هي التفاصيل التي تعلق في البال وتسافر معنا أينما ارتحلنا , تشدّ حواسنا معاتبةً :
أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء , هُنا وقفة فتأملوا معي ..
كُنت أقف على الرصيف المقابل وأتأمل ضرير طاعن في السن يفترش قارعة الطريق ,
يرتدي شيئاً ما يشبه الثياب ويضع أمامه " دكاناً " صغيراً لا تتجاوز قيمة الأشياء المعروضة به ما يسد رمق حوجته
, ومع ذلك كان صابراً قنوع وأنا أراقبه بجزع وهو يحاول بيديه المرتجفتين
أن يُعيد لملمت بضاعته المفروشة أمام من أقدام العابرين الذين لا يشعرون بوجوده
إلا حين تصطدم أحذيتهم به ويتأفف بعضهم ,
والبعض يلقون عليه نظرةً باردة مستعجلة ,
والبعض يرميه بنظرات شرر لأنه قطع عليهم خطواتهم المتعجّلة .
فجأة يتوقف أحدهم بعد أن تجاوزه بقليل , ويتذكر أنه لم يتصدّق منذ فترةٍ طويلة ,
ولعلّه تذكر أيضاً أن كل فلساً يضعه في يد هذا الضرير المسكين سيعود إليه ضعفاً مضاعف يوماً ما , وكأنه تاجر ماهر
فقرر العودة بخطوات إلى هذا البائس المرتمي على الأرض بكل ذل ,
ويخرج من جيبه رزمة نقود وينتقي منها ورقةً ما ويلقيها في حجر هذا الكائن البائس ببرود ,
ويمضي سريعاً دون مبالاة لأن ينصت لسيل دعواته التي كان يفرك راحتيه حبوراً ويستمطر بها السماء لرحمته .
وهناك رجلاً آخر كان يسير متعجّلاً , يرتطم عفواً بركبة هذا المسكين ,
ويذعر من ما جنته قدماه وينحني إليه بكل عطف واهتمام ,
معتذراً منه بشدة إن كان قد آلمه ,
ثم يخرج محفظة مهترئة وغير مبالي بنوعية الأوراق التي يخرجها ويضعها في يدي هذا الكسير
وهو يصافحه بكل محبة ويده الأخرى تربت على كتفه بحنان صادق للعيان ,
وكأنه يخبره بأن هناك رحماء يواسونه ويشعرون حقاً بمأساته الشخصية ,
وأن نور الوجود موجود ولا يحتاج إليه بصره كي يراه جيداً ,
ثم مضى مبتعداً وهو يمسح دمعة عالقةً وحلق ببصره للسماء وكأنه يدعو الله بقلبه أن يخفّف عن هذا البائس بؤسَه .
بالتأكيد كلا الرجلين دفعا صدقةً وكلاهما نالا حظّاً وافراً من الأجر ومن الدعاء ,
ولكن الفرق بأن كل من دفع صدقتَه بقلبٍ محبّ هو أقرب من دفعها بأصابعه فقط ,
فكونوا رحماء بينكم حينها يرحمكم من في السماء ..