسومها في النفوس، حسبما جرت به العادة في مخاطبة الجمهور؛ فما زالت تلك الملة تنتشر بتلك الجزيرة وتقوى وتظهر، حتى قام بها ملكها وحمل الناس على التزامها وكان قد نشأ بها فتيان من أهل الفضل والخير، يسمى أحدهما أسال والآخر سلامان فتلقيا هذه الملة وقبلاها احسن قبول، واخذ على أنفسهما على بالتزام جميع شرائعها والموظبة على جميع أعمالها، واصطحبا على ذلك فجعل يكلم حي بن يقظان ويسائله عن شأنه بكل لسان يعلمه ويعالج أفهامه فلا يستطيع، وحي بن يقظان في ذلك كله يتعجب مما يسمع ولا يدري ما هو غير أنه يظهر له البشر والقبول فاستغرب كل واحد منهما أمر صاحبه فلما سمع أسال منه وصف تلك الحقائق والذوات المفارقة لعالم الحس العارفة بذات الحق عز وجل، ووصفه ذلك الحق تعالى وجل بأوصافه الحسنى، ووصف له ما أمكنه وصفه مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وألام المحجوبين، لم يشك أسال في أن جميع الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله عز وجل، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وجنته وناره، هي أمثلة هذه التي شاهدها حي بن يقظان؛ فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خطره وتطابق عنده المعقول والمنقول، وقربت عليه طرق التأويل، ولم يبق عليه مشكل في الشرع إلا تبين له، ولا مغلق إلا انفتح، ولا غامض إلا اتضح، وصار من أولى الألباب."
وبين المؤلف أن حى لم يقتنع بأمرين فى الدين حيث لم يتوصل للحكمة منهما وهو أن رسول القوم ضرب أمثال كثيرة للناس والثانى أمر الأموال وفى هذا قال المؤلف:
"انه بقي في نفسه أمران كان يتعجب منهما ولا يدري وجه الحكمة فيهما: أحدهما - لما ضرب هذا الرسول الأمثال للناس في أكثر ما وصفه من أمر العالم الإلهي، وأضرب عن المكاشفة حتى وقع الناس في أمر عظيم من التجسيم، واعتقاد أشياء في ذات الحق هو منزه عنها وبريء منها؟ وكذلك في أمر الثواب والعقاب! والآمر الآخر - لم اقتصر على هذه الفرائض ووظائف العبادات وأباح الاقتناء للأموال والتوسع في المأكل، حتى بفرغ الناس بالاشتغال بالباطل، والأعراض عن الحق؟ وكان رأيه هو لا يتناول أحد شيئا إلا ما يقيم به من الرمق؛ واما الأموال فلم تكن لها عنده معنى وكان يرى ما في الشرع من الأحكام في أمر الأموال: كالزكاة وتشعبها، والبيوع والربا والحدود والعقوبات، فكان يستغرب هذا كله ويراه تطويلا، ويقول: إن الناس لو فهموا الآمر على حقيقته لاعرضوا عن هذه البواطل، وأقبلو على الحق، واستغنوا عن هذا كله، ولم يكن لاحد اختصاص بمال يسأل عن زكاته، أو تقطع الأيدي على سرقته، أو تذهب النفوس على أخذه مجاهرة."
وبين المؤلف أن حى فهم سبب ضرب الأمثال وهو أن معظم الناس لا يفكرون ومن ثم لا يجب إخبارهم بأمور غائبة عن أذهانهم فمن يريد تعليمهم يعلمهم الأحكام التعاملية مباشرة لأن الأمور الغيبية لا يحسنون التفكير فيها فقال:
"فلما فهم أحوال الناس وان أكثرهم بمنزلة الحيوان غير الناطق علم أن الحكمة كلها والهداية والتوفيق فيما نطقت به الرسل ووردت به الشريعة لا يمكن غير ذلك ولا يحتمل المزيد عليه ولكل عمل رجال وكل ميسر لما خلق له
ثم تحدث عن الداعية الثانى سلامان الذى يرى ضرورة معاملة الناس وليس العزلة عنهم كما يرى أسال فقال :
" فانصرف إلى سلامان وأصحابه، فاعتذر عما تكلم به معه وتبرأ إليهم منه وأعلمهم أنه قد رآه مثل رأيهم واهتدى بمثل هديهم، وأوصاهم بملازمة ما هم عليه من التزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة مقلة الخوض فيما لا يعنيهم، والإيمان بالمتشابهات والتسليم لها، والأعراض عن البدع والأهواء والاقتداء بالسلف الصالح والترك لمحدثات الأمور، وأمرهم بمجانبة ما عليه جمهور العوام من إهمال الشريعة والإقبال على الدنيا، وحذرهم عنه غاية التحذير"
وبين أن أسال اقتدى بحى فى العبادة بعد عودة حى لجزيرته فقال :
"وطلب حي بن يقظان مقامه الكريم بالنحو الذي طلبه أولا حتى عاد إليه، واقتدى به أسال حتى قرب من أو كاد وعبدا الله في تلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين."
وقد بين المؤلف أن الحكاية من حكاه له من العلماء طلب منه ألا يحكيها لأحد فقال :
"هذا - أيدنا الله وأياك بروح منه - ما كان من نبأ حي بن يقظان وأسال وسلامان وقد أشتمل على حظ من الكلام لا يوجد في كتاب ولا يسمع في معتاد خطاب، وهو من العلم المكنون الذي لا يقبله إلا أهل المعرفة بالله، ولا يجهله إلا أهل الغرة بالله وقد خالفنا فيه طريق السلف الصالح في الضنانا به والشح عليه "
والغريب أن المؤلف الذى يتفلسف معظم الكتاب من خلال الحديث الفلسفى عن العدم والوجود والقدم والتسلسل والاسطقسات وواجب الوجود... يقول أن سبب افشاء الحكاية هو الرد على فلاسفة العصر فقال :
"إلا أن الذي سهل علينا إفشاء هذا السر وهتك الحجاب، ما ظهر في زماننا من أراء فاسدة نبغت بها متفلسفة العصر وصرحت بها، حتى انتشرت في البلدان وعما ضررها وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على غير أهلها، فيزيد بذلك حبهم فيها وولعهم فيها."