اخر المواضيع

اضف اهداء

 

العودة   منتديات الرائدية > المنتديات الإبداعية > منتدى القصص والروايات
 

إضافة رد
مشاهدة الموضوع
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-05-2006, 12:31 AM   رقم المشاركة : 11
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

القرنفلة
كادت تضحك. أنت؟ ماأصغر الآخرة! وكاد هو أيضا يضحك: أنت؟! تركها وكل منهما في المدرسة بعد. اختفت يومذاك، ولم يعرف مكان بيتها الجديد. خطؤه أنه ظنها باقية في ذلك الحي! كان صغيرا، فلم ينتبه إلى تنقل الناس في مدينته، مع أنه سمع حوار أمه وأبيه. قالت أمه: لم يبق في الحارة أحد نعرفه. باع أهل الحارة بيوتهم، أو أخذوا "فروغها"، وانتقلوا إلى أحياء بعيدة. بالفرق بين ثمن البيت هنا وبين ثمنه هناك اشتروا بيتين أو بيتا ودكانا أو شاركوا في مشاريع. لماذا لانكون مثلهم؟
كان فتيا فلم يتصور أن البنت الجميلة التي تمر كل يوم على رصيف بيته، يمكن أن تنتقل من ذلك الحي. لم يفهم أن المخازن الجديدة التي انتشرت في حارته تعني أن المنطقة غيرت صفتها "من سكنية إلى تجارية". لاحظ أن الستائر نزعت عن نوافذ الطابق الأول من البيوت، وأن الأبواب أغلقت بأخشاب دقت بالمسامير. وأن تلك البيوت بقيت مهجورة زمنا، ثم حضرت الورشات وهدمت جدرانها. ثم رفعت بوابات ذات قناطر، وظهرت مخازن كسيت بالخشب والرخام. فأصبحت البيوت القديمة ذات الأخصاص والسطوح القريبة من الأرض، غريبة في حيها. صارت تبدو فقيرة ومسكينة كأنها تنتظر من يشتريها ويكسوها لتليق بما يجاورها.
ناولته أمه ذات يوم علبة من الكرتون وقالت له: اجمع أغراضك وضعها فيها. بعنا البيت! فهل كان يستطيع أن يعترض؟ وماأهمية أن يبقى في ذلك البيت بعد أن فقد أصحابه وأولاد جيرانه الذين انتقلوا إلى أحياء جديدة؟! أعطوه عناوينهم يوم رحلوا، وحاول أن يزورهم فركب باصات وسرفيسات إلى أحياء لم يرها من قبل. تاه، وسأل المارين وأصحاب الدكاكين، وصف شكل أصحابه وشكل آبائهم، لكنه لم يهتد في يسر إلى تلك البيوت. كان أصحابه سكانا مجهولين في تلك الأنحاء.
لذلك انقبض قلبه. سيكون هو أيضا مجهولا هناك، لايسلم على صاحب الدكان، ولايصادف أولاد الجيران في الطريق. كم مرة وقع في هذا الحي على الأرض فهرع إليه الجيران ودهنوا جرحه باليود وضمدوه دون أن ينادوا أهله! كم مرة فتق قميصه وهو يلعب في الحارة، فخاطه أو رتقه الجيران دون أن يخبروا أهله! حدث أن كسر زجاج نافذة في أحد البيوت وهو يلعب بالطابة مع أصحابه! هرب مثلهم وابتعد عن البيت. فركّب أبوه زجاجا جديدا للنافذة المكسورة، وأرسله ليعتذر عما جنى. فسقاه الجيران شراب الورد، شرابا أطيب من الشراب الذي تحضره أمه! أيمكن أن يجد في الحي الجديد البعيد مثل اولئك الجيران؟
نظر إليها وهما يمشيان تحت السرو، وقال لنفسه: بريق عينيها لم يتغير! وتذكر أنه كان مسحورا به. وحكى لها كيف رتب أغراضه في العلبة التي تناولها من أمه، وانتقل إلى حي بعيد جديد لاأصحاب له فيه. في ذلك العمر تطلب القدمان والعينان مساحات واسعة. يتسلق الفتى الأسوار والأشجار، يقصد الجبل البعيد ليكتشف الصخور والمغاور، يركب الدراجة مع أصحابه ويبتعد عن حارته إلى الربوة، يسبح في النهر سرا ويحاول أن يخفي وجهه الذي لوحته الشمس، ولايمنعه التأنيب من العودة إلى النهر. يكتشف البساتين والأنهار. فكيف يقيد ببيت صغير في بناء، يحتج الجيران فيه إذا جر كرسيا، أو رمى ورقة مشتعلة من النافذة!
هي؟ فقدت يومذاك السطح! كانت تصعد إلى السطح، وترى البلد من مرتفع. تجلس على سقف الدرج، وتنزلق متزحلقة. تتسلق القرميد وتتفرج على حدائق الجيران من فوق. تغرف الماء من برميل الماء على السطح وتسكبه على نفسها وقت الحر، أمام المدينة والسطوح والحمام الذي يدور في السماء، والغسيل المنشور. السطح مملكتها. وقد فقدتها! السطح في البناء الجديد مشترك بين الجيران كلهم. قد يخطر لأحدهم أن يتفقد المدخنة، وقد يخطر لآخر أن ينشر الغسيل، وهي هناك. يراقب سكان الطابق الأخير كل حركة على السطح. تزعجهم الضجة! ممنوع النط على الحبل! بل يشعرون حتى بالخطوة المتسللة! على كل حال، هل تستطيع أن تتحرك في حرية على سطح فيه صواني المربى على الأرض، وفيه الغسيل منشور على الحبال؟
نظر إليها وابتسم: أنت داويتني يومذاك! لو كان في الدنيا، أكان يجرؤ على البوح كما يبوح هنا ببساطة ويسر؟! بحث عنها وقت خروج الطالبات من المدارس. كان يقصد في كل اسبوع مدرستين! يظل واقفا أمامهما حتى تنصرف جميع الطالبات ويغلق الباب. مرة ناداه أبوه وسأله: ألا تظن أنك بكرت في متابعة بنات المدارس؟! وصله إذن الخبر!
ماذا قلت له؟
- لم أستطع أن أعترف له بأني منذ سنوات أتابعك!!
ابتسمت:
- هل أخذت قائمة بأسماء المدارس من مديرية التربية؟!
- تسخرين مني؟ جردت من المدارس مااستطعت!!
لم يترك فرصة غاب فيها أستاذ أو أجّل درس، إلا أفاد منها! بعد إحدى المسيرات سألوه في المدرسة: لماذا هربت؟ ولم يوفق إلا بكذبة يتداولها الطلاب: دخت! لكن هل كنت أكذب؟
- دوختني ياليلى! جعلتني مثل قيس!
ضحكت ضحكتها نفسها ذات الرنين! الضحكة التي أطل على صوتها من النافذة، فرآها أول مرة وهي تعبر بيته مع زميلتها. يومذاك نظر إلى الساعة وحفظ الموعد، واليوم. كتبت ذلك على الجدار. أعلنت أسرارك على الجدران؟ لا، لايستطيع أن يفك تلك الشيفرة غيري! كنت أكتب ماأريد مقطّعا، كلمة فوق، وكلمة تحت، وأخرى مائلة حولاء! هل تركت شيفرتك في البيت القديم؟ تركتها كي يشقوا في حلها! مسكين! طار البيت! مررت به، فلم أعرف أنه كان هناك. لم يتركوا شيئا منه. لم يتركوا حتى شجرة الكينا أمامه! لولا المخزن المقابل له لما استطعت أن أحدد مكانه! إذن عدت إلى هناك؟ طبعا عدت! تصورت أنك سترمي علي قرنفلة أخرى!
تبوح هي أيضا في يسر! لو كانت في الدنيا لما جسرت على البوح! عادت باحثة عنه. لاتتصور أن ذلك كان سهلا! ركبت باصين! في المرة الأولى كان البيت موجودا، وستائر النافذة ماتزال هي نفسها تلك الستائر المطرزة. ولكن ماذا يمكن أن أفعل؟ هل أقف مقابل بيتك حتى تظهر؟ ضحك: كما وقفت أمام المدارس! قالت: لاأستطيع ذلك! لكني عبرت الطريق مرتين وأنا أحدق في الأرض كأني أبحث عن شيء ضاع مني! فنادتني امرأة من النافذة: يابنتي، ماذا ضيعت؟ قلت لها: قلم الحبر! فأرسلت ابنتها لتبحث معي عنه! عبرنا الطريق مرة ثالثة.. ولم نجد القلم!! ابتسم: كنت أبحث عنك في أمكنة بعيدة، وأنت تبحثين قرب بيتي عن القلم!! عادت فيما بعد إلى هناك، لكن البيت نفسه كان قد طار، ولم تلمح في أية نافذة من البناء الجديد الستائر المطرزة، ففهمت أنه ضاع.
كان يمكن أن يصادفها أو أن تصادفه في مركز البلد، في الشعلان مثلا، في سوق الحميدية مثلا.. لكنهما لم يلتقيا أبدا. كان يقال: الدنيا صغيرة! لا، أقول: الآخرة صغيرة! تضحك ويضحك! قالت لي أمي: عيناك زائغتان! لو لم أكن أعرفك، لقلت إنك تبحثين عن شخص! سألني أبي وأنا أركض إلى النافذة: أيذهب بعقلك صوت امرأة؟! ركضت يومذاك إلى النافذة لأني سمعت صوت ضحكة خيل إلي أنها ضحكتك! كان ذلك بعد عشر سنوات على فراقنا. بعد عشر سنوات تتذكر ضحكتي التي سمعتها مرة واحدة؟ ستسخرين مني إذا اعترفت لك بأني رفعت غطاء التابوت وأطللت منه وقت سمعت صوتا يشبه صوتك!
ياللمبالغة! لكن اعترافه ممتع! مرت سنوات طويلة دون أن تسمع مثل هذا الحديث الشيق! جلست على حجر تحت شجرة سرو، وجلس قربها. وتذكرا ذلك اليوم الأول. كانت تمشي مع رفيقتها، راجعتين من المدرسة. كانت تلبس مريولا أزرق، وجوارب قصيرة بيضاء، وكانت على رأسها شريطة بيضاء، وحول رقبتها قبة بيضاء مطرزة. كانت تحمل دفاترها بيدها. كان ذلك آخر يوم من أيام السنة المدرسية، والصيف مايزال طويلا أمامها، وماتزال تتوهم أنه سيتسع لما تعجز عن استيعابه مئات السنوات. لم تكن تحتاج إلى قصة مضحكة كي تضحك. وقتئذ رنت ضحكتها، ضحكة سمعها من غرفته التي تطل على الطريق. كأن نافورة البيت فتحت فجأة! كأن أمه غنت فجأة! كأن جارته أمسكت بالعود فجأة! مدّ نصف جسمه خارج النافذة ليتابعها وهي تمشي مع زميلتها. وظل ينتظرها حتى انتهى الصيف وعادت إلى مدرستها.
صار يركض ليتجاوزها. يسرع ليعود ويعبرها وجها لوجه. لكنها لم تنتبه إليه! فانتظرها مرة في نافذته حتى مرت تحتها، وعندئذ رمى عليها قرنفلة حمراء. تدرب زمنا طويلا، واستعان بزميله كي تسقط القرنفلة تماما أمامها. تدرب حتى اتسخت القرنفلة! في البرهة المنتظرة قطف من الإصيص أجمل قرنفلة وجلس ينتظرها. ونجح! وقعت القرنفلة الحمراء أمامها تماما. رفعت رأسها، متلفتة تبحث عمن رماها. آه، لاتنتبه إليه، تبحث في اتجاه آخر! مدّ نفسه من النافذة وقال: أنا! أنا رميتها! فضحكت، ضحكت، ضحكت وهي تنظر إليه. ثم وضعت ذراعها في ذراع زميلتها ومشت مبتعدة!
لم ترفعي رأسك إلى النافذة فيما بعد أبدا! لم أرفعه، لكني كنت أنظر من بعيد إلى نافذتك! لم ترفعي رأسك أبدا حتى عندما كنت أمد نفسي منها! قالت: كنت أسمع أمك تحذرك: ستقع ياقيس!! ضحكت، ضحكت، ضحكت وهي تنظر إليه: هانحن التقينا أخيرا! يكاد يشعر بالحزن وهو يرد: هنا؟! ضيعنا هناك، لنكسب هنا؟! ابتسمت. الحزن ممنوع هنا، وكذلك الندم !







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 12:32 AM   رقم المشاركة : 12
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

الزمان
ليس أهلها فقراء إلى هذا الحد! ومع ذلك تركوها دون شاهدة من حجر تربط إليها غصون الآس! كأنها عاشت دون اسم، دون وجه! ينكرونها! من غرس إذن هذه العلبة من المعدن في الطين الهش لتوضع فيها أزهار لم يجرؤ أحد على وضعها؟ من؟
زين الأحياء المقبرة في صباح العيد بحزم الآس، وزهر الغريب. حمل بعضهم ورودا وقرنفلا من أحواض البيوت. أتى بعضهم بزنبق أبيض وأحمر تفتح مبكرا هذه السنة. ثم خرجوا من زيارة الموتى إلى زيارة الأحياء، إلى حلوى العيد وروائح الطعام وعبق السمن.
تفرج الموتى من خلف ستائرهم الشفافة على تلك الزيارات. وراقبوا الحزن الطري، والحزن الجاف، ولاحظوا غيرة الأحياء من راحة الموتى الذين تركوا الهمّ لمن بقي في الحياة. وتابعوا حوارا بين الأحياء وبين القبور، لايستطيع الموتى أن يجيبوا فيه على كلمة مما يقال. لو استطاعوا لقالوا لاولئك الأحياء: يوم كنتم تستمتعون بالسمن وتأملون بالعسل لم تغبطونا على الموت! ولقالوا: تتمنون عودتنا، فهل تركتم رقعة بقدر الكف لقدم، أو تركتم شجرة نستظل بها؟ ولقالوا: زورتم الحسابات فهل تقدرون الفوضى التي ستعصف بكم لو تحققت رغبتكم فعدنا إلى الحياة؟ ولقالوا: إياكم أن تغرونا بما تخلصنا منه من عواطف الأحياء! ولجرى كثير من العتاب، وكثير من الغضب والغم. لكن الكلام والصمت كانا موزعين بين جانبين يقول كل منهما لنفسه ماشاء ويتوهم ماأراد!
لم يكن الموتى يتجولون في مملكتهم في أيام الأعياد إلا بعد أن ينصرف الزوار، وتغلق البوابات. وكانوا يبكرون بجولتهم في المساء في تلك الأيام، كي يتأملوا مملكتهم المزينة بالآس والزهر والريحان. ويوزعوا في عدل ماأخطأ في توزيعه الأحياء. فيفكون أغصان الآس المكتظة على شاهدة ليحملوا بعضها إلى شاهدة أخرى قلّ فيها. وينقلون الورد إلى قبور الشباب والفقراء، ويرشونها بالماء.
هي، لم تكن تعرف، بعد، تلك الواجبات. أحاط بها المساء، فانصرفت إلى ماكانت تحبه في الحياة. آه، المساء! بعد حر النهار، تفتح باب القاعة وتخرج إلى أرض الدار. تغرف الماء بالسطل من البركة وتسكبه على الحجارة البيضاء والسوداء. فتشعر بهواء ساخن يفور من الأرض. ثم تهب الرطوبة، ويصبح الهواء منعشا رخيا. ترفع ذراعها وتسفح الماء على النباتات المصفوفة في طرف أرض الدار. ترفع ذراعها وتنثر الماء على شجرة الليمون، على البنفسج في الأحواض، على الشكرية التي بدأت ترخي أزهارها البنفسجية، على العطرة، على حلق المحبوب، على الدادا والأرطاسيا. تفور النافورة في وسط البركة، وتدور هي حول نفسها وتسكب الماء على الهواء الناعم الذي يعرش على جانب من الجدار، على الهواء الخشن الذي بدأت حبيباته الحمراء تطرز خضرته المصفرة. "ماذا تفعلين يازهرة؟ ذهب بعقلك الحر؟" بل المساء والماء! آه تفهم الآن لماذا تسمع في البيوت كلها صوت الماء يتدفق من البحرات على أرض الدار، ويسقي الأحواض ويغسل الأشجار، وينسكب في كرم على الحجارة البيضاء والوردية والسوداء. "الماء نعمة الشام!" تسمع كلمات أمها وهي ترش الأشجار بالماء. لاتغسل فقط أوراق شجرة الليمون وشجرة الكباد وشجرة النارنج التي ماتزال مزينة ببعض ثمارها البرتقالية! تغسل روحها من الغبار! تغسل بشرتها البيضاء! تغسل ذراعيها إلى المرفقين، وترش نفسها بالرذاذ! ترفع رأسها. ازرقت السماء! انكسر الحر فاستعادت الدنيا ألوانها! ياللمساء! يغسل المدينة ويعيد إليها الألوان! فلماذا أخرجوها من هناك في تلك الساعة المحبوبة، في المساء؟!
لم تستطع أن تقول هناك بعض الكلمات. فليست البنت من تقول لأهلها: لاتقلقوا سيتبدل الزمان! لاأتزوج، لأن الشغل قلّ عند الخياط، وعند بائع القماش. لاتمتلئ السوق بالناس قبيل الأعياد! وبائع الحلو لايبيع عشية العيد من حلواه! وأصوات الصواني لاترتفع في بيوت الجيران في طريقها إلى الفران! لكن لاتقلقوا علي! مازلت في أول العمر. سيبرح الزمان هذه الأيام! وسأواكب الزمان!
تسمع أمها: يازهرة، هاتي القهوة! فتحمل الصينية، ويفوح الهيل والبن الذي طحنته قبيل لحظات بالمطحنة النحاس. وتدخل إلى الزوار. نساء على رؤوسهن غطاء، نساء دون غطاء، نساء شابات، نساء في منتصف العمر، عجائز مرتبات. يعانقنها ليعرفن رائحتها، وملمس بشرتها، كما يحدث ذلك تماما في الحكايا عن الزواج. أزمنة قديمة تستعاد! طبعا، حتى العروس عادت تسكن مع أهل زوجها. من يدبر بيتا في هذا الزمان؟! سمعت ياأمي: "في هذا الزمان"؟! العتب على الزمان! لذلك لاتتزوج إلا البنات الغنيات والشباب الأغنياء. من بقي يشتغل ليعيش، وخلال ذلك يضع رجل خبزته على جبنة فتاة.
يازهرة، هاتي القهوة! تحمل الصينية وتدخل إلى الضيوف. تعرف أن الزائرات يبحثن لابنهن عن كنز، آملات باكتشاف. لكن النتيجة واضحة للعميان. ألايقال ركود في الاقتصاد؟ فلنقل ركود مثله في الزواج! تقول الخياطة يتزوج فقط القادمون من الخليج في عطلة الصيف. من بقي لايرانا ولانراه! ويردد ذلك الحلاق والسمان.
تحمل صينية القهوة وتدخل كي ترضي أمها. لم نكرر ذلك ياأمي؟ كنت تقولين ماعاد أحد يتزوج بهذه الطريقة. فماذا جرى لك؟ أنت معلمة! أستاذة! لكنك ترتجفين من الزمان. أطفأت التلفزيون. لاتتفرجي ياأمي على الحروب هناك! ستقولين لنفسك ستصل النار إلى هنا من هناك. وتتذكرين ماروته أمك عن "السفر بر" وجوع الناس وبيع البنات! تهب علي رعشتك، لذلك أحمل صينية القهوة وأدخل إلى الزائرات.
لكني حتى اليوم لاأعرف كيف جرف أخي الجنون! أنا سبب جنونه، أم السبب أنه لم يجد شغلا منذ تخرج من الجامعة؟ مرت سنوات وهو يستأجر، مرة ليقود سيارة تاكسي، ومرة يحاول أن يشتغل عامل تمديدات فيفشل هنا وهناك. لامكان له! مهندس زراعي والأشجار تقتلع والمدينة تندفع إلى المقاولات! يتبين أن دراسته في الجامعة دون فائدة، وأنه غير مؤهل لما تنفتح له البوابات! يبدو لي ياأمي أن اضطرابه من فشله يدفعه إلى فشل آخر. الزمان ياأمي، الزمان!
وقت دخل مندفعا ومكسورا، أحمر العينين، فهمت أني لست وحدي سبب ذلك الجنون. ولكن كيف أستوقفه؟ أصرخ؟ وهل كانت تكفيك تلك البرهة كي تنزلي من "الفوقاني" إلى أرض الدار التي كنت أسفح عليها الماء؟ كيف أقوى وحدي على رد يده؟ كيف أقول له إني أشفقت عليه في البرهة التي تفصل الموت عن الحياة؟ أعرف أن ذلك ليس النصر الذي بحث عنه! لم يكن من الإخوة الذين يستبدون بأخواتهم! كان يحملني، كان يدللني، كان يشتري لي قمعا من "النعومة" حتى قلت له: إياك، النعومة تخنق البنات! فحرّمها علي. كان يجلسني في أرجوحة العيد. ويشتري لي من "خرجيته" غزل البنات. ويفسر لي النحو الذي صعب علي، ويجلّد لي دفاتر المدرسة. وبخطه يكتب اسمي على المربعات البيضاء. أخذني معه وأنا صبية إلى السينما! أحرجته النظرات إلي، فصار منذ تلك الأيام يبتسم ويغضي كلما رآني ظاهرة الصبا والجمال.
وصلت زهرة إلى مملكة الصمت قبيل العيد. ماتزال تشعر بالألم. تلمس بكفها رقبتها وتحس بالجرح. مشت وحدها. لاتريد أن يكلمها أحد! لاتريد أن ترى أحدا! يازهرة العاتبة على الدنيا، هنا على من تعتبين؟ لاترد. وتتساءل مقهورة: من غرس تلك العلبة في الطين؟
كانت أحلامها بعيدة عن صينية القهوة وزيارات النساء. لذلك لم تسترسل في الضيق منها. فأدت مايطلب منها كما تؤدى مهمة. لعل بينها وبين أمها مالاينجد فيه الكلام! بينهما العمر. لن تلحق أمها بالزمان المرجو. أما زهرة ففي أول العمر. وعندما تسفح الماء في المساء على الأشجار، تشعر بأن الزمن سيصبح نضرا، ويستعيد الألوان. فهل تستطيع أن تسند رأس أمها إلى كتفها وتقول لها لاتقلقي؟! وهل تستطيع أن تقول لأخيها الذي يكبرها بعشر سنوات اصبر سنوات أخرى، سيتغير الزمان؟ بم ستجيب إذا سألوها: أين الإشارات إلى ذلك، يامنجمة الزمان، وفي كل يوم مشكلة أو نكبة أو زلزال؟ من يتوقع الأمان من الزمان في هذه الأيام؟!
كانت تتجول وحيدة عندما اقترب منها شاب أكبر منها بعشر سنوات. جفلت وابتعدت عنه. لكنه قطع طريقها، فوقفا وجها لوجه. جمعت غضبها كله في عينيها. فقال: اغفري لي! تغفر له؟ هل تصلح المغفرة مافسد؟ هل تعيد إليها المساء في أرض الدار في آخر نهار حار، والماء يبلل ذراعيها وهي ترش به الأشجار؟ هل تداوي المغفرة جرحها المتوهج؟ اسكت، اسكت! آه، تنسين أني عوقبت مثلك! عوقبت؟ فلتعاقب على حمقك! لكن ماذنبي أنا؟ تركته غاضبة، فمشى خلفها. لو عرف جنون أخيها لتقدم وطلب يدها! ماذا تقول؟ وهل كنت أنا أقبلك؟ ماذا يقول؟! لينقذني من الفضيحة؟ أية فضيحة؟ لاأحبك! لست صديقي! أنت جار فقط.. جار من الجيران! جار بعيد عن قلبي! أنا جارة قريبة من قلبك؟ هذا شأنك. لكنك به قتلتني! تطلب يدي؟! تتذكر أنها كانت تهمس لنفسها كلما رأته: هذا آخر رجل يمكن أن أتزوجه! "تطلب يدي؟!" تنسى أني درست في المدارس وأن هذه الكلمات بعيدة عن روحي! تقول، في المدرسة محجبات أيضا؟ لست منهن! ومن لاتحلم بالحب الذي يوصل هو إلى الزواج؟ في عمرها يبدو الحب حب رجل واحد، حبا يستمر طول الحياة، يزهر ويخضر وهو يعبر العمر.
التفتت. مازال يتبعها. ماذا يريد؟ أن يواسيها؟ وهل توجد في هذا مواساة؟ لكنها تساءلت فجأة: كيف وصل إلى هنا؟ ولماذا يلبس ملابس مملكة الصمت البيضاء؟ وانطفأ غضبها. كان في عمر أخيها. كان صاحبه. وأقرب الأصحاب إلى القلب ابن الجيران. يدق الباب فتفتحه له: نعم هنا! ترفع رأسها وتنادي من أرض الدار أخاها، فينزل الدرجات مسرعا إلى صاحبه، ويغيبان في الحارات. يعودان وهما يحملان كيسا فيه فلافل. يجلسان في أرض الدار، وتأتي هي لهما باللبن والخيار والبندورة وبأنواع من المخلل. ثم تطل عليهما من فوق وهما يأكلان ويتحادثان. من أين يأتيان بكل هذا الكلام، وماذا يضحكهما؟ بعد الدراسة افترقا. بحث أخوها عن عمل. هذا اشترى سوزوكي، وقت وصلت السوزوكي إلى البلد. ثم باعها واشترى سيارة نقل زراعية، وقت وصلت السيارات الزراعية إلى البلد. بعد أشهر غطاها وفتح فيها نوافذ خلفية فصارت سيارة محترمة. دبرها! ثم باعها واشترى ميكرو، عندما أدخلت الميكرويات إلى البلد. قيل عمل شركة مع آخرين. ربما! لأن ملابسه تغيرت، ووجهه صار أنضر. بينما كان أخوها يهرم. في تلك الأيام لم تلق عليه السلام عندما كانت تصادفه في الطريق. ويوم أوقف الميكرو ودعاها ليوصلها، مستعدا لتغيير خط سيره ودفع المخالفة، مستعدا كالخاطفين لجر الناس الموجودين معه إلى جهة بعيدة عن مسارهم، التفتت إليه في ترفع: أفضل المشي! بأي حق إذن يكتب اسمها على سيارته؟! تسأله بأي حق؟ يوم سمى السوزوكي "الأميرة أمورة" لم يعترض أحد في الحارة! ويوم كتب بحروف كبيرة على سيارة النقل الزراعية "أميرتي ست الستات" لم يقل أحد لماذا يكرر اسم أميرة. فلماذا جن أخوها، صاحبه من أيام الطفولة، عندما سمى الميكرو المحترم "زهرة ملكت قلبي"؟! تسألني لماذا؟ اسمع لايهمني ذلك كله! لكن سأجيبك لأنك سألتني. أولا، الميكرو ليس محترما! طقطوق، كلما جلست فيه خفت على حياتي! انظر إلى ماتوزعه من دخانه على الشوارع! ثانيا، لايوجد في الحارة من يسمى أميرة. الأميرة مركز، لقب. لكن لايوجد في الحارة زهرة غيري!
ماذا يقول؟ أحقا لم يقصد اسمها؟ هل تناوله في خفة فلم يقدر أنه سيسبب قتلها؟ هل كان يتصور أن صاحبه الدمث، صاحبه الذي مشى معه سنوات في الحارات والشوارع، وصعد معه إلى ذروة قاسيون، وسبح معه في نهر يزيد عند الربوة، وقطف معه المشمش من شجر الغوطة، وتسلق معه عرائش الدوالي، وقطف معه عناقيد العنب قبل أن تحلو، يمكن أن يقتل أخته كالمتوحشين؟
كالمتوحشين؟! تتذكر زهرة أن البلد كلها تحدثت عن شاب ذبح أخته في حديقة عامة. وأن أخاها كان من الغاضبين على ذلك الشاب. قال: "لو عاملنا القتل، مهما كان السبب، كما تعامل جريمة لما ذبح ذلك المجنون أخته!" يومذاك رددت في المدرسة، في فخر، ماقاله أخوها!
ترفع كفها، تلمس عنقها وتطرق. ليس أخي متوحشا! الحياة هي المتوحشة! تلتفت إلى الرجل: أنت أيضا مذنب! كتبت على السيارة بعد شهر: "زهرة أخذت عقلي". في عمرك لايكتب رجل عاقل ذلك! مشت، وتبعها صامتا. تذكرت أنه في مملكة الصمت، مثلها، برداء أبيض، مثلها. هل تسأله لماذا؟ لا، لن تسأله! بل ستسأله! قالت: أنت غرست العلبة في الطين الهش؟ أطرق. يوم مقتلها شطب بالدهان الأسود ماكتبه على الميكرو. ورسم خطوطا سوداء عليه. وعلق شريطا أسود على أنتين بيته وعلى أنتين الميكرو. ثم قطف جميع القرنفل من أحواض بيته، وقصف الزنبق الأبيض، وحزمه باقة ربطها بشرائط حمراء. وضع الباقة على مقدمة الميكرو، وسار إلى المقبرة. إذن هو الذي غرس العلبة في الطين! هو! لم يجد شاهدة من الحجر يربط إليها الآس، فتناول علبة وغرسها في الطين الهش! أنت، إذن! قال: ضبطني! كنت راكعا.. لم أجد الوقت لأضع فيها الزهور! مسحت عينيها وهي تستدير عنه: اسكت، اسكت..







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 12:34 AM   رقم المشاركة : 13
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

أوسع السجون
قال: لو تزوجنا، أكان كل منا هكذا؟ أنا وحيد وأنت وحيدة؟ وحيد، وكل اولئك الناس حوله؟ أعرف أن نساء متنوعات لحقنه. وهل يرد امرأة تقصده؟! الشهامة! وأنا هل كنت وحيدة، والأيام أقصر مما أريد؟ آه، تعلم التنجيم إذن فعرف أن الانسان قد يكون وحيدا وسط المجموعة!
نظرت إليه كما كانت تنظر إليه تماما. بملء عينيها! لم تر شعره الأبيض. بل رأته كما كان يوم عرفته. ابتسمت. مازال يتحدث في حماسة، مازال يظهر الوله ويطلق الهوى! كان هكذا يومذاك. لذلك لم يستطع أن يمشي على سكة القطار في عين الخضراء، ومشت هي عليها تحت ظلال الجوز! كانت النزهة مرتبة كي يكونا معا طوال النهار. وكان الربيع في أوله. وربيع دمشق يومذاك واضح الحدود. من جهة شمس دافئة وزهر وبراعم، ومن جهة برودة منعشة منذ تميل الشمس. والنسيم يحمل من الصباح إلى المساء عبق الزهر ولايملّ. على يسارهما صخور تعشش في كهوفها روح الإنسان القديم. صخور تشد الروح إلى السماء الزرقاء الصافية العميقة. وصخور ينساب عليها النبع. وصخور ملثمة بالأشجار على ضفتي النهر. وكانت الأغصان تمس صفحة الماء المندفع بمثل لهفته. أكانت تحرضه على البوح؟
توقفت على سكة القطار، متوازنة، ونظرت إليه برهة. كان رشيقا، يزيد الحب من جماله. كان فاتنا بصدقه، بشعره الأسود، بنحافته. وكانت كلماته تنساب، تتدافع، تتألم، ترجو وتحلم. فتوهم أن في يدها فقط مفتاح البوابة إلى سعادته. قالت: رضوان؟ توقف دهشا؟ ماذا قلت؟ من رضوان؟ رجل تحبينه؟ ضحكت: لاأعرفه! رفع رأسه إلى رقعة السماء المطلة بين الصخور والأشجار: ياربي! أكان يشكوها الى رقعة السماء العميقة الزرقة؟ أم إلى إله قديم مختبئ في الكهوف؟ سارت على سكة القطار، وتكاثفت فوقها الأشجار. تبعها على الحصى المفروش على السكة، ثم واكبها. التفتت إليه مرة أخرى وتساءلت: هل سيبقى منه شيء حتى المساء إذا ظل يحترق باللهفة والشوق؟ ارتعش الليل في ذلك اليوم من الرطوبة لكنها لم تشعر ببرد الليل.
مشيا. من طرف بينهما وبين النهر مجمعات من أشجار الحور، ومن الطرف الآخر تظهر بوابات بيوت طينية مغمورة بالشجر ويثغو أحيانا خروف وتطل أحيانا فتاة. كانت تسبقه وهي تمشي على السكة. ثم التفتت إليه فواجهته وهو على بعد خطوات. وقفا ينظر كل منهما إلى الآخر. رأت في عينيه بريق دموع. وبدا في ذلك الخندق الأخضر إنسانا نزل من الجبل ووقف أمامها وسيما طلق اللغة، نظيف الملابس، ناصع الأسنان. فكادت تقول له: مشيت مثل ذاك الذي سكن في كهوف هذا الجبل، لكن يومذاك لم تكن هناك حدود. وربما لم تكن كلمة "التسلل" موجودة في اللغة!
هل سألها هناك أيضا، وهي تمشي على السكة وهو يواكبها على الحصى: تتزوجيني؟ وهل قالت له يومذاك: ليتنا نتبع طريق السكة إلى بيروت، كأنها تدعوه الى مدينة خارج الخرائط؟ يصعب عليها أن تربط الأمكنة إلا بالسعادة الواسعة التي كانت تنشرها صحبته. "كنت تلبسين يومذاك تنورة واسعة زرقاء، وقميصا أبيض! وكان شعرك يرف مع حركتك!" قالت: "كان ذلك هو طراز الفتيات في تلك الأيام!"
كانت الحياة سهلة يومذاك، لباس الناس بسيط، وفي البلد مقاه تكتنفها الأشجار والأزهار. كانت البيوت تناسب طول الإنسان. كانت الأنهار تعيش والأشجار تعانق المدينة. كانت الأحلام هي الكبيرة لاالبنايات. وكانت أحلامها هي تمتد، لاتحبسها حدود. كانت ايمانا بأن الغد كبستان من زهر المشمش. من يستعجل الزواج يومذاك! تحمي نفسها مم، ممن؟ ولم يكن في مشروعها، وقت يحين الزواج، أن تهاجر من البلاد. قالت: "هل تترك هذه الصخور مكانها؟" لم تكن ذاقت الوحدة، وضعف الإنسان وقت يلين فيقبل ماظن أنه لن يقبله، ويدفع بعد ذلك الثمن.
ماذا جمعهما فيما بعد، وكل منهما بعيد عن الآخر؟ أن الرجل الذي تركاه جالسا على كرسي من القش قرب النهر ليمشيا على السكة، مات مقتولا في سجن؟ أنهما التقيا في التفكير به، وكل منهما في طرف من الأرض؟
كان يخرج من غرفته كلما سمع خطواتها وهي تعبر الممر إلى أرض الدار التي تظللها شجرة مشمش هندي. لا، ليس "كلما"! كان يتلكأ عندما يغضب منها! وكان أحيانا يفتح نافذته ليعكس الزجاج صورتها فيراها من غرفته! عرفت ذلك يوم رأت بنت الجيران تراقبه بزجاج النافذة!
كانت تصادف أحيانا بعض الفتيات في أرض الدار، وتفهم أنهن بنات الجيران أتين ليستعرن، في الظاهر، شيئا من صاحبة البيت. وفي الحقيقة كي يجلسن قليلا ويتحدثن معه. لكن ذلك لايعنيها! لماذا يعنيها؟ مابينهما أعمق من أن يخترقه حب آخر. هل كانا يختلفان هنا؟ هل كان يريد أن يكون مابينهما حبا عاديا فيه غيرة وانتظار وغضب، وينتهي بزواج؟
للزمن قرار آخر! وصلتها منه رسالة، مرة. وجد شبيهتها! نسخة أخرى في الشكل واللون والحركة! أحبته تلك الغريبة، وقبل حبها زمنا. كتب في رسالته: "تركتها هائمة تمشي على الأرض!" فغضبت: لايحتاج الرجال نذلا آخر! تركها هائمة؟ غضبت عليه! لم تشعر بالغيرة، بل بالحزن على الفتاة!
يوم التقيا صدفة في مطار من المطارات، كان يودع رجلا، وكانت هي تعبر المطار إلى بلد آخر. نهض ملهوفا عندما رآها. وبرقت الدموع في عينيه. أهناك قال لها إنه ترك شبيهتها وهناك قالت له إنها لامته لأنه جرح فتاة تحبه؟ كانا يكتبان قصة بالعمر، بالأمكنة، كأنهما يصفّانها قطعة، قطعة. لم يتبيناها كاملة إلا هنا في مملكة الصمت. جلسا على حجر، وتناول يدها. قلّبها بين كفيه وقبلها. ركع أمامها. لم تكن أية قطعة منها أقل قداسة من الأخرى. فلماذا تشد قبضتيها وتبعد قدميها! كان هناك إنسانا تجاوز مايستوقف الرجال أو يقيدهم. كان لايخجل بأن يبوح بحبه كله، ويكشف ليالي شوقه وحزنه. كانت هي أغنيته التي ينشدها أمام الغرباء. فهل أراد أن يحيي قيس ليلى؟ منذ تلك الأزمنة خجل الناس بالحب وأخفوه، وأهانوه كي يظهروا أنهم أكبر منه! فهل تحمل حبك على كتفك من بلد إلى بلد، كي يعيش قيس العرب في العصر؟
في مملكة الصمت عرفت أنصاف الحقائق الأخرى، أنصاف الصور الأخرى، ووضعت الجزء إلى جانب الجزء. لم تفرقهما إذن جروح الحرية، والحدود، والرياح التي عصفت بالبلاد! فرقتهما أيضا الخلافات بين أهل البيت! فهل كان ينشد حلما مبهجا، ويرسم صورة ملونة على أفق قاتم؟ ويبعث أمامها قيس وليلى في الزمن المعاصر؟ ويعلن أن أراغون وإلسا موجودان هنا أيضا؟ كان يعرض البطاقات البريدية إذا وصلته منها وقت يعرف أحدهما عنوان الآخر. ويعرض الرسائل التي تكتبها إليه وتبرأ بها من ثلج الغربة وسمائها المنخفضة. في ذلك المقطع من الحياة كانت تعرف عنوانه. لكنها وقت نزلت من القطار في المدينة التي يوجد فيها تفادته. كانت وحيدة، ومريضة. نزلت في الفندق الذي كان يسهر فيه. اختارت طاولة في قاعة صغيرة لاترى من قاعة الطعام الكبيرة. لبست ثوبا في مثل لون قلب الموجة، وشعرت بأنه يجلس هناك صامتا معها. تناولت القليل من الطعام، شربت القليل من عصير البرتقال، ثم صعدت إلى غرفتها. وفي الصباح مشت أنيقة إلى السفارة المقصودة فجددت جواز سفرها. صمدت للأسئلة، فبدت مغتربة غنية، ليست من المشبوهين في زمن القلاقل، الذين لاتمدد لهم الجوازات. وعادت إلى الفندق. عبرت الردهة التي يعبرها، وجلست في القاعة الصغيرة وقلبها يرتعش. هل كانت تخاف من السعادة إذا رأته؟ هل كانت تتفادى ليالي الأرق التي ستتبعها؟ يوم صادفته في مدينة أخرى انزلق لسانها فعرف أنه كان قربها في الفندق نفسه. آه، ماذا فعلت! من ذلك الفندق، وهي جالسة في القاعة الصغيرة اتصل بها في تلك الليلة، إلى البلد الآخر ليطلب أن تزوره! ثم عاد فجلس خائبا في قاعة المطعم الكبيرة! "كنت في الفندق نفسه وأنا أصغي إلى دقات هاتفك؟!" تركها برهة وابتعد إلى المغاسل ليخفي انفعاله. ثم عاد إليها وأثر الألم في وجهه، والبريق في عينيه. عاتبها. تريدين أن تحمليني كما تحمل صورة في الجيب وكما يحمل تمثال صغير في الحقيبة! ترحلين بي في اتجاهاتك، لكنك لاتتوقفين لتكوني مع الأصل الحي! ماذا تقول له؟ كانت الحياة تندفع في اتجاه آخر. "يعلم الله متى تعودين إلى بلدك!" ترد على نفسها: "ذات يوم سأعود إلى بلدي! لكنه لن يعود!" سألها لماذا؟ لماذا؟ فلم ترد عليه! كانت على كل حال مريضة، لم تزر حتى النهر الذي تحبه، لم تصعد الطريق ذا الفوانيس، لم تقصد المقهى الصغير ذي المقاعد الخشب! لم تسع إلى شيئ تحبه يومذاك! تذكرت أنه قال لها مرة وهو يتبع خطوطها مبهورا: ألم تتأملي نفسك في المرآة؟ لكنها، لم تترك صورتها في المرآة! وكان هو وقتذاك جالسا في مطعم الفندق، كالمنفيين، يدخن ويتحدث ويخرج من جيبه صورتها ويعرضها لأصدقائه القدماء. آه، لايعرف أن حبه دون أرض يعشش فيها! لم ترسم مجموعة من الرجال الغرباء الحدود قبل مولدهما كي تقسم البلاد، بل كي تمنعها من العبور إلى مدينته وتمنعه من العبور إلى مدينتها!
أخرج الصورة من جيبه يوم التقيا. ورأت نفسها شابة مضيئة العينين، ترفع رأسها، كما طلب المصور، لينهمر الضوء على وجهها، وليتألق شعرها. كانت أفراح الحياة هناك، في حركة الرأس وفي العينين. كانت في تلك الصورة كشحرور لاعمر له، لانهاية له. سألت نفسها وهي تنظر إلى الصورة: أنا؟ قال: أخذتها منك، وأوصلتك بالتكسي إلى البيت الذي ستلتقين فيه بأصدقائك لتسافروا منه في الفجر! كنت تلبسين ثوبا أخضر.. وكانت رائحة الصابون تفوح منك، وبشرتك مازالت دافئة من الماء. آه كيف تتذكر التفاصيل؟ عذابه أنه يحفظ التفاصيل! تحيط به الصور، يسمع الكلمات والأصوات، يحس بالمشاعر التي مضت! قال: أي شقاء! تساءلت: شقاء أن تبقى الأيام شابة، والأصوات نضرة؟! كان يقصد أمرا آخر! لكنه لم يحك لها عنه يومذاك. لم يقل لها إن الانتقام في العصور كلها يختار بقعة القلب النضرة! "اختلفت معه، وفي الاجتماع التالي كنت مقابله، وفي الثالث كنا نتحدث بلغتين. بعد ذلك أعلن لي: لن تتزوجها أبدا، طالما كنت حيا! لن تصل أبدا إلى مدينة تكون هي فيها!" كانت جميع مفاتيح تلك المدن في يديه! روى لها ذلك في مملكة الصمت! كانت إذن تنفذ أمرا لاتعرفه يوم مرت بإحدى مدنه وتفادت أن تراه! لم يمت إذن أهل قيس وليلى أبدا! وصلوا أحياء إلى أبعد الأجيال عنهم، إلى أبعد الرجال عنهم! الحرمان من الحب عقاب في المنافسات السياسية على مدى الدهر!
ألذلك أنشد في تلك الأيام: "ياويل درب لايضيعني"، فغضبت عليه؟ ألذلك كان يبدو كأنه يريد أن ينتحر؟ نظرت إليه. كان يرفع رأسه كي يبتلع الدموع. وفهمت أنه شهد مقتل المثل قبل الاحتفال بمقتلها. عبر، هو ومنافسه، السجن. فأين بدأت العداوة بينهما؟ كان قبلها يؤمن بالأساطير التي تنسج عنه، وكان ينشرها. لكنه خلال الاجتماعات به تبين بعد الأسطورة عن الحقيقة! خطؤه، أو مجده، أنه أعلن ذلك مبكرا، فافتتح معركة يصعب أن يجد لنفسه فيها مؤيدين. وكان الحب جرحه المفتوح. ضعفه المعلن. بعد ألف سنة أوقف على منصة قيس نفسها ونفذ فيه الحكم!
في مملكة الصمت عرفت الصفحات الضائعة! كانت تتلقى نظرات مريبة. فتتساءل لماذا؟ قال لها أصدقاء، كأنما من الغيرة عليها: يجب أن تتزوجي! صمتت من التهذيب. فهل يتفق مشروع تحرر الإنسان، مع إلغاء الحب من الزواج؟ حضرت في تلك الأيام عرضا واسعا: مر أمامها رجال طوال وقصار، سمر وشقر، سمان ونحاف. ذهلت: "كم كان أبي إذن راقيا! لم يلزمني بمثل ذلك العرض!" كادت تعترف له وقت التقيا لقاء سريعا: وقت سمعت صوتك في التلفون تقول لي مرة أخرى: تتزوجيني؟ كبحت لساني في البرهة الأخيرة! لكنها صمتت. يجب أن يبقى مابينهما أعلى من الطوارئ. وماذا تقول له، ألا يعرف أن الخلاف مع مجموعة في الغربة مفزع، يحوك حول الخارج عليها الوحدة والشبهة؟ تصبح المدينة الكبيرة المليئة بالمتاحف والمسارح والكتب صغيرة كالسجن! نظر إليها زمنا. هل خمن مافكرت فيه؟ هو، كاد ينقل بالطائرة ويسلم لسجن بلده! "أصحابك حموني!" تبتسم. كيف يقال الفرد غير مهم؟ الفرد يحمي، والفرد يجعلك تتجاوز همك، والفرد قد يحاصرك! كانت محظوظة بالنوعين! حولها من يجرح ومن يداوي الجرح! ترى هل شكت له بينها وبين نفسها خيبتها وهي في غرفتها باكية كالأطفال في الليل؟ هل قويت بالوهم وهي تقول لنفسها: سيشق الأرض ويصل إلي إذا ناديته، سيرسل جنيا يطير بي إليه؟ هل كان الأمان، هو غير الآمن! تنظر إليه، فتقابل حبه فترخي عينيها. كم التقت به إذن في أرض مختلفة اللون عن الساحة التي نصب تمثالها فيها!
تتذكر كم كانت ثمينة وهي بين يديه. كأنها تحفة قد تنكسر! كأنها إبداع استثنائي يحتاج المتعبدين! يقول لها: ألاتنظرين إلى نفسك في المرآة؟ تنظر إليه وتكاد تضحك من الصورة التي يراها. ثم تنسى ذلك وتندفع مبتعدة. فيتساءل: هل ستنتهي مما يشغلها ذات يوم؟ ومع ذلك يتابعها مبهورا وهي تخترع مشاريع ترسمها، يظنها خيالا حتى تنفذها. ثم يقول: والمشروع الموجود أمامك تجعلينه حلما بعيدا! تهربين كالسنجاب! فتهمس لنفسها: آه، حبه الثابت دون مدينة ثابتة تؤويه!
يومذاك لم يقبل أن يلف له البائع الهدية التي اختارها لها. مشى في الطريق يحمل سنجابا مزهوا بذيله! وضعه على طاولتها. فتذكرت أنها لم تر في دمشق إلا سنجابا واحدا كان معروضا في واجهة مخزن على كتف الصالحية، يعرض اسطوانات ولوحات وتحفا صغيرة. والسنجاب ينظر من وراء الزجاج إلى المارين متأهبا للهرب. تعبره عندما تتناول من بائع زهر إلى جانبه حزمة مرغريت بربع ليرة. قال وهو يشير إلى السنجاب: أنت! سألته: بلونه؟ رد: بخفته في الهرب! قالت: رأيت مثل هذا السنجاب، بلونه نفسه. لكنه كان قطة! القطة المدللة، بنت البيت العربي! وفتشت ذاكرتها: هل صادفت السنجاب؟ لم أصادفه! فعلى أية شجرة رآه؟ آه، ظننتك قادما من الصحراء!
يوم رأت السنجاب في غابة على طرف بحيرة دارت حول الشجرة وتابعته. وقصدت تلك الغابة لتقتفي أثر السناجب. في المساء الذي صادفت فيه السنجاب خابرها. دهشت! كيف عرف مقرها؟! لكنها لم تبح له بأنها التقت بسنجابه في ذلك اليوم في الغابة. بعد ربع قرن وصلت منه رسالة يذكر فيها السنجاب؟ قال: "وماتزال الصنوبرة تحن للسنجاب"! فرفعت عينيها، كما رفعهما مرة في إحدى المطارات!
لا، لم تصادف قبل ذلك السنجاب إلا في الكتب! صادفت البلابل والشحارير! يوم مشيا في الغوطة كانت تلك أيام الزهر. والغوطة غابات متصلة تحتفل بزهر المشمش. كان حاجز البستان من الدكّ في مكان، ومن البيلسان في مكان. وكان شجر الجوز ينتصب عاريا معتدا بقامته. مشيا في درب، مواكبين الساقية. وعبرا معها البساتين. تركته مرات ووقفت على الحجر الذي يوزع الماء حصصا بين البساتين. وقتذاك غرد شحرور، فكادت توقف تنفسها كيلا يسمعه ويهرب. غرد الشحرور نشيدا ثم صمت برهة ثم غرد. هل قدر فترة صمت الشحرور ولذلك صفر مغردا مثله؟ كبحت ضحكتها. استمع إليه الشحرور، وعاد إلى نشيده. لم يبال به! لكنهما معا ألّفا أغنية مستمرة للأشجار، للبساتين، لزهر المشمش. نظر إليها: لك! التفتت نحوه: أنت أم الشحرور؟ لا، لم تفه يومذاك بكلمة! استمرت في المشي وابتعد تغريد الشحرور. كانت سوق الحور رشيقة، ترسم في البعد مايشبه ضباب الصباح. وخلفها في عمق البستان كان أصحابها حول دخان يتجمع يتعرج ويصعد حرا في هدوء. وعبق الحطب يفوح حتى الدرب الذي تمشي فيه. آه! تسلقت مرة مثل تلك الشجرة، وجلست على فرعها لتلتقط لها زميلاتها صورة. كانت يومذاك في رحلة مدرسية. لاشك أن في كثير من مجموعات الصور تلميذات استندن إلى شجرة لتلتقط لهن هناك صورة! وحول تلك النار، أيضا، التقطت صور، يخترقها الدخان! ذلك الشعير الأخضر كان يصل إلى خصرها في صورة أخرى قديمة! كانت صغيرة يخيل إليها وهي تعبره أنها تخترق غابة. أمام مجموعات الزهر الأصفر على طرف البستان المهملة التقطت صور كانت فيها تركب حمارا صغيرا زينت جبهته بالخرز الأزرق، وكان رأسها مزينا بشقائق النعمان.
هي من هناك! كالجوز والحور. وهو؟ لماذا يتسرب إلى تلك الدروب، ويبحث عن تلك الأمكنة؟ أهو قادم من الصحراء؟ سائح؟ أم صاحب هوى؟ أم يقتفي أثرها هناك، كما تقتفي أثر السناجب في الغابات؟! لمس خطواتها. فهل يعرف أنه ترك إلى جانبها خطواته! لم تكن كتلك الورقة التي التقطها وخبأها في جيبه! كانت شفافة، وقد رأتها بعد ربع قرن هناك. مشت على حافة الساقية، بحثت عن الحجارة التي توزع حصص الماء على البساتين. وصادفت الجوز المعتد بجسمه الفارع، والحور الفضي، والدخان الذي يتعرج في هدوء. سمعت شحرورا يغرد، وملأت هي فترات صمته بالصفير. كانت الساقية فارغة من الماء، كان الجوز مريضا، اقتلعت أكثر البساتين، كان يصعب أن تجد دربا تمشي وحدها فيه. لكن لابأس! تناولت حبات العمر من الأرض، فحصتها في كفها، ثم نثرتها في الأرض المفلوحة. كم كانت تلك السنوات جميلة! كم كانت تلك البلاد جميلة! وكم كنا شبابا يومذاك!
لماذا إذن حكم علينا بأن نعبر الثلج والمطر والريح، منفيين لارحالة إلى الحضارات الغريبة؟ لماذا.. في ذلك العمر؟! نظرت إلى رسالته على طاولتها. وكان الثلج يملأ النافذة. وهي تتساءل كيف عرف عنوانها. سألتها رفيقتها التي قرأت أول سطر في الرسالة: سنجابي؟ من يسميك سنجابا؟! ردت: هس! الرسالة ليست لي! اكتشفت فائدة التسمية التي تموّه الاسم! موّهته؟ نظرت إليها رفيقتها: صرت تفتحين رسائل أصدقائك السناجب؟ أم تستعيرينها مصادر للبحث الجامعي؟! نظرت إلى رفيقتها. "آه لاتعرفين كيف يكون الإنسان مهملا وحيدا وهو محبوب، فقيرا معدما وهو غني!" تأملتها رفيقتها دهشة: صرت ماهرة في الهمهمة؟! أجابت: ماهرة في خنق الشوق!
لمس في جيبه الورقة. كان فمها مرسوما عليها. كانا يطلان على البحر. عشية فراق جديد يركب فيه كل منهما طائرة في اتجاه. بجواز سفر ملفق أو دون جواز سفر. هاهي بيروت التي كانت في نهاية السكة، بيروت التي بدت في عين الخضراء مدينة خارج الخرائط! تتكئ على بحر أزرق وهما يطلان معها على الروشة والبحر! في برهة كان يمكن أن يساقا وتقفل عليهما جدران السجن. وتمر شهور لايعرفان فيها اليوم من الآخر والليل من النهار. ويعلن أن شخصين خطرين سقطا في الفخ، وتعلق أوسمة على الصياد. كان البحر مدهشا بزرقته في ذلك اليوم. كان نيليا في مكان، فيروزيا في مكان، وكانت هي تشهق كلما هرعت إلى الشاطئ موجة فستقية مكللة بالزبد الأبيض. بعد الطعام مسحت شفتيها بورقة ووضعتها في الصحن. تناول تلك الورقة وهي مشغولة بلون قلب الموجة! وبحث فيما بعد طويلا بين الأقمشة عن ذلك اللون.
بعد عشرين سنة أم أكثر، قال لها إنه التقط تلك الورقة وخبأها في جيبه؟ أم تراه التقط ورقة مثلها، في لقاء آخر؟ تغديا في بيت أصحابهما في الجبل. وكانت فيروز تغني. لم يحمل معه إلا أغنياتها! كان رحالة يسافر في الليل، كلما هبت عاصفة على بلد يقيم فيه تمزقت خيمته! يستدعونه ويطلبون أن يجيب على "بعض" الأسئلة. وكأنهم يكتشفونه يومذاك فقط! فيفهم أنه يجب أن يرحل. تصل إليه رسائل تحذره. ويتساءل وهو يعبر الحدود خلسة في الليل، ماشيا خلف الدليل: هل كانت هذه البلاد كلها حقا بلدا واحدا؟! وهل يعيش البدو فقط في الخيام؟! في تلك المرة، في ذلك البلد، سألوه عنها. فارتعش. ينشد حبها أمام أصحابه، لكن هذا المكان ليس لذلك النشيد! قلّب الرجل الجالس خلف الطاولة كتابا بين يديه: هذا خطها، وهذا الكتاب مهدى إليك منها! كيف فكوا توقيعها، كيف عرفوا خطها؟ ارتعش من الخوف عليها.
يوم التقيا بعد أشهر كاد يلمسها متفقدا. نجت! اخترقا الكابوس إذن! لكن الدماء تسيل على أرض الشوارع. أضيف حنين جديد إلى بلد آخر غير فلسطين! حنينها! وهو المهاجر مرة ثالثة، في أية اتجاهات يوزع حنينه؟ سننتظر حتى يصحو العرب كي يعود كل منا إلى مدينته! حتى ذلك اليوم، سأسأل عن الأيدي التي تتلف في السجون. سأسأل عن الليالي التي يبددها الأرق، عن الدم المسفوح والدمع! نظرت إليه. نجونا نحن من امتحان الكرامة! لكن أصحابنا هناك! فلاتحدثني عن الحب! هل تذكرهم؟ كنا معا في أول الربيع، وفي أول الربيع نتساءل في الصباح، هل نلبس الجاكيت أم نتركه. في الباص لم أنظر إلى الطريق. كنت من المشغولين بالأحاديث والألعاب. فلم أر المطر المنهمر إلا وقت وصلنا إلى الجبل. حمل كل منا زوادته وبحث مع مجموعته عن ثنية في الجبل تؤويه من المطر. فجأة رأيتك تتسلل إلينا. هل اتفقت مع ذلك الذي اشتريت معه خمرا من الدير، خبأتماه بجريدة؟ زوّرت قصيدة قيس، ودفعتني إلى مكان ليلى! لكن قيسا لم يكن يعرف شعر ليلى الطويل، ولم يعتب لأنها قصته! بعد المطر وجدنا أول زنبق في الربيع. غنينا، ودبكنا. ضحكنا. تدفق الفرح. أعرف أنك كنت تنظر إلي وأنا أنظر إلى الجبل! بحثت معنا عن الزنبق، وقلت: لايحتاج إلى بحث! أصحابنا في تلك الرحلة بقوا هناك! فلاتحدثني عن الحب!
كنت خبيرا بالغربة والتهجير. أنا كنت أجربهما أول مرة في أول العمر. في تلك الغرفة على الجبل، بين أصحاب جدد، رأيت شابة تنظر إليك في وله. وكنت أحبها. أمسكت بيدها ومشيت معها خارج البيت، بين الصخور. جمعنا الزعتر البري. وتأملتها وهي تغسله في عناية وتضعه على الطاولة التي ستتناول عليها طعامك. تعرف أنك تحبه! رويت لي في إحدى المدن، فيما بعد، أنها تسللت إلى غرفتك في الليل. كانت صبية نضرة وجميلة، أحبتك. لم أبح لك بأنها كتبت لي: "غدا أتزوج! أحببته، وأحببتك! أتركه لك!" كانت رسالتها مبقعة بالدمع. لكنها دموع شباب لاتهدده أحزان لايستطيع دفعها. شباب يستطيع أن يمشي في الطرقات التي مشى فيها أمس، ولايتلفت حذرا. وإذا اغترب يستطيع أن يرسل الرسائل إلى أهله وأصحابه مزهوا بالمدن التي يزورها. تتركك لي؟ ماأنضرها؟ طويت سرها. لم أبح به!
بعد الزعتر البري وصل مساء واهن ساحر. تركنا ذلك البيت على الجبل والصبية وفيروز فيه. كان الشارع مغريا. لايعرف الرغبة في المشي إلا من يحرم منه! بدأت العتمة تطوي ألوان المساء وترتبها في صندوق الليل. بعد خطوات تبينت أن المشي معك مستحيل! وجهك نحوي طول الطريق! في بلاد أخرى تبعد الشبهة عن الفارين أن يمشوا متعانقين. لكن الحب في هذا البلد يجذب الشك! استدرت وقلت لك يعود كل منا الى مأواه! قال: تهربين؟ وبدا الحزن فيه. ففتشت يده الأولى ثم يده الثانية. وقالت: لايوجد مصباح! هدأ ولان! تذكره بليلة هربها منه! انزلقت من المجموعة وعادت الى البيت. في تلك الأيام كانت تنام ملء عينيها. لماذا ارتعشت؟ غمر ضوء ساطع وجهها! ثم تبينته واقفا خلف النافذة يوجه ضوء الكشاف عليها! حدقت فيه فيما بعد متسائلة: كيف يستطيع أن يجمع العقل إلى الجنون؟! كان غضبها كالعاصفة يهب كلما جن. لكنها وهي تواكب البحيرة ماشية، وحيدة، غريبة، اعترفت لنفسها بأنه كان مبهرا بجنونه. ورغم البرد خلعت قفازيها من الدفء.
لم تتساءل مع من هو الآن؟ من التي تهواه اليوم؟ كانت في مساحة لايمكن أن يوجد فيها سواهما. وعندما كان العالم يبدو لها مقفرا وباردا وتبدو صغيرة ضائعة فيه، كانت تردد: هو في مكان ما! ولابد أن يظهر في البرهة الضرورية!
كانت إسرائيل موجودة في جميع تلك الأزمنة بينهما. كانت تبني مدنا، وتعلّم صغارها أن العرب همجيون وخطرون ومتخلفون، أرضهم لها وقتلهم حلال. وكان العرب يظنون أنهم أباطرة البلاد، وأن المصير لايجسر على تكرار سنة 1948. كان يشغل الزعماء السياسيين الشعب المشاغب، الأحزاب المنافسة، قدرة مخافر الحدود على مراقبة المسافرين، شطب الأسماء من قوائم طالبي العمل أو الموظفين، تنظيف الجيش والتعليم من العناصر الخطرة. وإياك أن تهمس هذا خطأ أو هذا صواب! في إحدى تلك السنوات حدث احتلال إسرائيلي جديد، فسمح العرب للمنفيين بالعودة إلى المدن التي لم تحتل بعد.
عاد. هاهو دون الأسرة التي اختارها ودون الأسرة التي ورثها! نفذ إذن ماكتبه لها في رسالة منذ عشر سنوات: "لن أموت قبل أن أرى الأعزاء علي!" لم يقبل جنسية غريبة! هكذا نحن، تسلبنا بلادنا الجنسية الموروثة، ونرفض الجنسية المهداة! فنعيش دون أوراق ثبوتية في عالم يرتبنا بلون المنشأ، ولون الاتجاه!
صحا الزعماء العرب بعد الهزائم؟ مرحبا! فقدوا من مزقوه، جميع المنفيين، والمبعدين، والمسجونين! فليحاربوا بالمدللين المنافقين! تطلب إسرائيل أن يسجدوا لها كما طلبوا منا أن نسجد لهم! كسبت الوقت الذي انشغلوا فيه عنها بنا! وكسبت ضعفنا وموتنا! مع ذلك لم يصحوا! ولن!
يوم عبرت البوابة إلى مملكة الصمت كانت الطرقات ماتزال مقطوعة بين مدينته ومدينتها. فجرّته إلى مطل على الشوارع التي كان يمكن أن يمشيا فيها، وقالت: لاتحزن! لن نستطيع أن نمشي هناك ولو سمح لنا بذلك! فالمدن التي عرفناها لم تعد موجودة! فقدنا مدينة المشاة! لن يهف الياسمين وزهر النارنج! لن تشعر بأنك ملك الأرصفة! لن ترى أسراب العصافير الدورية! لايوجد غراب يسرق الجبن، ولاأحد اليوم يعرف "الشوحة"! وفوق نافذتك لن تعشش الستيتية! لكننا في مملكة الصمت. هنا، نستطيع أن نمشي كما نشاء! تعال!
مشى معها تحت السرو، وعبرا أشخاصا بملابس بيضاء ناصعة. ثم توقف. لاتوجد أمكنة في مملكة الصمت تجمعهما! لانهر يجلسان على ضفته، ولاسكة قطار تمشي أمامه عليها وهو يتبعها! ولاصخور يخيل إليها أنه نزل من كهوفها! آه، كانت الحياة التي تفرقهما هي التي تجمعهما! خسراها ولن يكسبا هذه! من يستطيع أن يكسب الموت! أغمض عينيه. لو تعود تلك الأيام .. لو تعود المدن المفقودة! لو!
هل فقدناها؟ لا! بل فقدها من بعدنا! مساكين! في ذلك المساء عاد حاملا زجاجة عطر. صبها على يديها. فالتفتت عنه كيلا يرى بريق عينيها. أخرج صورتها القديمة من جيبه، وبكى! على أي شهيد أو قتيل تبكي؟ على المدن، على السنوات أم على نضارة الشباب المسفوك في الغربة! نظرت إليه: تركت هناك السلسلة الذهبية التي علقت لي فيها حجرا صافيا شفافا كالدمعة! خرجت من البيت مسرعة! لم أتناولها! لو بقيت برهة أخرى لما نجوت! أحاطت بيتي عشرات السيارات العسكرية! تبتسم؟ لماذا؟ خطرة على أمن الدولة! تسخر؟ لكن ذلك حدث حقا! يتكرر ذلك مرة في هذا البلد العربي ومرة في ذاك! من الحدود تجر فتيات إلى هذا الجانب أو إلى ذاك. إذا أردن الخروج منعن منه، وإذا أردن الدخول منعن! في هذه البرهة لست كذلك، لكني كنت، وقد أكون! أمر، لكن شخصا يحدق في أوراقي مرتابا: تمر؟! كيف تمر؟! لذلك تأملت في تأن جنة حواء، وخيل إلي أن مخافر الحدود بدأت من هناك!
أنت، قل لي، كيف نجوت بقلبك ولهفتك من تلك الأعاصير؟ في العالم الذي شيع فيه الحب وكفّن، ودفن، كيف استطعت أن تحمي الحب؟ أكان ذلك حب امرأة، أم حب زمن مزين بريش الطاووس والأجراس والخرز الأزرق! تكاد تسأله عن ذلك لكنها تصمت! لذلك جلست على الأرض. هزت الودع في كفها ورمته وبدأت تقرأه وتفحصه. منذ متى ياسنجابي تقرئين الودع؟ هل تقرئين الكف أيضا؟ راقبها مسحورا. وقال لنفسه: كانت تمارس السحر إذن، لذلك جرتني وراءها ثلث قرن! قالت له: وقت كان الزمن الخاطف يبدو طويلا في الغربة، كانت رفيقاتي يشربن القهوة لينقبن في خطوط الفنجان باحثات عن القدر. فكنت أفتح الباب وأخرج فتبدو الدنيا واسعة حتى في الثلج والسماء عالية حتى في الشتاء. لكن تعال الآن لنتبع الصدف إلى البحر! ابتسم: فلنتبعه! وسارا على طرقات من ماء وهواء في مملكة الصمت.
ورأته طفلا يرفع يديه كأنهما تستطيعان حماية رأسه من القصف. قيل: الأمان في الملجأ فقط. فأين الملجأ! والبلاد غفت في وهمها، والملوك يقتفون أثر المشاغبين! مرت الطائرات فوق رأسه، وهرب منها. اندفع مع الناس. ظن مثلهم أن العراء هو المكان الآمن. لكن الأمان كان هربا فقط في اتجاه تقودهم إليه الطائرات!
"عندي كان غير ذلك! ظنت أمي أن أطباق النحاس تحمي من القنابل والرصاص، فوضعتها بيني وبين الجدار. قدرت أن الطائرات والمدافع من جهة ذلك الجدار! لكن القنبلة سقطت من أعلى فوق بيت الجيران!"
في أول نشيد كتبه أطلق الغضب المغلول خلال البحث عن ملجأ من الطائرات، والطفل يهرب من أرضه ومدينته ومن كل ماأحبه. كتب ذلك النشيد لنفسه وهو يجرب اللغة التي تعلمها في المدرسة. لم يكن في المدرسة غير تلك القصيدة، فدفعوه ليقرأها عندما زار زعيم البلد المدرسة في عيد من الأعياد الوطنية. فاستمتع بيده الناعمة السمينة، المرصعة بخاتم، يد امتدت الى ذقنه ورفعت وجهه: شاطر! موهوب! سيكون شاعرا عظيما، فاعتنوا به!
كانت يومذاك بين صفوف تلاميذ المدرسة الذين وضعوا في استقبال ملك بلدها! أوقفت في الصف الأول لأنها بيضاء، على رأسها شريطة بيضاء، وفي قدميها جوربان أبيضان قصيران. مر الملك بين صفوف التلاميذ. يومذاك أيضا كان يقدم أصحاب الملابس المرتبة المكوية والوجوه الجميلة، أو الأولاد المحظوظون بأهل مهمين. توقف ملك البلد قربها ونظر إليها نظرة طويلة فالتفتت إليه المعلمة: سنعنى بها، ياملك الزمان!
هكذا رصدت لكل منهما عناية خاصة. بدأت بأوراق مزخرفة اسمها مرحى، وبسجل الشرف المذهب المعلق على الحائط، وانتهت بسجلات في المرافئ والحدود!
في أيام المرحى وسجل الشرف المذهّب كان زمن تلك المدن دون نهاية. شمس وماء! لاجوع ولابذخ. في الشوارع سيارات قليلة، أكثرها باصات. في الشوارع مشاة، والمقاهي رخيصة، ظليلة، والبساتين على بعد خطوات: في نهاية الطريق، على كتف المدرسة، خلف البيت، في سفح الجبل، حول بيت الأصحاب. والسواقي تقطع الطرقات، وحيث يتجمع الماء بط ووز، وفي السماء شحارير وأسراب من الدوري والغربان.
هل قطعت كل ذلك دبابة وقفت على زاوية الطريق ذات فجر؟ "كنت ذاهبة إلى المدرسة. ففاجأتني دبابة. في التقاطع رأيت دبابة أخرى. المدرسة مغلقة. والمديرة مضطربة تقول للتلاميذ: عودوا إلى بيوتكم في هدوء! كنت صغيرة. فتفرجت على ذلك في فضول. لي لم يكن ذلك يعني السجون وسجلات الحدود."
قال لها: "كانت الهجرات بحثا عن العشب، أو الدفء. أصبحت بحثا عن الحرية." كم هجرة أو تهجيرا رأى في عمره؟ التهجير من اسكندرون. من فلسطين. من القدس. من الجنوب. من الجولان، من المدن المحتلة. من الأنظمة الظالمة. هربا من السجون. من التعذيب. إلى الخليج ومن الخليج! وإلى بلاد الأرض بحثا عن الملجأ والعمل!
يومذاك لم تنزل الدبابات إلى الشارع. نزل البصّاصون. الشارع خطر، والبيت خطر. لامأوى ولاأمان! مداهمات واعتقالات. موت "تحت التعذيب". نزع الجنسية. والصحف تعد الانتصارات والإنجازات والتقدم والرخاء. شوارع، أبنية، جسور، أنفاق، بوابات عالية، نفاق، تصفيق، شعارات، زينات، احتفالات، طبول، صفوف من الأطفال والتلاميذ والشباب والكهول على حافة الطرقات، في المداخل، على السلالم، في القاعات، لهز الأعلام والورود والهتافات.
"العدو على طول الحدود؟ فليكن! يجب أن أسوي مسألة الداخل أولا!" ممن؟ من المشاغبين! بعد سنوات طويلة، انطلقت العصابات في الطرقات. رددت هي أيضا: "يجب أن نصفي مسألة الداخل أولا!" كيف اتفق النقيضان؟ كيف؟ أوقفوه: أنت مع من؟ لم يتذكروا أن اسمه كان في سجل الشرف..
لماذا تصر على تعريف ذلك الزمان؟ دعه! فليكن زمن الصغائر! فليكن زمن جني ثمار الشوك! يجنيها من لم يزرعها؟ نحن؟ دع الزمن! سأدعه! وأنا أشكره! لأني أخذت ظلامه الواضح، ولم تلحقني فوضاه إلا في الهزيع الأخير! اسكت! لاهزيع أخير بعد!
تمسك بيده وتمشي في مدن الأمس، في شوارع الأمس، تعبر أنهار الأمس، ويجلسان على الضفة تحت الأشجار. شوشك يومذاك صوت الماء! كان هو الملك الثرثار. تركناه حيث يقفز على الجذوع ويلعب بالضفاف، ويتحدث بصوت عال، وقصدنا النبع. ماء صاف شفاف، فوق صخور مرقشة بالسواد، يرتعش دون صوت. وفوقنا صخرة كبيرة جميلة، ونحن فوق ذرى الشجر. وذرى الصخور تمسك بالأفق. عدنا إلى الطفولة التي كنا نرغب فيها التسلق لنرى ماحولنا من مرتفع. من فوق رأينا أصحابنا جالسين حول طاولة من الخشب على كراس من القش. وكان هو بينهم. يوم انطلق البصاصون إلى الشوارع، وهجعوا في الزوايا، فاجأوه وخطفوه. أعرف أنك بكيت عليه! أعرف أنك لم تنامي في تلك الليالي، لأني لم أنم. "في أيامنا يغبطون المحظوظ بالموت في فراشه!" "وهل مات هو على صهوة الخيل؟ قتل مقيدا معذبا في السجن!"
قالت له يوم صادفها في إحدى المدن: صادفت صورة من صوري بين جمع. كانت مصائرهم كلهم محزنة! ماتوا شبابا. بعضهم قتل في السجن، بعضهم اغتيل، بعضهم استشهد، وبعضهم طقّ من الغم! لعلني الوحيدة التي تعيش حتى اليوم!
أكانت تلك الصورة هي التي التقطت لنا في رحلة، في معرض الكتب، في اللقاء العربي، في الاستقبال؟ كنت فيها خلفك! تسللت في نهاية الاحتفال. هربت مني. عرفت أنك تعودين مشيا. فسبقتك. مازال ظهري يحمل أثر تلك الليلة! تكورت على نفسي خلف باب البناء وانتظرتك. سمعت جارك يقول، كأنه شعر بي: من هناك؟ فردت عليه جارتك: قد تكون قطة! كورت نفسي كي تسعني زاوية تسع قطة! منذ تلك الليلة أشعر بألم في ظهري، وأحنو عليه لأنه يذكرني بك!
"ياللمجنون!" علق في إطار خلف مكتبه ورقة كتبتها مرة له! كانت صارمة في توازنها. لذلك كان يرعبها جنونه! يكاد يسألها في أي عمر تعلمت أن تكبحي التعبير عن الحب وتخنقي الشوق؟ ألا تدركين حقا ماذا خسرت؟ تقول لنفسها: لاتعد الخسائر! ولكن هل منها عرض العواطف! يقول لها وهما يمشيان في مملكة الصمت: آه، ياسنجابي! لو تعرفين أن الإنسان يستمتع بحبه وهو يتحدث عنه وينشره على حبال الهواء والضوء وعلى باقات البنفسج! لذلك أنشد قيس هواه! تجيبه: هنا نختلف! يردد: نختلف؟! يضحك. نختلف وقد جرفتنا ريح عاصفة واحدة؟! ترد: ريح عاصفة لم توحد المدن ولم تجمع الناس! ومازلنا نحلم بأيام العثمانيين، أيام لم تكن بيننا حدود!
مشيا تحت السرو حتى المنعطف فوقف وسألها: تتزوجيني؟ ياللمجنون! لايعرف بعد أن ماحرما منه في الحياة لايستعاد! لايستعاد شيء أبدا في مملكة الصمت! رفعت عينيها لتبتلعا الدموع، وعندئذ فهم أنه في سجن واسع، لامخرج منه.. وقرب شجرة السرو سقطت بعض الدموع .







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 12:35 AM   رقم المشاركة : 14
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

الراعي
تعود أهل المدينة المسحورة أن يملأوا الساحات إذا ناداهم راعي مدينتهم. حتى أدعى الغرباء، من الغيرة، أن أهل تلك المدينة خائفون من راعيها! لم يفهم الغرباء كيف يهرع رجال بإرادتهم على نداء، مسرعين ولو كاد أحدهم يدوس الآخر! وقالوا: اولئك مضبوعون، فالعاقل لا يركض ليرى طرف وجه المحبوب! واستمر ذلك زمناً طويلاً.
حتى نزل المنادون مرة إلى الأسواق، كالعادة، يتقدمهم الطبل والمزمار. ونادوا كالعادة: ياأهل المدينة المسحورة! ونشروا لفافة من جلد الغزال وقرأوا المكتوب فيها. فرددت الأسواق الصامتة نداءهم، ولكن لم يخرج إليهم أحد. ولم يلحقهم ولد. رددت الحارات والجدران نداءهم، ولكن لم تفتح نافذة ولم تتحرك ستارة. حتى سمعوا أصوات خطواتهم كأنها الطبول.
فرجعوا إلى راعي المدينة وأعلنوا له: الأسواق مفتوحة، والبيوت والأشجار والمياه موجودة. الرعية فقط متخلفة!
أيصدقهم؟ كيف يمكن أن يختفي سكان مدينة كاملة في ليلة؟ قال: يعرف زمننا تهجير شعوب وقوميات، واستقدام سكان، وتبديل هويات، لكن لذلك إشارات من قصف أو حرائق أو زلازل أو، على الأقل، مؤتمرات! لم أسمع ولم أر مثل تلك العلامات! أكد له حراسه ما قال: نعم لم نسمع حتى تنفس الطفل. فهل يهاجر أو يهرب سكان مدينة دون أن نسمع على الأقل صوت أقدام؟
وأعلن حراس الأبراج والبوابات أنهم لم يلمحوا في الليلة الماضية مسافراً أو هارباً أو مهاجراً. مر فقط قطيع من الذئاب كأنه قطعة واحدة. رأوه واضحاً، لكن ضبابة غطته بعد ذلك فلم يعرفوا اتجاهه، واجتاحتهم عندئذ رغبة مفاجئة بالنوم فناموا. فلا تسلوهم عن مساره. بوابات السور، على كل حال، مغلقة لن يعبرها الطير الطائر فهل يعبرها قطيع من الذئاب!
قال راعي المدينة: آه! لا يشعر حتى حراس السور بالمسؤولية مثلي! أنا الذي تابعت قطيع الذئاب من برجي الذي يعلو جميع الأبراج، ورأيته يحوم حول المدينة! كنت إذن أكتب النداء إلى رعيتي عندما كانت الرعية والحراس نائمين! ونزل باحثاً عن رعيته.
رأى مدينة غريبة . كانت الأبواب كلها تنفتح إذا دفعها. وكانت الأسواق كلها مفتوحة، كأن الناس سيقصدونها بعد برهة . فتذكر أنه كان يتمنى في بعض الأيام، وقت يضيق بثرثرة أهل مدينته، وطلباتهم، ورغباتهم، لو كانت المدينة دون سكانها. ها هي الآن كذلك! فلماذا يشعر بالوحشة؟ لاحظ أنه يمشي وحيداً. اختفى حراسه كما اختفت الرعية! أهربوا خوفاً من الذئاب، أم تسللوا هرباً منه؟ تركوه! ولا مجال الآن لأن يهدد أحداً. لا يستطيع الآن أن يشهر الخوف سلاحاً. لا يستطيع أن يكون ملكاً أو أميراً أو غنياً لأنه في مدينة دون ناس، أكان أولئك الناس راضين أم خائفين، أكانوا سعداء أم أشقياء.
اندفع باحثاً عن شعبه. دفع أول باب صادفه، فرأى بيتأ فقيراً، نظيفاً ساكناً. في المطبخ رأى مقعداً عليه طراحة مغطاة بقماش نظيف، لكن الرفوف فيه فارغة، فخرج مسرعاً. في الباحة رأى شجرة ليمون مثمرة .فقال لنفسه: لدى أصحاب البيت إذن ما يؤكل! ولاحظ على البلاط أثر الماء. كل شيء يشير إلى الأحياء، فأين هم؟ في البيت التالي، رأى وهو يقف على عتبة غرفة، أصحاب البيت جالسين. لكنهم لم يتحركوا وهو يتقدم إليهم. ولم يلتفتوا إليه. اقترب ولمسهم، فلم يرتعشوا. شعر ببرودة الحجر تحت أصابعه. فتراجع ذاهلاً، وخرج من البيت. في الطريق الساكن انتبه إلى قطة. اقترب منها ورفع قدمه كمن يهم بأن يرفسها. لم تتحرك. ضرب بقدمه الأرض أمامها فبقيت ساكنة. فاندفع إلى بيت آخر، وفتح الغرف واحدة إثرأخرى. فوجد في إحداها أسرة مجتمعة كأنها تنتظر أمراً. لم يتحرك أحد منها وهو يقترب منها. في البيت الثالث والرابع والخامس تكرر المشهد نفسه: أشخاص جالسون أو واقفون كأنهم يصغون إلى بلاغ مهم أو ينتظرون إعلاناً عن حدث. لكنهم جامدون، ساكنون، بشر من حجر.
اجتاحه الغضب. صاح: مؤامرة ! يا للماكرين! لم يجرؤوا على الخلاص منه فخلصوه من أنفسهم . لم يتركهم فتركوه. ثم خطر له أن أعداءه أرسلوا إلى مدينته، في السر، ساحراً أو شريراً انتقم منه فحول رعيته إلى تماثيل من حجر. تلفت. لا أنس ولا جن! آه، ليعترف لنفسه بأن أمنيته كانت أن يتحول سكان مدينته إلى تماثيل تسمع ولا تتكلم، تشتغل ولا تطلب، تحضر ولا تناقش أو تفكر. لكن كيف تحقق ذلك؟! ولماذا تحقق ذلك الآن وهو في حاجة إلى رعية يحشدها لترد قطيع الذئاب!
سمع هدير الذئاب! اقتربت اذن! تسلقت الأسوار واندفعت إلى المدينة! لم يغنه حراسه ولم تسعفه أبراجه! صرخ: ياناس، انهضوا! ياناس هجمت الذئاب على مدينتكم! رددت الجبال صراخه. ولكن لم يهرع إليه أحد من سكان مدينته.وتذكر عندئذ أنه أعلن مرات قبل هذا اليوم أن الذئاب تهاجم المدينة. أعلن ذلك يوم انعقد الصراع بينه وبين أولاد عمه على الميراث. ويوم كاد منافسه يحتل قصره. ويوم..ويوم.. فكان الناس يتجمعون تحت برجه، وكل منهم يحمل ماتيسر له، عصاً أو سكيناً أو حجراً. فكان يكسب بهم معاركه ضد منافسيه، والناس يظنون أنه يكسبها ضد الذئاب. كانت المرة الأخيرة التي طلب فيها معونة الناس على الذئاب، يوم شيد مائدة من الأحجار الكريمة، حشد فوقها أنواعاً من الثمار النادرة والأطعمة التي نقلت من بلاد بعيدة، خلال مجاعة اجتاحت مدينته، فتنقل الرسل يروون الأخبار عن ذلك قائلين: أموالكم تهدر وأولادكم يموتون من الجوع! صرخ يومذاك: هجمت الذئاب، فنسي الناس ما قيل لهم، وركضوا لينقذوا المدينة من الذئاب!
وقف في وسط الطريق وصرخ: أقسم أن الذئاب تجتاح المدينة الآن! يا ناس، أقسم لكم..! لم تتحرك على ندائه ستارة، ولم يرتجف باب، لم يظهر ولد أو قطة على سطح. لم يخرج إليه أحد! صرخ: النجدة! النجدة، ياناس! فرددت الحارات والأسواق نداءه. في السكون سمع صوت الذئاب. ومع ذلك ظلت حتى الأشجار ساكنة . كان كل شيء في المدينة جامداً حتى الهواء.
وعندئذ انتبه إلى أنه الحي الوحيد الآن، وأن الذئاب التي أخاف بها رعيته، يمكن أن تمزقه، فاجتاحه الخوف، الخوف نفسه الذي كان سلاحه ودرعه في مدينته! فتلفت باحثاً عن الجهة التي يمكن ألا تهاجمه منها الذئاب. لكن الأصوات وصلت إليه من الجهات كلها، كأنها تقصده. ثم رآها. وفي برهة خاطفة كالبرق فهم أن رعيته اجتمعت إلى ساحر وطلبت نصيحته كي يخلصها منه ومن الذئاب معاً.
كان الحل الذي وجده لها، إذن، أن يحولها إلى صخر بانتظار الزمن المأمول؟ وأن تتركه وحده للذئاب تنهشه؟ ألذلك رأى الناس في وضع من يبحث أمراً أو ينتظر حدثاً عظيماً؟
شعر بغضب هائل، وصرخ: أيتها الذئاب، تعالي! سأدلك إلى جميع المخابىء! وسأبحث لك عن الإكسير الذي خبأه الساحر ليوم الخلاص المنتظر! أيتها الذئاب اتبعيني، أنا الآن راعيك، ودليلك في المدينة المسحورة! سأنبش حتى حجارة الأرض باحثاً عن الأسرار، ولن أسمع بأن يكون الموت الظاهر اليوم موتاً مؤقتاً. بل سأجعله موتاً أبدياً. سأكسر الصخور، وأفرق المجتمعين ولو كانوا تماثيل. سأبدد هذه المدينة في الريح. هيا أيتها الذئاب، أنت وأنا عليها! سأربي هذه الرعية في مرعى ذي أسوار، أفلح ببعضها أرضي وأحصد زرعي، وتتناولين أنت منها لحمها وشحمها!
علىهذا النداء حضر حراسه الذي كانوا قد اختفوا كأن الريح بعثرتهم. حضروا كأنهم منتصرون. لم يسألهم الراعي أين كانوا، ولم يسألوه كيف صاحب الذئاب، ولم السؤال وكل منهم يشعر بالأمان. انتهى زمن الخشية من الذئاب، وهاهو ينتقل مع حراسه من جانب المهزومين إلى جانب المنتصرين!
لم يستطع أهل المدينة المسحورة أن يدهشوا لأن راعي المدينة دعا الذئاب ووعدهم بالبحث عن إكسير خلاصهم، هو الذي عاش عمره كله يهددهم باجتياح الذئاب، فيطعمونه ويسقونه ويخدمونه في انتظار المعركة المنتظرة التي ستخلص المدينة من الذئاب وتنشر فيها الأمان! لم يستطيعوا أن يدهشوا لأن حراسه الذين عاشوا في أبراجهم المرتفعة كي يكونوا قادرين على رصد قطيع الذئاب في الليل والنهار فيحذروا المدينة منه، ناموا في ليلة المصير، ثم اختفوا ولم يسمعوا إلا نداء الراعي الأخير! لم يدهش أهل المدينة .. لأنهم كانوا من حجر وصخر. وقد غربت الشمس في ذلك اليوم من الشرق، ولاحظت وهي تغرق في العتمة أن على الصخور ندى كالدموع، وقبل أن تتساءل: أيبكي الحجر؟ اجتاحتها العتمة، وسمعت صوت قطيع الذئاب ممزوجاً بهتافات المنتصرين .







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 12:36 AM   رقم المشاركة : 15
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

المتأخر
لم يومن بالحظ في حياته، حتى يوم اشترى ورقة يانصيب . فهل يضطر إلى الإيمان به بعد موته؟ بم يفسر إذن ما حدث؟
ولد بعد خمس بنات. فكان يفترض أن يكون مولده فرحة عظيمة في الحي كله. لكن زغردة واحدة لم تسمع في بيت أهله أو في بيوت جيرانه. لم يحدث ذلك لأن ابن شيخ الحارة ولد في ذلك اليوم نفسه، في تلك الساعة نفسها. بل ولد ثلاثة صبيان في حارته يومذاك حتى سميت تلك السنة سنة الصبيان. لكن ابن شيخ الحارة خطف الانتباه إليه باحتفال مشهود. نقل السجاد من بيوت المولودين في ذلك اليوم، وقطعت أغصان الكينا حتى من الشجرة التي غرسها جد الصبي وعقدت قوساً على بوابة شيخ الحارة . وهناك كانت العراضة الكبيرة التي بدت كأنها تهنىء قادماً من الحج!
سمعت في البيوت سخرية من ذلك، لكن الساخرين أنفسهم مشوا إلى بيت شيخ الحارة وقدموا له التهنئة والهدايا، ورووا له أن منجماً أكد مولد نابغة يحمل أبوه صفات المختار نفسها تماماً. انشغلت الحارة كلها يومذاك بالمنجمين والتنجيم وأعلنت أن الخير سينتشر في البلاد كلها طوال حياة المولود السعيد، وأن الكوارث ستنزل بها إذا مرض. لذلك قررت الحارة أن تحرس صحته .
قدم أهل الصبي يومذاك الكراوية لأصحابهم، في السر. لكن هؤلاء الأصحاب ذاقوا مقدار ملعقة منها فقط، ولم يمنعهم الخجل أن يعلنوا: لم تترك كراوية المختار مكاناً لغيرها**********************! ووصفوا الكراوية التي قدمت في بيت المختار: زبادي كبيرة، ملأى بالفستق واللوز وجوز الهند!
يجب أن يعترف بأن حظه سيء! لولا ذلك لا نزلق كي يولد تحت نجم آخر! فرغم الأحداث التي واكبت مولده، كان في المدرسة متفوقاً.لكنه لم يذق مرة الاحتفال بتفوقه، حتى بين أهله. فالحارة كانت ترتب الاحتفالات بتفوق ابن المختار في دراسته في اليوم والساعة التي ينوي أهله فيها الاحتفال به. ويوم أحاط أهله احتفالهم بالسر خوفاً من العين ومن المصادفات، فوجئوا بما لم يتوقعوه: مات رجل وقور من أجداده. فتكتموا على موته كيلا يفسدوا الاحتفالات بتفوق ابن المختار، لكن هل يمكن أن يحتفلوا هم بابنهم!!
لحقته المصادفات حتى في ختانه. دعي الأهل والأصحاب إلى سيران في البستان. وحضّر أهله اللحم والرز . لكن ابن كبير التجار وصل يومذاك من غربته الطويلة فخرج أهل الحارة لاستقباله، ومعهم المدعوون إلى الختان من أقربائه . هل فضلوا الحفلة الكبرى للفرجة على الأجنبية الشقراء التي قيل إنه أتى بها، ووصل صيت جمالها بالبريد قبل أن تصل!
أصبح يتوقع الأحداث الكبيرة كلما فكر باحتفال أو دعوة يجمع فيها أصحابه . فكان يبتسم سائلاً أمه: هل تريدون عرساً أو مأتماً أو احتفالاً يهز الحارة؟ فيفهم من يسمعه مقصده . نعم، لم يعرف في عمره، أو يعرفوا، أن حارته لم تشاركه في حزنه وفرحه!
هل نسي ذلك كله يوم سحرته زميلته فأحبها، ولم يحترس فأظهر حبه! انتظرها ومشى معها ورأسه مستدير إليها كأن حفر الطريق لا توجد، ولا يوجد الرجال الغلاط الذين لا يفهمون أنه شريكهم في الأرصفة! دفعه أحدهم مرة حتى كادت كتفه تنكسر، وكاد يقع لو لم تمسك به حبيبته.
في ذلك اليوم اكتشف حبها العميق له! لو لم يرفض اقتراحها لأوصلته هي حتى موقف الباص، أو لأركبته تاكسي يوصله إلى باب بيته! بعد ذلك اليوم تجولا في طرقات المدينة حتى كاد يخيل إليه أنها انتهت . فهل يلومها بعد ذلك إذا تركته؟
رآها تركب سيارة فخمة إلى جانب رجل، وفهم لماذا اختفت من مجال رؤيته . تذكر أن ذلك التاجر الغني راقبها وهي تمشي معه . واكتشف رشاقة خطوتها وأناقة جسمها وحركة شعرها الذي يرف في ايقاع! ألم يلمح تلك السيارة مرات خلال سيرهما في الشوارع؟
عجز الحب عن الدفاع عن النفس أمام أموال التاجر وفخامته!
لذلك طلب من أمه أن تخطب له فتاة من حي بعيد، من أسرة متواضعة، وأن تبقي الخطبة في السر حتى ليلة العرس . فقالت أمه لأهل العروس أنها تخشى الحسد والعين، وأكدت أن العرس المطنطن سيعوض الخطبة السرية .
كان يتلفت كلما زار بيت خطيبته، ليتأكد أن شخصاً لم يتبعه .وكان كالسمن والعسل مع خطيبته وأهلها . كانوا يتركونه وحده مع خطيبته عندما يحضرون القهوة . فيسمحون بالحد الممكن من خلوة لا تمنع الشابين من التعارف، ولا تسمح به.
رتبت خطوات العرس، وعلقت بذلة العروس في غرفتها لتحفظ بهجة السر . وانشغل الأهل بشراء التفاصيل التي يعرفون أنها ستظل ناقصة حتى يستكملها الزوجان عندما يكتشفان أن الحب يأكل ويطبخ وينام وينشر الغسيل، ويغلي الثياب البيضاء في وعاء، ويبدل شراشف السرير، ويهتم بكبس المخلل في قطرميزات، وبحبك البامياء حبالاً لتجف . ويمد الملوخية على ملاءات .
كيف وصل في تلك الزحمة ذلك الشاب مع أمواله التي كنزها في عشر سنوات في الخليج؟ قالت أم الفتاة لأمه الذاهلة: قدم ابنك خير! لم يخطبها قبله أحد! لم تخترها امرأة من نساء الحارة لابنها! منذ خطبها ابنك نستقبل كل يوم خطابين، فنفهمهم أنهم تأخروا لأن البنت مخطوبة . لكن النصيب يخرس اللسان . عندما زارنا أهل هذا الشاب أعجبوا بالعروس، ولم يثنهم ما أعلناه فعادوا مع ابنهم . رآها صدفة، صدفة . وكأن الله، جل اسمه، أغلق أفواهنا عندما طلبها بنفسه منا! نصيب.. نصيب..
قالت أمه: بل الأموال، الأموال! يلحقك الأغنياء أينما مشيت، ويتبعون خطاك يا ابني حتى أكاد أؤمن بالجن، أستغفر الله! يحلو في عيون الناس كل ما تمد يدك نحوه! ينتبهون إلى ما تنبه إليه! لم تقل له أمه: يسرقون اللقمة من فمك! لكنه فهم ما لم تقله .
ما العمل إذن؟ هل قرر في ذلك اليوم أن يترك الدنيا لأهلها القادرين على إنفاق الأموال على الفتيات وإغراء العرائس، وترتيب الاحتفالات بالولادة والختان ونجاح الأولاد في المدارس والجامعات والأعمال؟ هل أحب تلك الفتاة التي لم ينتبه إليها أحد قبله، ولذلك لم يطق بعدها الحياة؟
قالت أمه: بحثت تحت الملاءات وفي البيوت المظلمة حتى اكتفشتها. لولا ملابس الخطبة وصبغ الوجه بالحمرة لما انتبه إليها أحد . مع ذلك كبّرها ابني بموته في عين خطيبها! فوصل خطابون جدد إليها بعد مأتمه . أنا أعرف أنه لم يمت من الحب! ولكن من يفهم ذلك! لم يحزن الأم أن ابنها طق ومات، فقط. بل أن ابن شيخ الحارة الذي ولد معه في اليوم نفسه، مات بعده بدقائق . وفي ذلك اليوم نفسه وقع سقف مقهى فخم فوق مجموعة من الشباب كانوا يرقصون مع مجموعة من الشابات الجميلات. صاحت أمه: يا ويلي، لحقوه حتى إلى القبر!
لم يجد أهله آسا يتقدم جنازته ويزين قبره! وكم كان يحب الآس! لم يجد أصحابه حتى زهر الأكاليل الرخيص لجنازته، ولم يجدوا حتى شرائط سوداء يشيرون بها إلى موته.
انشغلت أمه عن الحزن بالتفكير في مصيره: لم يعطونا حتى الآن رخصة بدفنه! قال لها صاحبه: البلد كلها مشغولة بغيره! وكاد يقول لها " قدمه خير " لكنه صحح جملته فقال: قدمه جرّارة! وروى لها أنه رآه يدخل مطعماً يكاد يفلس، فإذا بالناس يتدفقون إليه!
بعد ذلك الكلام تسلل بعض الشباب خائفين على أنفسهم، وقالت النساء: فأل الله ولا فألك!
وصل الشاب إلى المقبرة في أول المساء، دون آس ودون أكاليل . لم يجد سيارة ينقل بها ويعلن منها اسمه ويقال: ترحموا عليه يرحمكم الله! لو لم يحمله أصحابه المخلصون الذين أتوا إليه بعد حضورهم مأتم ابن شيخ الحارة، لبقي في الحارة كأنه لم يقصد الخروج منها . رفعوه على أكتافهم مرة، ووضعوه على الأرض مرة . التفتوا فلم يجدوا أحداً غيرهم وراءه . فاضطر أولئك الأصحاب المخلصون إلى الاعتذار من صديقهم المحبوب، فالطريق طويل، والعزم قليل، والله نفسه لا يأمر إلا بما يستطاع! تركوه فكشف الغطاء ونهض، وأكمل طريقه الطويل ماشياً .
لم تعرف تلك التفاصيل أمه التي جلست وحيدة في البيت . لكنها قدرت وهو بعد أمام الباب أنه لن يصل إلى ملجئه الأخير إلا بشفقة الملائكة . فتركته هناك وجلست في صدر الغرفة كمن ينتظر المعزين . يجب أن تقوم بذلك الطقس من طقوس المأتم على الأقل! فلا صوت بكاء يعلن للميت أن فراقه مؤلم للمحبين، ولا تلاوة تخفف عنه الوحدة وتشعره بأنه يودع في مهابة . ولا زهر ولو كان "الغريب"! فالمقرئون والأزهار والناس في اتجاه آخر، تستدعيه عواطف أخرى منها طلب الستر ومنها الطموح.
من غير الأم يستطيع أن يتخيل الغرفة الفارغة مزدحمة بالملائكة الطيبين، يلبسون ملابسهم البيضاء النظيفة ويجلسون صامتين! جلست الأم بينهم مستمعة إلى الحفيف حتى فتح الباب ودخلت امرأة عجوز فكادت تظنها من الجن . ثم تأملتها وفهمت أن الانسان إذا تقدم في السن ضيع أنواعاً من العواطف، منها الشعور بالخوف . وبدا لها أن الإنسان إذا فقد من يخاف عليهم ويحبهم، فقد الرغبة في الحياة . لم تكن أم المتوفى قد شارفت على تلك السن . لكنها باحت للمعزية العجوز بشعورها بالراحة، لأن ابنها وصل إلى مكان وزمان لا سباق فيه . وقالت لها: يستمتع من يتحمل أثقال الحياة بمرة واحدة يحمل فيها على الأكتاف .
وكان ابنها وقتذاك يمشي في الطريق الطويل . ويرى الأكاليل معلقة على الجانبين، والآيات القرآنية والكلمات المأثورة على ورق كبير، في إطارات من خشب معلقة على شرفات البيوت .
رأى من الأزهار ما لم ير مثله في حياته كلها . واستمتع بذلك . لو يستطيع أن يواسي أمه ويقول لها: وفرت ذلك عليك وعلى أصحابي، فها هو الزهر يحف بطريقي من أوله إلى آخره!
توقف برهة عند البوابة . هل يودع الأمس الذي امتد على حياته؟ هل يودع المدينة التي لم تودعه؟ لا مجال للعتب أو الحزن! فالعالم الجديد، أيضاً، لم يرسل موفداً لاستقباله! دفع البوابة وكانت بوابة رائعة، واسعة، مزخرفة، مدهونة باللون الأبيض، خلفها أشجار كثيفة، حديقة عظيمة! لم يجد عند الباب حارساً يدله إلى مكانه، فهل يستطيع أن يصل إليه في هذه العتمة؟ من يتناول منه الورقة التي في يده؟ من يسجله؟ هنا أيضاً لا مكان له؟ أيتكرر هنا أيضاً ما حدث له يوم عبر المسافرون كلهم الحدود قبله مع أنهم وصلوا بعده؟ وما حدث يوم حمل أوراقه إلى المؤسسة ليطلب عملاً، فنودي كل من كان بعده؟ قال لنفسه: يا للحرية! وتجول حراً كالهواء .
تجول حتى غيبت العتمة الأشجار والأرقام . وعندئذ سمع ترتيلاً شجياً فتبع الصوت . فرأى هناك ابن شيخ الحارة كالمحتفى به وسط شباب وكهول عرفهم في حياته . رأى وسط مرج من الشموع والأزهار، الأغنياء الذين خطفوا منه يومه الأخير، والفقراء المحتفين بهم! سحرته الشموع والأزهار والثياب الناصعة التي تتألق في ضوء الشموع . أينضم إليهم ويرتل معهم؟ أيترك مأتمه ليشترك في احتفالهم؟
استدار عن ذلك السحر . قرر أن يتجول في العتمة . لكنه وجد نفسه وسط حلقات من الناس، وراءها حلقات . كان اتجاه حركتها نحو المركز حيث ابن شيخ الحارة والأغنياء والفقراء والشموع . فاندفع عكسها . لكنه كان يقاد إلى المركز كلما خطا خطوة في الاتجاه المعاكس . كأن ريحاً تدفعه . وكان يبدو كأنه هو الذي اختار اتجاهه .







رد مع اقتباس
 
إضافة رد

« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
استوطنت مملكة شعـري جبروتـي أرخصتهم واغليتك منتدى الشعر المنقول والصوتيات 14 31-10-2011 12:42 AM
مملكة اللون الأخضر ..~| ~أصداف~ ديكورات - أثاث منزلي - حفلات ــ أشغال يدوية 20 09-08-2010 08:00 AM
مملكة البنفسجي شمس الرائدية ديكورات - أثاث منزلي - حفلات ــ أشغال يدوية 18 05-12-2009 05:47 AM
مملكة الرائديه أبداع لا حدود له شمس الرائدية :: المنتدى العام :: 13 10-11-2009 07:42 PM
الصمت عنواني (سر الصمت) لانا منتدى الشعر المنقول والصوتيات 1 16-05-2007 08:16 PM



الساعة الآن 03:09 PM.

كل ما يكتب فى  منتديات الرائدية  يعبر عن رأى صاحبه ،،ولا يعبر بالضرورة عن رأى المنتدى .
سفن ستارز لخدمات تصميم وتطوير واستضافة مواقع الأنترنت