اخر المواضيع

اضف اهداء

 

العودة   منتديات الرائدية > المنتديات الإبداعية > منتدى القصص والروايات
 

إضافة رد
مشاهدة الموضوع
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-05-2006, 01:00 AM   رقم المشاركة : 11
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

ســـــراب الحـــب

كــان صديق أختها الكبرى التي تزيدها بعشر سنوات، وحده من بين كل أصدقاء أختها في الجامعة. استقطب انتباهها، سمتّه في سّرها: الموسوعة، فكل الكتب القيمة من روايات ومسرح ودراسات في الفن، كانت أختها تستعيرها منه، وهي كانت تلتهم هذه الكتب وتحس بمتعة مزدوجة، وكأن الكتب مبطّنة بروحه.
ساورتها شكوك أن أختها تحبه، ثم اتسعت شكوكها لتشمل كل صديقات أختها المفتونات بعلي، علي المثقف، والموهوب في التمثيل، وعازف الأورغ والوسيم تلك الوسامة التي تجعل أية أنثى تدرك من اللحظة الأولى أنها لن تصمد أمام زخم رجولته.
تزوجت أختها الكبرى من زميل لها بعد قصة حب ليس فيها ما يدهش. ارتاحت في سرها كون أختها لم تتزوج علياً، لكن فرحتها لم تطل، إذ سمعت أنه تزوج.
لم تغرق طويلاً في الحزن، ربما لأنها كانت ترفض أن تعترف بينها وبين نفسها أنها تحبه، أو لأن حدسها دلّها بطريقة ما أن خيوط حياته لن تتشابك مع خيوط حياتها، انخرطت في الحياة الجامعية مستمتعة بفيض المعجبين، وسافر علي إلى فرنسا مع زوجته.
من وقت لآخر كان يداهمها إحساس بالفراغ العميق، يبدو لها كهوة واسعة وفي نهايتها يرتسم وجه علي فيشرخها الحنين لبرهة. ثم يلتحم هذا الشرخ كيفما اتفق لتستأنف دوامة الحياة. وفي لحظة مباغتة. وهي في قمة نشوتها في نظرات المعجبين، وعبارات الإطراء. كانت صورة علي تبزغ لتحرق كل شيء وهو يبتسم ابتسامته العذبة الساخرة بعض الشيء. كأنه يقول لها: أنت تحبينني وكلهم سراب.
لم تكن تقيم لتلك الومضات أهمية، بل لم تعرف كيف ستقيّمها. كانت تفسر اضطراب روحها كلما تذكرته، بأنه إعجاب بشخصه. لأنه الشاب الأكثر تميزاً من بين كل الشبان الذين التقتهم. وفي قمة حججها المنطقية كانت صورة علي ترتسم أمامها طالعة من أعماق روحها، لتهزمها وتجبرها على الاعتراف أن كل ما تدعيه كذبّ، وأن عاطفتها تجاهه تملك عليها كيانها كله.
بعد تخرجها من الجامعة، تزوجت الشاب الذي يتمتع بصفات الزوج. سامر لا يعيبه شيء. عريس لقطة كما يقولون من حيث الغنى والمستوى الاجتماعي والمهنة، اعتقدت أنها تحبه. لولا بعض أحلامها التي كانت تصفعها وهي تصورها بأوضاع عاطفية ولقطات احتضان رائعة مع علي. كانت تستيقظ مذعورة على مشاعر ذنب تبللها. وكانت تحاول دفن تلك المشاعر في أعماق نسيانها كوسيلة للتخلص منها، في حملها الأول وقبل شهر من موعد ولادتها التقته في المطار. كان زوجها قد خطط لها أن تلد في أمريكا عند أخته، كي يحمل ولي العهد الجنسية الأمريكية، ورغم تململها وخشيتها من السفر وهي حامل، إلا أن زوجها أقنعها أن من واجبهما أن يضمنا منذ الآن مستقبل ذلك الكائن الذي لم يرَ النور بعد. كانت تفكر بسخف هذه الضمانات.
بعد عشر سنوات من لقائها الأخير مع علي في عرس أختها، التقت علياً، هوى قلبها وهي تراه يحمل حقيبة السامسونايت بيد، ومعطفه باليد الأخرى، كان منهمكاً في الحديث مع أجانب، أحست بامتعاض شديد كونه سيراها بعد تلك السنوات حاملاً، وأدهشها أن يخفق قلبها بتلك القوة عندما رأته، مستخفاً بنبض ذلك الذي يعيش في أحشائها، اعترفت لنفسها أن الزمن لم يترك بصماته عليه، إنه لا يزال فاتناً بحيويته، وتلك الجاذبية الغامضة التي تسميها الرجولة، ترددت هل تكلمه أم تتجنبه؟ لكن الحنين هزمها، وقفت على بعد خطوات منه، للوهلة الأولى خرج صوتها مرتعشاً مشققاً وهي تلفظ اسمه، وكررت المحاولة ونادته بعد أن سخرت من مشاعر الإثم التي تذكرها أنها حامل من رجل يفترض أن يستعمر خلاياها العصبية، التفت ليتأملها بعينيه المتألقتين، قلبها بعفوية وهو يتأمل بطنها مبتسماً، من المصادفة أنهما سيسافران على الطائرة نفسها، وخلال دقائق كانا قد لخصا عشر سنوات فصلتهما، أخبرها أنه أب لطفلين، وأنه يعمل كوسيط تجاري للوحات الفنية وللتحف الأثرية.
قدمته لزوجها الذي لحقها بعد أن اطمأن على حقائبها وأوراق سفرها، قالت: علي، صديق أختي الهام، التفتت إلى علي وقالت: زوجي سامر، تصافح الرجلان بود صادق، علق علي: أنت محظوظ، التقطت جوهرة حقيقية.
جلسوا في كافتيريا المطار، كانت بين رجلين أحدهما يمثل الحلم، والآخر الحقيقة، واحد تعيش معه، تعلق مصيرها بمصيره، والآخر يمثل ذلك الانعتاق الحر، حيث لا توجد خطط للمستقبل، ولا حقوق ولا واجبات، ولا مسؤوليات، أحست أنها بائسة، وأن بطنها متورم بورم يضغط على روحها حتى يكاد يزهقها، كانت تنقل نظرتها بين وجهي الرجلين وتتساءل أيهما أكثر تواجداً في حياتها، الشخص الذي تعيش معه الدقائق والأيام، أم الرجل الذي تفكر به، ويطلع لها في أحلامها؟
لم تعرف أنها شردت إلا حين أعادها حديثهما إلى أرض الواقع، كانا يتواعدان على لقاءات في المستقبل القريب، ويخططان لمشاريع مشتركة، خفق قلبها، هل سيدخل علي حياتها مجدداً؟
ترى ألم يشعر بالشعلة الخفية في روحها يوم كانت في الخامسة عشرة وهو في الخامسة والعشرين؟ ألم يلاحظ أنها في عرس أختها لم ترفع عينها عنه بينما كل الأنظار متعلقة بالعروسين؟
قبلها زوجها وهو يتمنى لها رحلة موفقة، تركها برعاية علي، وحين مشت بخطواتها المتثاقلة بجانبه. تمنت بكل خلية في جسدها لو كانت زوجته، لدرجة آمنت أنها ستكون أسعد امرأة في العالم، لأول مرة تحس بدفق حنانه المختزن منذ سنوات، يخصها به، كانا وجودين كثيفين متكهربين بالجاذبية اتجاه بعضهما. وساعدهما الطيران فوق الغيم على التحرر من ثقل الأفكار الأرضية المفروضة سلفاً، فكرت أن لا شيء يحصن المرأة ضد الحب حين تمسها عصاه السحرية، لا زواج ولا حمل ولا مستقبل، أنها تعي الآن رغماً عنها، كيف يكهربها الحب، وتعرف لحسن الحظ أو لسوئه إنه يعاني مثلها، وأن كيانه اضطرب منذ التقيا في المطار.
كانت رحلة طويلة، تمنت لو تطول العمر كله، ونسيت أنها ستلد بعد أيام وستغدو أماً، وكانت تغمض عينيها لتحلم به يحتضنها برقة، وحين تفتح عينيها تجده يرنو إلى وجهها بشغف لا يعمل على إخفائه، كان حديثهما الهامس يغيبهما عن هدير الطائرة، سألها فجأة: أتحبين زوجك؟
قالت: إنه لطيف.
قال: لم تجيبي عن السؤال؟
قالت بخبث: بل أجبت.
سألته بدورها: وأنت، ألست سعيداً مع زوجتك؟
قال: لا، الزواج مؤسسة فاشلة مائة في المائة.
-لماذا تزوجت إذاً؟
-ظروف.
حطت الطائرة في مطار الواقع، لكن هذا اللقاء ترك شقوقاً في قناع الواقع، وأحدث شروخاً في حياتهما ليس من السهل ردمها.
زارها في المستشفى وقدم هدية لها وليس للمولود، زيارة قصيرة خاطفة، متعللاً بأشغال كثيرة، لكنها لاحظت كيف تحاشى أن تلتقي عيونهما. لم تبق الأمومة مكاناً لأحلام الحب، تحولت إلى ظل للصغير أو مكمل له، ولكنها لاحظت كيف صار هاتف زوجها اليومي مصدراً لكآبة عميقة تغرق روحها، حتى أن سؤالاً تفجر من أعماق كآبتها ذات يوم: من يكون هذا الرجل؟ فتردد لنفسها مراراً محاولة تجذير حقيقة لا مفر منها: إنه أبو طفلي.
استأنفت حياتها الأسرية مع زوجها وطفلها بسعادة متألقة ظاهرياً، كانت تعطي نفسها لأسرتها لدرجة تكاد تقتنع هي نفسها بأنها الإنسانة الأكثر انسجاماً مع ذاتها، كانت مقتنعة بأن كل شيء يسير على ما يرام. لكن ما أن يأتي الليل حتى ينقض عليها شعور قاس بالشك بكل لحظة عاشتها في النهار، إن روحها تحوم هناك حوله، تشتاق إليه شوقاً متعاظماً يفضحها ليلة بعد ليلة، حاولت أن تصادق نفسها وحدثت روحها بلطف بأن كل الزيجات تتعرض لمطبات عاطفية وبأن الإرادة والإحساس بالمسؤولية يتغلبان أخيراً على هذه العواطف التي لو ترك لها العنان لدمرت معظم الأسر.
توطدت الصداقة بين زوجها وعلي، صارت تلتقيه دوماً وتحدثه. وتمكنا بمساعدة مؤسسة الزواج التي يرزحان تحتها من لجم عواطفهما. وأدراج مشاعرهما الملتبسة في خانة الصداقة، استمعت بتعاطف شديد لزوجة علي تشكو زوجها وتغيبه الطويل عن البيت، وبأنها اكتشفت خياناته لها واضطرت للسكوت حفاظاً على استقرار أسرتها. أحست بالغيرة والغضب وهي تسمع عن مغامرات علي النسائية، لكنها سرعان ما أدركت أنها لا تملك الحق بالغيرة.
في حملها الثاني، حدث الطلاق بين علي وزوجته، بذلت جهوداً صادقة لإعادة شمل الأسرة الصديقة. توارت مشاعرها كعاشقة مزمنة، وتمنت صادقة لو يعود علي إلى زوجته، حدثته مراراً عن أطفاله والألم الذي يسببه انفصاله عن أمهم، كانت صادقة متحمسة لكنه حسم النقاش قائلاً بأنه لم يخلق للزواج وتفاهاته.
عاد الوله القديم يستيقظ، إنه الآن حر، كانت تغوص في ندم قاس بعد سلسلة أحلام يقظة تبدأ بوفاة زوجها إثر نوبة قلبية أو حادث سيارة لتنتهي بزواجها من علي، كانت تشعر أن شوقها إليه كرجل كبتت حبه سنوات طويلة، يفيض عنها ولا تملك تجاهه حيلة.
بعد أشهر من طلاقه صدمها خبر زواجه، جنت من الغضب والغيرة، وقنعت عواطفها بأنها متألمة من أجل أسرته، تمنت لو تطعنه وتقول: لماذا تزوجت ثانية؟ ألم تقل أنك لم تخلق لمؤسسة الزواج؟ وأنا كيف..؟ عندها تحس بطعنة تخترق قلبها وهي تردد. أنا، من أكون أنا، زوجة رجل آخر وأم لطفلين.
تعرفت بزوجته الجديدة، ممثلة ناشئة تبدو مبهورة بعلي وهو هل يحبها؟ لم تستطع الاستغراق في هذه التساؤلات، لأن حياتها تعرضت لهزة قوية يوم اكتشفت أن زوجها على علاقة مع سكرتيرته، وبأنه متزوج منها في السر، أقامت الدنيا ولم تقعدها، تشبثت بالطلاق، رغم أن زوجها سارع لتطليق السكرتيرة. حاول علي أن يثنيها عن إصرارها على الطلاق، لكن محاولاته فشلت، كان الألم يشرخها، وهي تستعيد سنوات الإخلاص للزوج وتفانيها في حب أولادها. لم يخطر لها أن تحاسب نفسها على أحلامها السرية مع علي، هل نحاكم الإنسان على أحلامه؟ هذا ما كانت تقوله. وهل الفكر خيانة إن لم يتوج بالفعل؟
لم تعد تجد لذة أو سعادة بالتفكير باحتمال أن يتفجر الحب بينها وبين علي. نسيت أنها تمنته طويلاً. وأن العائق زال بعد طلاقها. لم تعد ترغب أن يتحقق حلمها. إن الواقع هو الذي يجرح وليس الخيال. والرجل الذي عاشت معه يوماً بعد يوم. وأنجبت منه، وخططت معه للمستقبل هو الذي أهانها، وطعنها في صميم كبريائها حين تزوج سراً من امرأة أخرى.
أما الآخر الذي ظل شوقاً وحلماً أشبه بفكرة ترفرف حول رأسها، فمديته لا تجرح. لساعات طويلة حكت لعلي مدى ألمها وعمق جرحها، عجباً كيف صار صديقاً ترتاح بالجلوس إليه؟ أين ومضات الحب المكبوتة؟ وهو بدوره كان يحاول التخفيف عنها، مؤكداً لها أن زوجها يحبها، وأنه وقع في فخ امرأة لعوب تطمع بثروته.
بعد أشهر من طلاقها، طلق علي زوجته، ولم تسأله عن السبب، كانت تتوقع تلك النتيجة، فعلي لم يخلق للزواج، في حياته حب واحد: الفن.
بين طفلها وطفلتها وبدون زوج، فكرت به كحبيب، لم يعد هناك أي عائق يمنعها من إفلات مشاعرها المحبوسة. لكن ما بها مشاعرها لا تلتهب؟ لماذا لا تشعل فتيل الحب المكبوت؟ هي نفسها لا تعرف السبب. إنها تستطيع ببساطة أن تتصل به وتطلب إليه أن يصحبها في نزهة بسيارته. وأن تدس في المسجلة شريط الكاسيت الذي عمره أكثر من عشرين عاماً، والذي قدمه لها في عيد ميلادها، سيفهم من دون أن تضطر لقول أية كلمة، إنها تحتفظ بهذا الشريط، وستترك لليل مهمة الإفصاح عن مشاعرها. لم لا تفعل؟ السؤال يتحول لسلاح ذي حدين، لِمَ لا يفعل هو؟ ألا يرى أنها غدت حرة؟
عذبها السؤال ذو الحدين، تاه ذهنها في احتمالات كثيرة، بعد أيام تلقت منه مكالمة، طلب إليها أن يلتقيها لأمر هام، خفق قلبها، فكرت أنه سيصرح لها بحبه.. أحست أنها في فخ.. ترى ماذا ستقول؟ ألم تكن تنتظر تلك اللحظة وتحلم بها. ألم تحلم مراراً أن زوجها سيموت مفسحاً لها طريق الحب. ترى لماذا تتردد؟
وجدت نفسها تنتفض وتقول: لا، مرت أمامها سنوات حياتها، الأفضل أن يبقى علي بموقع الحلم، إنها لا تستطيع أن تكون له، ثمة مواقع لا تتبينها، ليست متعلقة تماماً بزوجها ولا طفليها، وليست متعلقة أيضاً بأطفاله.. فجأة انقشعت أمامها الحقيقة بسطوع لا يقبل الشك، إنها لا تريد خسارته كصديق، لقد كان صديقاً رائعاً قبل زواجها وبعده، كانت تتمنى لو تزوجته، لو بدأت حياتها معه، أما الآن فالوضع مختلف. لقد تحررت من خداع الحاجة إلى الحب. وجرحها لم يشف بعد، حياتها تقلقلت وأحست بافتقاد للرجل الذي عاشت معه سنوات، خططا معاً لمستقبلهما ومستقبل طفليهما، ستقول هذا الكلام لعلي بعزة نفس وسترجوه أن يقدر موقفها وألا يزعل منها، وستتمنى له السعادة التي يستحقها.
في موعدها معه كان الحزن يعتصر أحشاءها، وجدت نفسها تفكر بزوجته بحنان. إنها امرأة ممتازة ومكابرة، قررت أن تفاتحه بأمر رجوعه إلى زوجته من أجل أولاده على الأقل.
استقبلها بود شديد كعادته، جلست مقابله مستعدة لصد كلمات الحب، قال لها بعد أن أخذ شهيقاً عميقاً: من دون لف ودوران زوجك يحبك ويحتاجك، يجب أن تعيدي النظر..
انفجرت ضاحكة، لم يتوقع أن تضحك هكذا، وأمام نظرة الدهشة في عينيه التي تطالب بتفسير لضحكتها قالت أخيراً وسط دموعها:
-ياه كم أنت صديق رائع. وكم تحتاج الصداقة إلى صيانة.
رشفا القهوة دون أن يتبادلا الكلام، إنما شعرا معاً أن القلب يتحدث إلى القلب، والروح تتحدث للروح، كانا يفكران معاً ودون أن يعرف أي منهما أن الآخر يماثله في فكرته العميقة. بأن الحنان العميق بينهما يفوق تلك النشوة المحتملة التي ستتولد فيما لو تزوجا.










رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 01:02 AM   رقم المشاركة : 12
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

لوحــــة مضـــيئة


زال اكتئابه فجأة إذ رأى الشمس دافئة مشرقة حين فتح عينيه، تبتسم له من نافذته الضيقة، ورد على ابتسامتها بابتسامة حقيقية، وقام من فراشه مغتبطاً للمرة الأولى في حياته، أو منذ بعيد بعيد، لا يذكر أنه ابتسم قبله، أو لعل مرارة أيامه أنسته طعم الابتسام، وكان يرى بعين عقله كيف استرخت عضلات وجهه سعيدة، وحين فتح النافذة وصار وجها لوجه أمام الدفء، وقرص الشمس يداعبه بأشعته الدافئة كأنه يشرق له وحده، أحس أن السعادة حلوة وحقيقية، ولها قدرة على صبغ كل شيء بلونها المشرق الدافيء الذي تخيله وردياً أو أزرق ضاوياً، أو حتى أحمر، بل أحس أن كل الألوان تومض بالدفء، واللون يصير حياة، اتسعت ابتسامته حتى تحولت إلى ضحكة وهو يراقب أصص جاره المتراصة المهترئة، وقد تكسرت أطرافها، لكن نباتاتها تورق وتزهر دوماً، وحدث نفسه مغتبطاً: رائع أن ترى أزهاراً وخضاراً كل صباح، وضحك فجأة ضحكة مسموعة وهو يتذكر غضبه وانتقاده مراراً لجاره، وقلة ذوقه في وضع هذه الأصص البشعة العتيقة على سطحه المطل مباشرة على نافذته، حتى أنه يرى سطحه كاملاً وهو مستلق في سريره، وكان يشعل سيجارته ويقول لأصدقائه في مقهى الرصيف: تصوروا، كرهني الحارة أبو ديب، يريد أن ينقل قريته إلى المدينة، كل يوم أستيقظ على صوت حيواناته، إمّا كلبه أو ديكه أو خروفه، ويسحب نفساً عميقاً من سيجارته ويحكي لهم كيف خطر لجاره أن يربي نحلاً ذات يوم، لكنه اعترض عليه بشدة وهدده بأن يقدم شكوى ضده، فأذعن الجار الكهل وهو يقول مغتماً: يا بني صادق الطبيعة والحيوانات، إنها نعمة حقيقية، ويضحك وهو يقول لرفاقه: تصوروا أبو ديب الذي لا يفك الحرف يعظني!!
لقد وصف لهم بدقة تلك الأصص -بعضها علب تنك صدئة، وبعضها خواب فخارية متشظية، كيف يزرعها بنباتات مختلفة ويعتني بها كأولاده بعد أن تركوه، فعاش وحيداً مع أصصه ونباتاته وحيواناته، تسليته الوحيدة التدخين، حتى اصفر شاربه الأبيض، كذلك اصبعاه الحاملان للسيكارة أبداً. كان صديقاً لأهل الحارة ما عداه هو -المثقف الكئيب- فكيف سيتفاهم مع رجل أمي بسيط يربي حيوانات على سطحه؟!

تأمل بدهشة شعوره الجديد نحو جاره الكهل، لأول مرة يشعر تجاهه بود، بل يغبطة على حياته الهادئة المستقرة، وكم مرة وصفه بأنه يعيش على الهامش، يدخن ويأكل، يطعم حيواناته ويسقي نباتاته، يزوره الجيران ليثرثر معهم.. كيف غير رأيه بهذه البساطة، هل لأن الشمس الدافئة سطعت بهية كملكة لم تعلن عن حضورها وغمرته بدفء غريب، أهي الشمس التي تتصدر كبد السماء، أم شمسه هو التي أشرقت في أعماقه بعد أن حجبتها طويلاً غيوم الكآبة الرمادية؟!
وهب صوت في داخله يستغيث: ارجوك لا تتذكر الكآبة، ولا تعدد لي أسبابها، ولا تحللها وتبحث في جذورها، أرجوك دعني أعش جمال اللحظة ودفأها، اتركني أتعمد بالشمس وأتمتع بخضار نباتات أبي ديب المغسولة بالمطر والمتعمدة بأشعة الشمس، والمضيئة بفرح لا يخفى.. واستجاب لرجاء النداء في روحه، وأغمض عينيه وهو يحس أن مسامه كلها تتفتح مستقبلة الشمس، وتحول دفء الشمس لملايين الشعاعات الرقيقة الذهبية، كل شعاع يدخل مساماً في جسمه ويتغلغل عميقاً، وسرت قشعريرة خفيفة في جسده وهو يرى الرطوبة العفنة تنكمش وتتلاشى في أعماقه السحيقة، قال ودموع صافية مختزنة في بئر كآبته تنسكب من أطراف عينيه: طهريني أيتها الشمس، أدفئيني، فقد مللت، رطوبة الكآبة؟ آه إنه يعرف كيف سيأتيه الجواب من عقله، سيعرف كيف سيتكلم المثقف الكئيب القابع في أعماقه، سيحكي له عن أزمات العصر المحلية والعالمية والكونية. سيصول ويجول بذكائه الغبي في الماضي والحاضر والمستقبل، وسيناقش أمامه مشاكل الإنسان المتشعبة كسرطان، أو سيحكي له عن شخصيات عظيمة وخائنة، وسيستعرض عضلاته العقلية في عرض ما يختزنه من معلومات وقراءات وتحليلات وكذبات تاريخية، وسيتركه بعد أن يشبعه كلاماً أسير كآبته الرمادية.. وتذكر أحاديثه التي لا تنتهي مع شلة أصدقائه في مقهى الرصيف، وتخيل أن الأحاديث تتحول كل يوم إلى بخار يتكاثف ويتصاعد غيماً رمادياً يظلل أيامه ووجوده.. أوه كفى، سمع الصوت الجديد يرجوه أن يتركه يعيش جمال اللحظة، جمال إشراق شمسه أو شمس الخارج، وأحس أن لا فرق بين الشمسين، وتساءل بجدية: ترى هل من علاقة بين الشمس في الخارج، وشمسه هو المحتبسة طويلاً في نفسه تحجبها الغيوم الرمادية..
حين فتح عينيه ومسح دموعه بكم بيجامته ليحتضن المشهد بعينين جديدتين، أو ليرجو المشهد الرائع أن يقبله فيه ابنا باراً، رأى أبا ديب يشعل سيجارة وقد جلس بين أصصه مستمتعاً بالشمس إلى يمينه خروفه، وعلى يساره كيس حبوب يرشها بين فينة وأخرى لدجاجاته التي تتراكض لالتقاطها..
وجد نفسه يصيح بصوت بدا له عالياً جداً: صباح الخير يا أبو ديب..
وأجفل أبو ديب من جاره الذي لم يصبح عليه يوماً، وانتفض متثاقلاً بقامته النحيلة المحنية ليتطلع إليه، وقبل أن يرد عليه ابتدره وقال: هل ترغب في أن أشرب القهوة عندك؟
وأتاه صوت ابو ديب الحنون مرتجفاً، وتذكر كم مرة سمعه يغني السكابا والميجانا وقال: أهلاً وسهلاً بك يا بني، ولكن أمهلني ربع ساعة لأرتب البيت..
ورد بسرعة: أتمنى لو نشرب القهوة على السطح يا عمي بين الدجاجات والخروف، والأصص الحلوة، ترك أبو ديب مذهولاً، وأسرع ينزع بيجامته ويلبس ثيابه وقد هبت عزيمة جبارة في داخله ترغمه على أن يقاوم الكآبة المزمنة في نفسه بكل السبل، وتدله على الطريق الصريح الذي أعمته كآبته المفزلكة عن رؤيته طوال سنين، ونزل الدرج متفائلاً، مرتفع المزاج، وقبل أن يقطع الشارع ليصل إلى بيت جاره الكهل، توقف لحظة وافتكر مؤكداً لنفسه أن جلوس أبو ديب وسيجارته بين أصبعيه المصطبغين والدجاجات حوله، والخروف المربوط إلى جانبه، والأصص المهترئة الصدئة التي تحتضن أجمل الورود والأزهار، والمشهد كله متعمداً بنور الشمس، لهو أجمل لوحة رآها بين آلاف اللوحات التي حضرها في أشهر وأفخم معارض الرسم والمتاحف العالمية.







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 01:03 AM   رقم المشاركة : 13
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

رغيــف خـــبز ووظيــفة

تتحولُ إلى وظيفة ورغيف خبز..
وتنطفئُ رغباتك وشهواتك لكل شيء، كل شيء..
أوليست الغاية المثلى للحياة هي انتصار الإنسان على أهوائه ورغباته، مصدر الشرور، تصيرُ موظفاً، فتشعر أنك فاقد الرغبة، فاقد الشهية. لا تشتهي إلا رغيف الخبز، دماغك يصبح شبيهاً بقرص عجين، أصم، مسطحاً، رخوا، خالياً من التلافيف، ومصاعب الحياة ترققه وتعامله وتسطحه، كما تعامل يدا الفران قرص العجين..
ويصير وجهك كالرغيف بكل تحولاته، وجهاً يتوهج كالرغيف الخارج من النار، بماذا يتوهج؟ آه يتوهج ألماً وحنقاً وسخطاً، وإشراقَ لحظات نادرة، لحظات إبداع سرعان ما تنطفئ. ويصير وجهك كالرغيف البارد الطري، يشبه ملايين الأرغفة، أو ملايين الوجوه، وتحكي كل يوم مع رفاقك الذين يشبهونك، الحديث نفسه وأنت مغمض العينين، مغمض القلب، مغمض العقل.
وتعود إلى بيتك المتصدع ظهراً، تمشي على قدميك، لا تعنيك الدكاكين بأنواعها، فلا لغة حوار بينك وبين الفاكهة أو اللحوم أو الألبسة، أو حتى الموسيقى، مضى زمن طويل لم تشتر فيه شريط موسيقى، اكتفيت بما عندك، بل ما عدت تصغي للذي عندك، كل ما يمكن أن تحمله وأنت راجع إلى بيتك، بواسطة نقلك الأبدية -قدميك- أرغفة خبز وأحياناً تنتظر طويلاً كي تحصل على الرغيف، وتتجنب اشتباكات ومشاحنات من أجل الرغيف، فأنت لا تحب الشجار، ولا الكلام، فقدت الحوار حتى مع ذاتك، ماتت رغباتك حتى أنك ما عدت تخاطب نفسك، وبماذا ستتحاور مع ذاتك وأنت لا تحلم ولا تأمل ولا تفكر، وكيف تفكر ودماغك قرص عجين تعامله الحياة بضربات قاسية قوية، وتقلبه كما تقلب يدا الفران قرص العجين، ثم تلقيه في النار..
آه، الوظيفة ورغيف الخبز، ووجوه الزملاء التي تشبه الأرغفة، صرت تضحك في سرك وتحس أن وجوههم هي الأرغفة ذاتها، حتى أنك تمعن في وجوههم وتقول، هذا وجهه كرغيف يابس، وذاك كرغيف محترق، وهذا وجهه رغيف أسمر، وهذا وجهه ككسرة من رغيف!
ويحلو لك كل يوم أن تحسب الزمن يمر على وجهك كما يمر على الرغيف، وهالَكَ أنك بدأت تلاحظ بذور عفن نابتة على سطح وجهك وتصيح: يا إلهي ما هذا! هل سأصير رغيفاً متعفناً؟ ومن أين أتت بذور العفن؟ وأنا لا ينمو أي شيء بفكري، فقد ماتت كل رغباتي وأهوائي، وحررتني الوظيفة من كل الشهوات واللذات والمتع التي لا تعد ولا تحصى، فلماذا تختارني فوق ذلك بذور العفن لتنمو فوق وجهي. لكنك تدرك أنها لم تأتك من الخارج -بل من الداخل، داخلك الذي أخذ يتعفن من الرطوبة، من قلة الشمس، من نقص التغذية، أذناك اللتان أصابهما الطنين من تكرار الأحاديث ذاتها، تشتاقان لأغنية حلوة تفجر مشاعرك الرقيقة التي ترسبت عميقاً في نفسك، كما تترسب الحصى في قاع النهر..
تشتاق عيناك لمعانقة أشياء كثيرة، لمحاورتها، لامتلاكها، تشتاق لمقاهي الرصيف، ومقاهي البحر، تشتاق للجبل والأشجار، تشتاق لرحلة مع الأولاد، تشوون اللحم، ثم تأكلون الفاكهة، كل أنواع الفاكهة.
يشتاق جلدك لبزة جديدة، بدل بذلة التحنيط هذه، البذلة الأبدية التي ستدفن فيها بالتأكيد، فهي ستقاوم الزمن أكثر من جسدك البالي بالتأكيد، آه بزة جديدة ستشعرك أنك إنسان جديد، بأن جلدك يتجدد، ستدخل بهجة إلى نفسك، وستغمر السعادة روحك إن استطعت أن تدخل دكاناً أنيقاً وتشتري بزة، آه، عدنا إلى الاشتهاء والنفوس الضعيفة، وتستيقظ رغباتك رغم أن الوظيفة بذلت جهوداً خارقة لتخليصك من كل المتع الدنيوية الزائلة، ولكن يبدو أن لا فائدة ترجى منك، ففي أوقات تزداد تباعدا، تعود رغباتك للاستيقاظ وحواسك للتنبّه، وتتمنى لو تمتلك العالم، وتحس بمئة أمنية صغيرة تتفجر في شراينك في دقيقة واحدة، وتنتفخ روحك بالأحلام كما ينتفخ قرص العجين في النار ويتوهج، وينشطر إلى قطعة سفلية وقطعة علوية وبينهما الأحلام والحياة.. وتحس بدفء الحياة، ومتعتها، وتحس برغبة عميقة في أن تعيش، كما يجب أن تعيش كإنسان.
ولكن هذا التوهج لا يدوم، لأن يد الفران تمتد لسحب الرغيف المتوهج المنتفخ آمالاً وتلقيه خارجاً ليبرد وينطفئ، فتعود كما أنت، وتتحول الحياة إلى ثنائية لا تنفصم، رغيف خبز ووظيفة، أو وظيفة ورغيف خبز. هذه الثنائية التي تتعشق بعضها، فلا يستغني أحدها عن الآخر، كعاشقين أقسما أن يتحابا إلى الأبد، فلا يفصلهما سوى الموت، وما أدراك كيف ستموت، فقد يتحول جسدك إلى كسر خبز يابسة تأكلها الأبقار وتتغذى بها لتزداد اكتنازاً وجمالاً ولحماً.







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 01:06 AM   رقم المشاركة : 14
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

نجــــم مـــن نحـــاس

كــان نجم صالونات أدبية في عقده السادس، أنيقاً، سخياً على كل جديد في عالم الأدب والفكر والفن، يبحث عن اللوحات القيمة ليقتنيها، يشتري كتباً ومراجع نادرة. كان فخوراً بمكتبته وقد جلّد كل كتبه تجليداً فنياً أنيقاً وبلون موحد، البني الداكن....
كان كالقبطان الماهر، يدير الحديث مع أشخاص متناقضين متنافرين، فيقيم توازناً بين تنافرهم ويبدو كأنه يصالحهم، وكان دائم الحديث عن مواهبه الأصلية والمخزونة في أعماقه كالدرر النادرة.
لا أنكر أنه استوقفني واحتل مساحة واسعة من تفكيري، وأثار تساؤلات عديدة في نفسي. لم يكن مفهوماً تماماً، شيء ما في حياته لم يكن يقنعني، ترى ما هو؟! لم أكن أعرف سبب إحساسي، ورغم كونه شديد اللباقة معي، يهتم بكل كلمة أكتبها، ينقدها، ويوجهني، ويقول دوماً: سأُطلقك في عالم الأدب، سأكون وراء نجاحك، ورغم أن كلامه هذا لم يكن يرضي غروري فقط، بل يتخمه ويشبعه لوقت طويل، إلا أنني كنت متشككة، وكنت أخجل من شكي وألوم نفسي على مشاعر الخيانة تلك...
كان مرسوماً بدقة لا أستطيع أن آخذ عليه أي مأخذ، في ثقافته وتعامله مع الناس ولباقته وشغفه بالقراءة، ونقده وتحليلاته التي تنم عن ذكاء وسعة اطلاع، لكني كنت أحسه كالممثل الناجح الذي يتقن دوره بدقة، ويبدع في الأداء، ولكن كيف هي الشخصية الحقيقية، لمؤدي الدور -للممثل-؟ لا أعرف تماماً لماذا هذا الإحساس الخائن تجاهه، ما كان ينهزم أمام توبيخي المستمر له بل كان يزداد إصراراً وتمرداً على صحة آرائه....
بعد انقضاء فترة الألفة بيننا، وكنت أعتبره أخاً وصديقاً، وموجهاً لي بحكم سنه وثقافته الواسعة والكتب القيمة التي كان يرفدني بها، صرت أتجرأ وأسأله لماذا لا يكتب؟ ولا ينشر ، مع أنه ذكر لي أنه في بداية شبابه كانت له محاولات رائعة في الكتابة، وأن اسمه كان يكتب بجوار أسماء كتاب صاروا مشهورين الآن، وحصدوا جوائز... وكنت ألّح مندهشة وأسأله: لماذا لم تكمل وكل السبل مفتوحة أمامك؟ ألا يكفي أنك لا تعاني أية أزمات مادية، وأسرية، فزوجتك امرأة عاقلة متفهمة، وأولادك ناجحون، وأنت تتحدث عن الجواهر المخزونة في أعماقك، فلم لا تخرجها إلى السطح، وكان يتململ في بزته الأنيقة ناثراً عطره الفخم في الجو حوله ويقول مؤكداً:
- أوه مستوى ما أكتبه مختلف، أرفع من كل ما يكتب حالياً.
فأصر على تأكيدي: إذاً يجب أن تكتب، لنقرأ الأفضل والأمثل، لنتتلمذ على يديك.
فيبتسم كما يبتسم والد من تصرف أحمق لابنه الصغير ويقول: ولكن كتاباتي جريئة جداً، ناقدة إنها كالضوء الساطع تبهر العيون.
فأقول وأنا مصممة على أن أصل إلى قناعة راسخة: إذاً هل تخشى الرقابة؟!
فيرد وهو ينفث دخان غليونه: نعم، إلى حد ما.
وأقول: ولكن ألا تلاحظ أن هناك كثيراً من القصص والمقالات التي تنتقد واقعنا بجرأة وتسعى لتطويره نحو الأفضل.
- أجل، لكن كتاباتي تفوقها كثيراً، كثيراً جداً.
- ولكن حرام أن تدفن جواهر ثمينة في أعماقك، ولا تظهرها للناس، ألا يمكنك أن تصوغها بأسلوب ألطف مثلاً، على نحو يمكن أن ترضى عنه الرقابة.
فيرد من عليائه: ولكنك لا تستطيعين تخيل مستوى كتاباتي، إنها لا تشبه أية كتابة، إنها نسيج وحدها، كما أن جملي عميقة كثيفة، ستحتاجين وقتاً طويلاً لفهمها وللغوص في أعماقها السحيقة، وأحب أن أنوه لك بأنني كثيراً ما ألجأ للرمز، فهذا يضيف سحراً على الكتابة، كما أنه يوصل أهدافي وغاياتي للناس بتأثير أكبر.
وأقول وأنا مصممة على أن أصل معه لنتيجة تقنعني، بعد أن آمنت بحقيقة جواهره التي صرت أتحسر عليها أكثر منه: لكن حرام، يجب أن تتواصل مع الناس، غير معقول أن تدفن جواهرك هكذا.
كان يبتسم ويقول لي: لا يهم يكفي أن أكتب لنفسي.
وأؤكد بحماسة الشباب وأقول: لا، الكتابة رسالة، وقضية، والكاتب يجب أن يعبر عن هموم الناس ومشاكلهم، ويدلهم على الطريق بكتابته.
وبعد إلحاحي اللجوج، قرر أن يعطيني بعض درره، صفحات قليلة مكتوبة بخط يده الجميل المنمق وأحسست بغبطة عارمة، أخيراً سأقرأ فكراً مميزاً وأدباً لا مثيل له، سأطلع على جواهره الثمينة المخزونة.
أعطاني ثلاث صفحات، ووجدتني أقفل الباب، وأجلس لأقرأها بقدسية، وحواسي كلها متحفزة ومتنبهة، ووبخت نفسي لأنني لم أفهم شيئاً، وقد أنهيت الصفحة الأولى كلها، وتساءلت بذهول ما هذا الذي أقرؤه، عناكب، وسحالي، وأفاع وعقارب، وصراصير، وجرذان وفئران، كلمات غريبة نهش وافتراس وابتلاع واقتناص، أين أنا؟ هل أقرأ في علم الحيوان وبالذات قسم زواحف الصحراء، وتذكرت كلامه أن كتابته رمزية، قلت حسناً: اعصري مخك يا فتاة وركزي، أين أنت من رجل مثله واسع الاطلاع، لم يترك كتاباً إلا قرأه، وناقش به، لأقرأ مجدداً صفحاته وبتركيز أكبر، وقرأت الصفحة الأولى دون أن أحقق فهماً أكثر، وقرأت الصفحة الثانية التي توالدت فيها العناكب والأفاعي، وزحفت الصراصير أسراباً، وطلع سرب الجراد ليلتهم البساتين الخضراء، وخرجت الأفاعي من أوكارها لتلتهم الأرانب والدجاج والصيصان.
وما كدت أصل إلى نهاية الصفحة الثالثة حتى أحسست برعشة قوية تهز جسدي رعباً من الزواحف، حتى خطر لي أن علي أن أسرع إلى المستشفى ليعطوني لقاحاً مضاداً لسم العقارب والأفاعي، وأخذت أجيل النظر بحذر في زوايا الغرفة عساني أجد عقرباً أو صرصاراً، أهب لقتله قبل أن يتكاثر ويصير ألف صرصار أو ألف عقرب تهم بافتراسي، ورميت الصفحات جانباً وضغطت على صدغي بيدي وأنا أغمض عيني بشدة وأتساءل بخيبة: أهذه هي الجواهر المخزونة، والرموز المبدعة؟ هل أنا تائهة في صحراء مرعبة، أم أقرأ أدباً مميزاً؟!
وأعدت طي صفحاته الأنيقة، وأعدتها إلى ظرفها، وأنا أرجو لها الراحة الأبدية فيه، وحمدت الله على أن صاحبها لا يجدها أهلاً للنشر لأنها فوق مستوى القراء بكثير!!.







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 01:10 AM   رقم المشاركة : 15
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

ــــــــ إلى أين تمضي الرسائل؟

هكذا في كل صباح، تخرج المرأة بعد انبلاج الشمس بقليل سالكة في كل مرة طريقاً مغايراً اتجاه الساحل لئلا يلحظها أو يلاحقها أحد، تتوارى خلف أستار الأشجار بعجالة. تهتز قامتها المديدة ويتطاير شعرها مغطياً جزءاً من وجهها. حقيبتها الجلدية المحشوة بالأوراق تثقل كتفها. يشدها المكان تنتشي كلما تقترب من عطفة النهر. حيث تنأى الخطى ويطل وجه الماء بزرقة عميقة قبل أن تصل تتريث في مشيتها ثواني تمرر نظراتها في عدة اتجاهات لمرة أخيرة ثم تنزل إلى النهر، تهبط مترددة وجلة على المنحدر الصخري وصدرها المكتنز يهتز باشتهاء مع اندفاعات جسدها الفتي، يختل توازنها قليلاً لكنها تتقدم بخفة قط، تدنو أكثر، تحاذي الماء تماماً، تحدق طويلاً أمامها النهر الممعن في تلونه، اللامستقر، تتملى إيقاعاته الهادئة وعمقه.. تنتظر. تنتظر، ثم فجأة تترك حقيبتها على الأرض تلم أطراف فستانها فوق فخذيها تلتذ ببرد الرمال في باطن قدميها قبل أن يجذبها الماء ويغمر ساقيها. تنحني تجذب حبلاً سميكاً من الليف تقبضه بكلتا يديها تسحبه بقوة فتطفو للتو على السطح المائي شبكة صيد مترامية الأطراف تبدأ تلف الحبل في حلقات وتجذب الشبكة بحركات عنيفة مباعدة ما بين ساقيها لارتكاز جسدها في الماء، ينفلت فستانها يطفو مثل مظلة في الماء ثم يلتصق ما بين فخذيها تتثاقل. تحث خطاها معطية ظهرها للنهر، متجهة نحو الشاطئ فيما تشدد قبضتها بأطراف شبكة ثقيلة متدلية في الماء تحملها فوق كتفها لترتقي بها إلى الضفة وتلقي بها على الرمل، إلا أنها سرعان ما تهبط ثانية إلى المياه الراكضة هنا وهناك تخوض طمى الحافات ثوبها المبتل رفعته كي لا يعيق حركتها حين تبصر صناديق خشبية مغلقة صغيرة تتراقص فوق مويجات الماء تندفع لاهثة وراءها تحيط بها من كل جانب وتعيدها إلى الضفة لئلا يحملها ارتداد الموج ويعيدها إلى مجرى النهر، عندئذ تحل رباط الحبال تفتح الشبكة تنتشل الأسماك الناطة المرتعشة وتطلقها إلى المياه. ترمي مستعمرات الطحالب والأوساخ بعيداً لا تبقي إلا على الصناديق فحسب! فيما يداها تبحثان خلال النسيج مثل يدي صياد محترف وهي تخرج المربعات تنفض عنها الماء تقلبها بقلق وتضعها على الأرض الرطبة. مكونة أمامها صفوفاً طويلة من مربعات خشبية متشابهة تزيح الشبكة جانباً تشرع بفتح أغطيتها تباعاً. تستل أناملها رزم الأوراق تبدأ بفك أحزمة أخرى قبل أن تثبت قصاصات مدعوكة مبتلة وتنشرها بعناية فوق ذرات الرمل ثمة نوارس على مقربة تتقافز وتلتقط أوراقاً متسربة من بعض الصناديق المهشمة العائمة التي تداعبها أنامل الموج قرب الجرف، حين رأتها هرعت نحوها حافية وشعرها يطير اختطفت ما لفظته مناقيرها من نتف الأوراق التالفة! وأعادتها وغطت بها سطح الرمل وإذ يعتكر مزاج النهر تضج المياه فتتلقى صناديق الخشب ضربات شديدة فتنقذف إلى عنف الماء. تلقي التفاتة خاطفة. لا تقوى أن تتخلف برهة. تخلع ثوبها للتو. تضحى عارية إلا من لباس السباحة وتندفع نحو النهر سابحة بكل المهارة التي تمتلكها. تضرب المياه بقوة تتقاذفها لجج الموج. تجدف عكس التيار معترضة سبيل الصناديق الهاربة المتراقصة فوق كرات موج سريع متلاحق تتعقبها تبذل جهداً مضنياً لانتزاعها من أيدي الماء ثم تتحرى المياه لعدة دقائق قبل أن تحتضنها بذراعها وتسبح متجهة بها نحو الشاطئ لارتقاء حافة النهر. حينئذ يبرز ويلتمع جسدها العاري المبلل وقد غمرها وهج الشمس قبل أن تخف لارتداء ثوبها وتتربع على الأرض الرطبة. تلم الصناديق حولها وتفرغ محتوياتها على الرمل، تتناول أكداس الأوراق المتلاصقة المبتلة تعمل أنامها في انتزاعها عن بعضها بتأن قبل أن تثبتها فوق جسد الرمل ورقة جنب أخرى بدقة متناهية، لتنهمك في برهة تالية في تسوية منبسط الرمل الهش بأصابع مرتجفة لتجعل منه أشبه بسطح منضدة أملس كيما يتيح لها أن تلصق ما في حوزتها من رزم مستطيلات الورق المبتل لتنشئ منه مظلة بيضاء واسعة تشع في الشمس أو يتكامل بين يديها بهيئة جدار ناصع البياض منحدر مع الضفة قبالة النهر! إذ ذاك تتراجع قليلاً إلى الخلف تتملى التشكيل تبقى عينيها على مربع البياض الكبير الذي صنعته بنشوة أخيراً تجلس على مقربة إذ يكون بمقدورها أن تتطلع في الأوراق تقرأها متلهفة تتشرب نظراتها السطور المشوشة الضائعة التي تسيل أحبارها كالدموع. وإذ تلاقي صعوبة تنتشل فجأة من باطن الرمل عدسة مكبرة تضعها أمام عينها وتنهمك في القراءة مجدداً. تمضي تبحث عن قصاصات معينة تحتوي على خطوط ناعمة هي رسائله! فيما تلامس نهايات أصابعها مئات البطاقات الصغيرة والأوراق التالفة بحذر، صفوف لا حصر لها من قصاصات مدعوكة ونتف ممزقة تحاصرها وتمتد حولها لمسافة واسعة فوق أديم الرمال كشراع كبير. ممنية نفسها أن تعثر أو تفوز على رسالة واحدة منه قد وصلتها عبر الموج في الصناديق! ومع أن عملها لا ينتهي إلا عند حدود المساء لكنها تكتشف مع دهشتها كما هو شأنها كل يوم أن الصناديق لا تمنحها سوى فيض رسائلها وبطاقاتها ذاتها التي عبأتها وأوثقتها بما يثقلها من الحجارة وأودعتها النهر نهار أمس. ووجدتها في انتظارها طافية فوق المياه هذا الصباح. رسائلها التي واظبت بحماس على متابعة بثها كل يوم إلى زوجها المختبئ هناك في قيعان الماء! إنها لم تكن تشك لحظة من أنه لن يتجاهل أو يحجم قط عن مخاطبتها ومبادلتها الرسائل قائلة (ليس هو نفسه الذي كان فيما مضى يجيبني عشرات المرات عبر بطاقات ملونة حال تسلمه رسائلي خلال رحلاته المجهولة كلما اهتديت إلى المكان الذي حط فيه! نعم رسائلي ستسره كثيراً إنه علم أني مقيمة أدور في متاهات الجروف لأجله). لقد تأكدّت من أنه سيترك رسائله في صناديقها المسافرة عبر المياه كما طلبت منه ذلك. مرددة (أريد له أن يكتب شيئاً صغيراً، ولو تحية) ثمة زورق مهمل يرسو على مقربة منها يعتليه طائر صغير ذو ريش أزرق يضرب منقاره الخشب. ينتفض يخفق بجناحين مثقلين لوقت طويل دون أن يطير، تتطلع إليه. ينظر إليها يرى أشياءها تهمس (هذا الطائر، شهد كل شيء؟) ودون أن ترى انطفاء النهار تصحو متأخرة لدنو المساء عندئذ تفتح حقيبتها، تستل بعناية نضدا جديدة من الأوراق. تكورها وتودعها في الصناديق الفارغة ملقية بها من أعلى الضفة إلى أشداق الموج. ملوحة لها بكفها ونظراتها ساهمة إذ تغمرها مويجات الماء بعد ذلك تزيل عن شباكها ما علق به من عفن وطحالب وتصلح ما تمزق منها. لتنهمك بالعمل في نصبها بمحاذاة الشاطئ ومد أطرافها لأقصى مسافة فوق سطح المياه كدأبها كل مساء. أخيراً تصعد المدرجات والصخور حيث تسلك طريق عودتها إلى البيت يغلفها حلم الكتابة. عشقها العظيم، إذ يتسنى لها أن تذرف خلاصات روحها تتفوه بأحلامها تصرخ في وجه الورق تنتحب أو تضحك في مدى ساعات الليل منفقة مئات الأوراق التي غص بها البيت كما غصت بها الضفاف! حتى تطامنت نفسها هاتفة (لا بد لرسائلي التي تحتشد هناك في الأعماق أن تنتزع رسائله إني لا أطمع بأكثر من رسالة واحدة.. هاتف واحد) ها هي ذي قد اهتدت أخيراً إلى شراء رزم بطاقات أنيقة ملائمة لذوقه ولأن أوراقها لم تعد تتسع لما لديها من الصناديق لذا اقتنت أعداداً أخرى أكثر إحكاماً لا تتسرب إليها المياه. اقتطفت حزماً من زهر القداح الذي يحبه وضعته بتأن بين الرسائل حيث سينضح عطرها الأبيض على الأوراق. هاتفة (أكيد سيغتبط بسعادة يحرضه عطرها ويغريه ومن فرط نشوته سيتحدث ويكتب) أحضرت هدايا دون أن تعبأ لما تناهى إليها من تشابك الأقاويل التي سرت كالريح الساخنة هاتفة (يقيناً إنه يحيا في الماء. إنه رجل غير عادي بالمرة شاذ يمضي وقته في النهر أكثر مما هو على اليابسة، مشرد لا بيت له. لكنني كنت أحب جنونه، رغم أنه كان يخيفني بوساوسه وأحلامه نعم لقد فعل ذلك من قبل في مرات كثيرة وتركني أنتظر، هكذا يتوارى مثل دخان. يغيب طويلاً لكنه يعود فجأة ولا أعرف من أين جاء! وفيما مضى وفي مثل هذه الصباحات كان يصحبني إلى هذه الشواطئ. ندخل النهر معاً. أتردد أضطرب لكنه يختطفني مرة واحدة وينطلق بي فيما أتشبث بعنقه معيقة حركته. خفت أن تكون قد أصابتني عدوى جنونه ذاتها حين اكتشفت أن الجسد السابح كالطائر تماماً يخفق بذراعيه وهو يجوب سماوات المياه. كان يقول ونحن عند الضفاف: ماذا تعرفين عن حيوات النهر؟ عن محار الشواطئ عن هذا الطائر الصغير الذي لا يغادر القارب قلت في الحال لعله طائر مجنون يريد اختطاف القارب ! ضحك ملء فمه. وقادني من يدي مضينا نتسلق الصخور نقتطف ثمار الأشجار غير الناضجة ونلوكها بصخب ثم نخرج في رحلة طويلة عبر الشوارع).
فيما نشرت المرأة شباكها على الضفاف وأتمت على أكمل وجه تنسيق ولصق مظلتها الورقية مغطية أوسع مساحة من رمل الشاطئ. ثارت رياح عاتية فجأة كنست ورق المظلة وبعثرته رفعت أكداس الأوراق والصناديق المتراكمة على مر الأيام في امتداد الجروف ورشت بها وجه الماء بسيل أمواجها فغطت النهر كما حلقت في الرياح أسرابها كطيور بيض أو سحب فضية سرعان ما تهاوت متساقطة في البيوت والمحال والشطآن حين شهدت المرأة كل ذلك خلعت ثوبها بعجالة ورمت نفسها في مياه النهر كطائر رشيق لمنازلة الموج والريح.







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 01:12 AM   رقم المشاركة : 16
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

ــــــــــــــــــ رقصتها مطر

ارتفع طرق خفيف خلف نافذتها بما يشبه الحفيف أو تكسر أوراق جافة. كادت تعلن وصوله إلا أنها ترددت برهة. خافت أحابيل خيالاتها وخداع هسيس المطر الذي يحدث عزفاً هادئاً في مداعبة الزجاج، مرت دقائق قبل أن تهتدي إلى معرفة رنته القديمة التي أتقنت حفظها بالمران. فخفق قلبها متوقعة ظهوره السريع من النافذة. كانت جالسة خلف مكتبها مولية ظهرها إلى النوافذ الواسعة المطلة على منتزه فسيح يشدها الطرق الذي يتسرب في أذنيها منغماً. حدسها لم يخطئ قالت مع نفسها ها نحن ذا نلتقي بعد غياب لنحتفل معاً في رأس السنة. حاولت أن تلتفت إلى الخلف صوب المصاريع المشرعة منذ الصباح لأنسام دافئة على غير العادة في شتاء كانون ونثيث مطر ناعم. إلا أن ثمة قوة كبلتها في مكانها ملتذة في انتظار أن يتجه إليها ويناديها. خؤون. إنما ستغفر له لا تريد اتهامه أو إحراجه. ذلك لم يعد مهماً في هذا الوقت ستبادر قبله تعتذر له ولها! تعتذر عن كل شيء وتحتمي بحبه إذ تركزت رغبتها في أمنية واحدة قصوى هو أن يكون إلى جانبها في هذا المساء بالذات. لقد تركت أبواب محلها مغلقة. لن تبيع الزهور هذا اليوم. الزهور لهما! لذا دأبت منذ الصباح في ترتيب أشيائها قبل وصوله انهمكت كلياً في احضار زهور حقيقية. طاقات أقحوان. حزم بنفسج وزنابق حمر تنث عطر الحب. أبدت مهارتها في تنسيق صفوفها فوق الرفوف فتلألأت الجدران بمئات الشموس الصغيرة. ثمة موائد وضعت فوقها شموع موقدة أقداح وصحون وكاسيت جديد علّبت فيه أفكارها معلنة عصيانها وتمردها على كل شيء عمدت أن تلقي بماضيها هناك مع المهملات تخلع قناع السعادة الزائف تلحق بحياتها المبددة وحالما انهت أعمالها سرت فيها دفقات من شعور حار أنعش روحها دفء لذيذ في الجو على غير العادة مطعم بحلاوة مطر هادئ، قالت إن كل شيء بهيج إذاً وقالت أن عليها أن تكون رقيقة ومبتهجة كالزهور هي ذي خفيفة مليئة بالفرح توشك أن تفقد الإحساس بجسدها وتطير تملكها شعور يفيض بلذة خاصة تكشّف مغزاها مع اقتراب ساعة انعتاقها ساعة دخولها بوابة حياتها الجديدة التي ستؤذن بها دقات الميلاد هذا المساء لذا دققت في نضارة وجهها وفرحت وهي ترفل في ثوب بلون القرنفل مختالة أمام مرآتها بغنج حلق فكرها. هي ذي جميلة متوهجة في مملكتها جنة الورد. لا بد من أنه سيقف خلفها صامتاً مأخوذاً لحظات ثم يتجه نحوها بصيحة إعجاب وفي ذروة انفعالها رأت أن تطفئ ظمأ رغبتها هذه الليلة فترقص وتطير تلقي برأسها على صدره مطلقة أغاني قلبها المحبوسة. إنها تحلم. تحلم ولا توقظها سوى نغمة الطرق الخفيف التي استحالت مع ذبول النهار إلى رعشات تسري بأعصابها. خطر لها أن من القسوة أن لا يدرك نداءات روحها لا يدرك قيمة ليلتها. أما كان الأجدى التخلي عن ولعه في استنطاقها والمماحكة معها هذه المرة.. هتفت بغيظ: يا للرجل الذي لا يرتوي ظمأ جنونه إلا بممارسة طرق الزجاج والتخفي السريع بين الأشجار! برغم أنها اليوم ما عادت تطيق إخفاء توتر أعصابها وتفاقم حاجتها لوجوده. لنبرة صوته التي ستندس في أذنيها بأية لحظة لكنها مصرة على تجنب الالتفات إليه الآن يهمها وحسب أن يتقدم منها في الحال ويقول لها هات يدك لنرقص أن يداهمها يقتحم عالمها كزوبعة ويفر بها حيثما شاء لا أن يتربص خارج النافذة لاهيا غير بعيد عنها. لقد أدمنت من قبل لعبته المفضلة في الوصول إليها متخفياً كانت تلمحه دون أن تدع له أن يباغتها تتمادى معه في اللعب إذ تشعر بقربه وبأنفاسه عبر الزجاج مثلما تتحفز أعصابها بانتظار يده التي تهبط على كتفها مثل مطر تتسلل إلى شعرها بحنو ورقة لئلا تستفز من مكانها وقتئذ تستدير تقف أمامه مطلقة كلمات سريعة لا معنى لها ودون أن ينبس يختصر كل شوقه وشغفه يقطره في قبلة حارة يقطفها من فمها عبر خصاص النافذة وفي فوران عواطفها تعلم سلفاً أنه سيستدرجها قسراً لممارسة تتردد فيها حين يدعوها أن تغني! ترتبك. حسبت الأمر في البدء حالة عابرة لكنها مع تكرار الأمر سرعان ما مستها العدوى حتى غدت تتمرد على نفسها. تحفظها أمست طائراً طليقاً استسلمت للرقص الذي وهبها مزيجاً من الحرية واللذة والامتلاء. رأته رفيف أجنحة تأخذها في غياب لذيذ فتمتثل طائعة لندائه بما يشبه الإذعان للسحر! ما أن ينبعث صوتها إلى حين قصير حتى يترنم صوته معها يتهادى مع الريح غير آبه لتوقف المارة ودهشتهم وهو لا يفتأ يدور خارج النافذة مؤدياً حركات إيقاعية يصحبها نقر أنامله المدربة على الزجاج ووقع أقدامه يناديها صوته فجأة رقيقاً واثقاً يقول: (ارقصي. أسرع. دوري. الرقص سيكون مصيرك حتماً! سيمسك باللهيب والنار ويهمس في أذنك بسره فتفرحين كمن يعثر على يقينه الضائع! حينئذ تتقطع حبال الجسد وتسرح الروح. فتغني لك الأشجار والسحب والطيور.. أجل فليس ثمة بوح أبلغ من بوح الجسد! تمتعي بلذة الانعتاق. التمرد. لذة الحياة الهاربة).
وبحركة ذراعه وإيماءة رأسه وعلى وقع النغم السريع. تغمرها موجةً إغواءٍ لذيذ يأخذها فرح غامر. تتوقد روحها. تهتز. تتكسر حدود الجسد ينفلت حراً خفيفاً كهر حبيس يحلم بخضرة البراري. يشدها هياج الرقص باندماج حميم حار مع إيقاع النغم في فضاء الصالة وهو يرقص معها حولها. فيها! يحيط بها مثل الهواء.أمام نافذتها والعيون المستغربة مطلقاً أغنيته في أرجاء المكان فيرددها المارة الذين يجذبهم الصوت وتختزنها قمم الأشجار يختزنها. المدى الآن الدقائق تواصل الطرق. ثمة زخات مطر مرح يهمي ناعماً لا يني يطرق الزجاج من آونة لأخرى فيلتبس لديها وقعه المشاكس يتآمر على سمعها ويربك انتظارها يتسارع إيقاع نبضها. ما كان ينبغي له أن يجعلها تنتظر لحظة لا تعرف موعدها. لحظة مقلقة غامضة. لحظة يتموج صوته عبر المطر. مؤذنة ببدء رقصتها. هو ذا الرجل قريب. لعله يترصدها من موضع ما. أو ربما يتسَكع تحت المطر. ترى ما الذي يمنع أقدامه التي تريد أن تدنو منها؟ طافت بخاطرها الأسئلة أردفت بعد برهة لعله ترك لنفسه هذه المرة أن يرسل أغانيه ويطلق رقصته من مكانه خارجاً على مألوف عادته لكنما ساورها الشك في لحظة تالية مدركة أن للمطر صوتاً يسري في الجسد مثلما له رقصه وغناؤه وأصابع بلورية ناعمة تطرح الزجاج أيضاً!
فجأة توقفت أفكارها وانتفض قلبها إذ سمعت موجة نقرات سريعة شديدة الكثافة هي ذات الإشارة التي طالما يرسلها لها حين يأمرها أن تغني! أفرحها النداء صرخت بتحد. أجل، سأغني وأرقص، هذه الليلة ليس أبهى منها شيء ولا أكثر فتنة ليلة الميلاد، إشارة انطلاقها ومولد روحها الجديدة. وما إن اشتعل صوتها في فضاء الصالة دقائق قليلة حتى تغير إيقاع الطرق بفارق كبير في اللحن مجسداً نداءه لها لأن ترقص أطرقت مثل طفل مبهور، صاحت تطمئن مشاعرها هو خلف النافذة حتماً، ووثبت في الحال كما القطة من كرسيها ممتثلة لدعوته. شرعت تتلوى تأتي ضرباً من حركات رشيقة وقد تجاوزت في روحها للتو ترنيمات والحان طالما حفظتها. راح جسدها كله يلتهب يطلق لغته يصعد طاقته يتوثب بجمال آخاذ والزهور تتضوع تطير هي كفراشة وتغوص في لذة رقصها وغناءها فيضيق المكان من حولها ولفرط نشوتها تتعثر قدمها في الجدار فتتهاوى من الرفوف أكاليل الورد تنهمر مثل سحب ناعمة ملونة إثر ضربات ريح مصحوبة بزخات وابل المطر خلال النوافذ المفتوحة. تطايرت أسرابها وضج شذاها ورشت عذوبتها على وجه الفتاة ثم تهاوت أشلاؤها وسال رحيقها كأنهار صغيرة شفافة. لم تأبه ظلت كما الحمامة طليقة تطير تطلق هديلاً عذباً محلقة في موجة انخطاف غريب. انهمرت دموعها لفرط امتلائها بالسعادة ورغبتها الملحة للرجل..
وفي ذروة دورانها. طغى في الخارج إيقاع رقصة عالية وعزف رخيم على الزجاج ألهبا روحها فتنة وفرحاً وكفت في الحال عن رقصها هرعت صوب خصاص النافذة وجدت الظلام مهيمناً ودهشت إذ داهمها رجل غريب من النافذة! رجل من مطر دخل بخفة متلقياً إياها باذرع حانية، هجم عليها، وأمطرها بدفقات قبل حارة عنيفة! فاندفعت هي الأخرى فرحة تقبله تدفن وجهها في سيله المنهمر وتتشمم أنفاسه اللاهبة. فتبلل شعرها واغتسلت. فيما علا صداح صوتهما وتصاعد وقع رقصهما بحماسة حتى غدت تستحيل مع حمى الرقص إلى دفقة مطر! امتزجا معاً. تحولا إلى كرات مطر عنيف تصفع الأرض بشدة فتتقافز وتدور إثر سقوطها على أديم الصالة في رقص عجيب.







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 01:13 AM   رقم المشاركة : 17
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

ـــــــــــــــــــــــ الموت الأوّل

حتى الآن لم يكن قد تبقى له سوى نصف ساعة فقط في انتظار موته. هي مسافة الطريق التي يقطعها بسيارته والمؤدية من بيته إلى مكتبه.. وهو يسير كان يستنشق عذوبة برد الصباح الفاترة لآخر مرة! اجتاز شلة أطفال يحملون حقائبهم الصغيرة إلى روضتهم خفف قليلاً من سيره وتابعهم ببصره وهم يثرثرون أو يمرحون ثم يستأنفون سيرهم وقد ائتلقت وجوههم وأثوابهم الزاهية بضياء الشمس الندي. ثمة ابتسامة مشفقة ارتسمت على شفتيه فشل في تجنبها. ابتسامة مؤنبة أطلت من المرآة أمامه فارتد إلى الخلف دون وعيه وتشنجت يداه على المقود. شيء محرق وخزه لعله ندم أو أمر ما عصي على فهمه. لو لم يلتفت عامداً إلى شلة الصغار لما رأى ابنته الصغيرة تدرج من بينهم بتنورتها البيضاء وحقيبتها المحشوة باللعب تتأرجح فوق كتفها وهي تدفع قدميها بقفزات لاهية لاحت له منشغلة في مناداة أحدهم حين مر على مقربة منها بسيارته وتجاوزها بلحظة لكن كان من الصعب عليه أن يقاوم ففكر أن يكتفي برؤيتها على عجل ولأجل ذلك التفت إلى الوراء بحذر لئلا يدعها تراه وبمشقة كتم رغبة عنيفة جاشت بداخله لأن يتوقف ويحتويها بعينيه مطلقاً لها وداعه الأخير. أليست هي آخر مرة سيشاهدها في حياته. إنما هذا يخالف تصميمه ودأبه في تنفيذ موته بكل عزم وأهاب بنفسه على التماسك حتى تنضب آخر حبات وقته الوجيز متذكراً أهمية تكتمه على أي نحو إلى النهاية وعبثاً حاول أن يتجاهل صورتها التي انعقدت برأسه وكيف لاح لعينيه تألق شرائطها الجميلة وهيئتها المتسائلة حيث كانت تقول شيئاً ما حين رفعت رأسها وأبصرته بعد لحظة مروره منها وكيف تسمرت في وقفتها وثوبها تعابثه الريح فيما عيناها تلاحقانه وفي البعيد ظلت تلوح له من عمق الشارع وبقيت هكذا حتى تباعدت واختفت ولعلها لن تتوقف عن التلويح له إلى ما بعد موته! همس بذلك لنفسه وظن أن صوتها الصغير تردد طويلاً في الفراغ قبل أن يتبدد.. كانت حركة عقارب الساعة تزحف ودقائقه الأخيرة تذوب كحبات الماء مؤذنة بدنو نهايته. لكنه أيقن أنه حتى لحظة ما قبل موته سوف لن يفارقه شغفه لسماع غنائها البهيج في المساءات وتمتعه برؤيتها.. جميلة هي حين تدور أمامه بهفهفة ثوبها وضربات قدميها وحركاتها الراقصة.. يا لروعة الطفولة. نطق ذلك بانفعال ولفرط تأثره أضاف بصوت منكسر -شيء مؤسف حقاً إنها ستنتظر عودتي دونما جدوى منذ حلول المساء مهيئة نشيدها فرحة لما ستسمعني إياه كعادتها كل يوم، خطر بذهنه كل ذلك وهو يمضي في مسير متأمل ورغم قتامة مصيره وجد أن رغبته الأخيرة هي في استعادة أغاني وأناشيد طفلته التي باتت تنفلت من ذاكرته بيسر وأوشك أن يضحك من نفسه إذ تردد في رأسه غناؤها (روح عني يا كسلان أنت مو شاطر فرحان..) وفي غضون لحظة علا صوته بغتة وشرع يغني منتهزاً فرصة موته الوشيك! كما لو كان يطلق كل ما يحبسه من ألم وسرح بعيداً ناسياً مصيره على الرغم مما تبقى له من شحيح الوقت وحين حدق في ساعته أفزعه أن الزمن يقطر بعجالة مفرطة فحتى هذه اللحظة أضحت حياته عشر دقائق فقط! عندها ليس أمامه سوى أن ينسل إلى مكتبه يدفع الباب ويحكم إغلاق المزلاج قد يرتجف لبرهة أو يتمتم بشيء إلا أنه سيطلق الرصاص عندئذ ستردد صرخته بعنف لآخر مرة في صمت المكتب. ثم.. الفراغ. حيث يكتمل موته إذاك سوف لن يكون بمقدوره أن يرى تحطمها وكيف ستموت أغانيها مع انقضاء المساء عندما تمل انتظاره ويغلبها النوم بلى. فالموتى لا يفقهون ذلك. إنما جعل يفكر طويلاً كيف سيظل دوماً مختبئاً في أحلامها الصغيرة. كان يقود سيارته بسرعة وذهول ولما انقضى الوقت وعند لحظة موته تماماً جثمت سيارته أمام دار رياض الأطفال وقد خيل إليه أنه توقف عند بوابة البناية التي يقع فيها مكتبه فتحسس سلاحه بإصرار وحزم ولم تمضِ لحظات حتى وجد خطواته تندفع بقوة وشرود داخل غرفة واسعة وللتو هرعت نحوه ابنته ضاجة مبتهجة وقفزت متعلقة بعنقه وكمن أفاق بغتة راح يغمره شعور هائل بالارتياح وهو يضمها بحنو إلى صدره ثم ألفى نفسه يخطو بها وينحني ثم أخذ يحبو مثل الأطفال (تاتي.. توا..) وطفق يغني ويضحك يضحك بانفعال بالغ أجفل جمهرة الصغار حوله وأدهش المعلمة كأنما لم يصدق أنه قد خرج تواً من موته.







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 01:14 AM   رقم المشاركة : 18
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

ــــــــــــــ تلميحات البياض

إنه البياض، البياض الزاحف كموج أو شمع مذاب محتلاً مربع صورتي الصغير. كدت ألمح أجزاء وجهي السائحة والغائرة في تراكمه اللزج. كما أستطيع أن أراه كدخان أبيض ثقيل، لايصعد، لايتبدد، لايوحي بشيء، إنما يتموج باهتاً ويلمّح ويوهم، وأنا معلق ببصري أحدس وأستشف وراءه ظلال ملامحي التي أمتصها واستباحها فتلاشت مسحة الكبرياء الباردة التي تلوح بين الغضون
قبل أن يخطر لي أن أثقبه أو أبعثره لأطل على التماعها الخجول أرى وجهي المتخفي وراء حيادها في هلام صورتي المفترضة كما أقتفي أثر ظل عيني الشاحب أتعقبه قبل أن ينزلق ويتوارى في غشاوة الظلال المتماهية وهي في صقيع وحدتها إذ لاشيء يوضح غضونها وماتراكم فيها. كل الألوان تفر كما الملامح ولايتبقى سوى البياض المستبد ماثلاً أمامي يترصدني بحضوره المترجرج المريب، كل الألوان حجبت والملامح ساحت وتحيدت في مساحته الملغزة. وكمن يجوس عبر طلاسم تومض وتتوارى. كان بصري مصوباً هناك في محيط صورتي سعياً للإمساك بظلال وجهي المنسحبة والمتقافزة في سراب البياض كلما أوشكت العدسة أن ترسم تضاريسه وانحناءاته الناشبة تحت غيمة البياض. إذ ذاك تبدت لي كخيوط ممتلئة بالأسى لم يكن بوسعها الانشداد والتشكل لرسم أبعاده الغائرة فوق مربع الورق المراوغ بينما أشاح المصور ببصره عني كمن يتحصن عن مكاشفتي واعتصره الندم لتراجع مقدرته الفذة بتظليلي. بغية إخفائها بعد أن التهم البياض كل شيء وصدمه التماع شظايا الملامح المتطايرة مثل حشرات مذعورة من مربع الصورة الشاخصة أمامنا. غير أنني كنت منتبهاً وأنا أتابع لعبته المضللة مفترضاً أنني أستطيع أن أقيد تلك اللحظة التي تنفرط منها الظلال وتفر ألوانها.. أوقفها وأجوس عبر جسور أجزاء وجهي قبل أن تغور. أتنفس وجودها ألمس نبضها، ثم ألاحقها إلى حيث تغيب. قلت في سري لعل المصور حاول أن ينسيني التجاويف المتغضنة في البياض أو يخفي مابين الغضون رماد الألم أو يمحو تلك الخطوط القاتمة التي تموج فوق سحنتي ولكن أيتسنى للمرء أن يرفض وجهه يتنصل منه؟! ويضحي شيئاً أبيض كما فعل المصور أو ورقة لزجة تتحشرج فيها الألوان وظلال الوجه تختنق وتتلاشى في سطحها العجيب، التقاطيع والملامح ولاتترك سوى الشحوب الشمعي المخادع. كنت أتجاوب مع غموض مايجري وأنا أحاكي تلمحيات وألعاباً وأشباح بياض، إنها آفة التخيل، ولعله خيالي يعبث بي الآن. ولكن مابال المصور. تسمر واجماً؟ هل ظلله البياض. لابد قد تأخر في إيقاف اللعبة وسرقة الانخطاف. الانخطاف الذي لايدرك أبعاده، سوى أن العدسة المحملقة بعينها السحرية القاتمة. عجزت عن وضع خطوط وجهي على البياض. أتكون العدسة هي مايتلاعب ويعبث؟ كنت أختلس إليها النظر بتوجس كلما وقفت بإزائها وهي تمور بصمت وأنا تائق إلى المراهنة على الدعاية الخطرة. كان المصور يرمقني وهو يعمل خلف جهاز كبير. ثم يتفرس في مربع الصورة مضطرباً ونظراته المتواطئة على ما خطر لي أن بمقدوري أن أخط لي وجهاً بكل الدقة والمهارة دون أن يراه على موج البياض. ليس مهماً أن يرى. سأكتفي باختزاله في خيالي، أراه، أنا فقط وسط طوابير الصور المتنافرة. كما فكرت في برهة تالية. أن مايحدث لم يكن سوى نتيجة عبث التحديق في تقاطيع وجهي، عيناي المقيمتان على عيني. مثل مرايا متقابلة تكشف كل واحدة أغوار الأخرى بصفاء عجيب وعمق يصخب فيه البياض هاهي ذي تجد مساربها من مجال خفي كما الطيور الحبيسة. أغمضت عيني، ثم أشحت عن المصور الذي كان يكتم تنفسه كأنه ينتظر أمراً خطيراً، خلت أنني الوحيد الذي يعرف كيف سيتساقط هذا البياض كشمع عتيق ويتفرغ مثل غيمة شفيفة، فينحزم الورق بفتحة للعين المعلقة بدمعتها. وفتحة للقلب الصامت وأخرى لتقاطيع وجهي.... كان لهذه الأفكار تأثير مهيج، والمصور ينتظرني ويتابعني لمكاشفتي الصامتة له ومساهمتي في تحول لعبته. لعبتنا التي كان قد قررها دونما تعمد أو انتباه... عراف أحمق، سيق إليها ولم يتوصل إلى مهزلة فهمها. كما لم يهتد إلى اللحظة التي اكتمل فيها غموضها، إلا أنني أشرت مشفقاً إعادة اللقطة كرة أخرى. ووقفنا نرقب مشهد الوجه المنعكس على مربع البياض مأخذوين بما سيمنحنا به نثار البياض السحري، لكأننا نريد أن نحرر أنفسنا من اساره العالق بنا، ونحن نرقب هبته الغامضة محدقين في عين العدسة القاتم. وفجأة دهمنا الضوء الذي شع من مربع البياض الذي بدا متلألئاً مثل ثلج صلد، وبرقت عيوننا بتحفز معقبة مسار الضوء الذي انزلق فوقه وانطفأ في عمقه، فانفرطت الملامح لحظة أوشكت على الاكتمال والتشكل عند ذلك بدا مدحوراً. متخاذلاً. إذ لم يعد بوسعه أن يمنح لعبته دفقاً صوب نافذة غريبة، ليتسنى له أن يتعلق بزمامها مجدداً، بزغ البياض، حملق فيّ منادياً وكمن ينوشه نثار ناعم، رحت أندفع منه، أتفرس فيه، أقتفي سره، وهو ماثل بحضوره الموحي غير القابل للالتقاط والتكون وأنا ألمح المصور ينسحب متحاشياً ملامستي، كما لو أنه هجس، أنني مبلل بالسر، إذ رحت أحدس في محيط الموج الأبيض. أخترقه بلا مساس. أنزلق تحته ماضياً صوب ملامحي التي طفقت بالبروز. فها هي ذي عيني التي راحت تنعقد أمامي عند إحدى زوايا المربع. عيني ذاتها التي بللها الخمر والدموع.. لكنني صحت متفجعاً، ترى أين عيني الأخرى؟ ياه لقد انطفأت منذ أعوام في الحرب، ولم أتعود على فقدانها. كما لم أنتبه إلى جفنيها المنغلقين بثقل كبير، أشار إليّ المصور. وهمس بشيء لم أفهمه. ثم تحصن بالصمت مجدداً. إلا أن البياض زحف مرة أخرى، وما يكوّن الملامح ذاب وغرق في الهلام وغدا وجهي أشبه بقناع أبيض ثقيل فألفيتني أجرب، أخط ملامح لنفسي فوق القناع الأبيض ملامح تمحو بلاهة سحنتي في المرايا. أضع خطوطاً مثلما تتمثلها حواسي ويشعها خيالي. إذ كان قد دهمني شعور للحظات أن السهوم الكئيب الذي تشي به عيني وقتامة ملامحي هي من يقف خلف تسلط البياض هذا حتى صرت أكشر في وجه العدسة بابتسامة قاحلة متوهماً خداعها. في الوقت نفسه طفقت أناملي المندفعة بتوق غريب إلى تحطيم صرح البياض المستبد، محو أثره، بتقشير جسده الشمعي المخادع بتمعن ولذة باردة نازعة جلده بأناة حتى انبثق الدمع حبيبات مشعة. ساخنة بدأت ترشحها عيني الوحيدة التي بزغت من خلف البياض المنحسر وازداد تدفق خيط الدمع مع تحرير العين من ضغط البياض المتساقط وعلى مقربة مني بقي المصور يتابعني فاغراً فمه كأنه يحلم.







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 01:15 AM   رقم المشاركة : 19
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

ـــــــــــــــ شــــيطان الماء

أخبره أرجوك، أنني أقصده إلى هنا. أنتظره منذ عدة أيام كل مساء. رغم تلك المسافة البعيدة والمتعبة التي أقطعها لأراه تحت غول البرد وأزيز القذائف وانفجاراتها، ألا تشعر بتأرجح الكازينو كأنها باخرة تروم الانطلاق. الأشياء كلها تفقد ثيابها. انظر هناك إلى أشجار النخيل كيف تنحني هاماتها من هول الرياح العاصفة، وهذا العويل، النواح المتصل الذي تطلقه الحبال التي توثق الكازينو إلى الرصيف. تلك الحبال الثقيلة التي تقاوم عنف الموج واحتكاك الخشب المبلل، ألا تخشي تقطعها وانزلاق الكازينو إلى متاهات المياه. نعم. أرى أنها ستنطلق. لابد أن يكنسها الموج وجنون الرياح بغفلة، إنها تحلم بالرحيل أيضاً، ولكن يبدو أنك اعتدت تقلبات الموج وزمجرة الرياح. هل قطعت البحار وغبت طويلاً مرة؟ إننا الآن على سطح سفينة مكبلة ستنفلت في لحظة في هذا العصف. نعم. ربما تنطلق بنا. ألا تهتز أوصالك من البرد. ترى ماالذي ستفعله حين يداهمك القصف في هذا المكان العائم في الماء؟ ولكن ليس من بد، أننا جميعاً تدربنا على معايشته منذ أعوام، وليس غريباً هذا الوجوم الليلي الذي تخترقه الانفجارات ومشاعل التنوير في ماوراء النخيل. والآن سأنتظر كما هو شأني في كل مرة أمام الشط. قرب جدار الزجاج الذي يبدو وكأنه منبثق من قاع الماء يلطمه كل برهة موج صاخب بلون الغرين الأحمر، فيتناثر رذاذ يزيد من عتمة الزجاج ويراودني في وجه رجل سيقبل مثل غيمة هاربة من خلف الزجاج، ترى ألا ينبئني الشط بأمره؟ الشط الذي يملك أسرار الظلام والحيوان والغرقى...
من هنا يتاح لي أن أراه كيف سينبح من جوف الماء! أو حين يتسكع في الشطآن المظلمة أو وهو يتخبط مابين عروق النخيل الناتئة في الماء... هل أخبرته أنني أنتظره في هذا المكان كل ليلة، لماذا تحدق في وجهي؟ لعلك تنشد ملاقاته أنت معي أيضاً، لاتخف لابد أن يأتي مضمخاً برائحة الوحل أو يقفز من فوق الموج من هنا خلف الزجاج، هل قلت له أني أقف أمام الشط أنتظر وأتعذب من البحث ولا أعود إلى بيتي إلا مع الفجر؟.. لاتحدق بي هكذا، كيف تريدني أن أنسى وجهه السمكي المنعقد بعينيّ وقد أعاد لي الحياة يوم سقطت ممزقاً بالرصاص وكنت أحتضر في حمأة أرض مشتعلة بالنار دون أن يسمعني أحد حين اندفعت ذراعاه القويتان لترميا جسدي المهشم فوق ظهره وينطلق بي بعيداً من زخات الرصاص، وأنا أتفرس فيه بذعر أخرس وبغفلة سحبت كفي المستندة فوق كتفه فصعقني الذهول حين رفعتها أمام وجهي. إذ كانت ملوثة بدم أسود، حسبته لأول وهلة دمي، غير أني رأيت بقعة داكنة تنزف تحت كتفه اليسرى. رباه، لقد كان جريحاً هو أيضاً وعبثاً رحت أتملص من بين ذراعيه الحديديتين. لم أكن قد رأيته قبل ذلك كما أنه لم يتح لي أن أنطق بشيء ونحن نغادر المستشفى بعد أن لبثنا أياماً معاً. إنما تركني واقفاً بمكاني وغادرني بصمت. أوشكت أن أناديه، لكنني تذكرت أنني لم أعرف اسمه فألقيت كلمات مرتبكة وراءه وبقيت واجماً ومثقلاً لا أجرؤ على أي تفكير وقد شعرت أنني فقدته، مثلما عذبني ترددي في أن ألحقه وألقي بنفسي عليه، هكذا ترك الحيرة تدق برأسي كطبول السفن، ماذا تقول، إنه نوخذة يعتصره ألم الحنين إلى المرافئ. أنت تعرف أن عشق البحر يورث جنوناً مخيفاً... وهاهو صاحبنا قد توسد قيعان الشط وأدغال المياه وهو يضرب في مجاهيل الضفاف البعيدة ويلتهم الأسماك والأفاعي.. إيه يارجل لطالما أوصوني أن أتجنبك وتناقلوا بأنني ممسوس وخطير أفسدني شيطان الماء، هل أصدقهم؟! لقد أشاعوا أنك تغرق السفن وتقلب الزوارق وتختطف التائهين!... لكنك في المستشفى كنت تتشنج كأي آدمي من الألم كل ليلة، وكذلك حين تفتح فمك بقوة وتصرخ كمن يريد أن يبتلع جرعات من الهواء وأنت تهتف أنقذوني ها أنا أغرق. ثم وأنت تتخبط بذعر كمن يصارع موجاً عاتياً ووجهك يحمل تقطبية كما لو أنه مملوء بالوحل وماتنفك تصرخ أين حطام السفينة يجب أن تعثروا على الغرقى مؤدياً حركات السباحة فوق الفراش حتى أضحى تنفسك سريعاً ومتقطعاً كما لو أنك تصارع الموج حقاً قبل أن يستسلم جسدك كشيء طافٍ فوقه بعد أن نازعت الألم ببسالة نوخذة خبر البحر والمجاهيل والأخطار. وإلا فأي غرقى وأي حطام ياشيطان الماء... أيها الغريب، لكني بعد ذلك كنت ألتقيه هنا وفي هذا المكان دونما موعد سيكون هنا بعد دقائق. فهذا المكان هو ملاذه على اليابسة! أنت تعلم أي شيطان هو، إنه يزداد شغفاً واستسلاماً لمثل هذا الجو العاصف. نعم ستنتظر، وسيقبل من الشط تحف به هالات غموضه. مرة قال لي أن في الماء خلاصي. من أنت؟ قلت له وأرعبني بنظراته السمكية اللامعة كأحد كواسر الشط. بل صرت أشاهده مرات عدة في كل يوم فأهرع إليه مأخوذاً وكان يثب أمامي وجه غريب مندهش. فأتراجع خجلاً. كما أنني أتذكر عندما كان يرقد إلى جانبي جريحاً. لم أكن أستطيع أن أحدثه بشيء يخصه. كان لساني يتلعثم وتحاصرني حالة شاقة محيرة وأنا أتطلع إلى ملامحه التي تشبه السمك! إذ ذاك كنت أزدرد فضولي عنوة وتتسرب إلى ذهني أصداء كلماتهم فأوشك على تصديقها. التي تفيد أن هذا القرش يحيا مع السلاحف والأسماك في كهوف ومغائر المياه. من منا لم يرهم. كيف تلتهب وجوههم من الخوف وينفرون لرؤيته ويبسملون لطرد شروره! يقولون كيف لم تأخذه الشظايا المتطايرة عند اشتداد القصف وهو يتسربل بشبحه بين الشطآن في ظلام الليالي الباردة. بل كان يقلقهم ويثير مخاوفهم عندما يخرج من ظلمة الشط كلما اعولت الرياح، وأنّت المياه، وازداد القصف والخراب فيتأملونه خائفين ويقولون أية نبوءات جاء يحملها لنا هذا المخلوق. كما نقل آخرون أنهم شاهدوا شبحه شاخصاً في الخلاء المائي ليلاً وهو يصرخ بالتياع ويضرب رأسه بقبضتيه ناحياً في هوس مخيف... لكنني حسبت ذات مرة أنني بلغت غايتي حينما ذهبت وراءه خلسة حيث قطعنا أزقة وأزقة ثم وقفت عند أحد الأبواب العتيقة إذ كان قد سبقني في الدخول. طرقت مرة وثانية. لم يرد. غير أنني لمحته فجأة يخطو بتمهل عند عطفة الزقاق. دهشت من أين خرج. فتتبعته متلصصاً مسافة طويلة حتى استدار ناحية الرصيف حذاء النهر، ودون أن يلتفت إليّ توقف، ولبرهة طرق سمعي صوته يخاطبني... أيها السائر خلفي، ماذا تريد؟ إني ذاهب إلى مكاني! صعقني ماسمعت، قلت. إذن يقصد الشط. بينما راح يغادرني بخطوات بطيئة هابطاً إلى الشط. وقفت أتأمل مشيته مأخوذاً وصدى كلماته يرن بأذني. لم ألبث حتى خطوت قليلاً وكنت له خلف المتاريس وكان قد غشيني الذهول إذ تراءى لي بمشيته مثل سمكة قرش تجري على ذنبها الزعنفي قبل أن تلفه عتمة المياه. بعدها قفلت عائداً إلى هذا المكان، جلست أنظر إلى الظلام خلل جدار الزجاج وقد تهيأ لي أنه سيقترب ويلصق وجهه وراء الزجاج ضاحكاً فوجمت لهذا الخاطر بشيء من الخوف. إلا أنني على الرغم من كل ذلك كنت ألتقيه هنا، وغالباً ماأجده في الأيام العاصفة! إنها جوه الملائم كما تعلم... لاتضحك هكذا إنني لاأستطيع أن أفهم كل هذا... هاهي أعصابي أخذت بالاهتزاز.. لا أعلم هل أصابني شيء كما أشاروا.... أم سيطر عليّ وهمه... ترى من هو؟ ماحقيقته؟ ولماذا أتبعه طائعاً؟ ومن أطلق عليه اسم شيطان الماء؟ ثم ألا تلاحظ هامته العملاقة واتساع صدره وطول ذراعيه.. إن كل شيء فيه غير اعتيادي، حتى ضحكته المدوية المقلقة! ذات مرة عثرت على صورة له وهو يعالج ذراع بحار مصاب وسط البحر. إنه نوخذة كما قلت. نوخذة امتلك الامتياز. لايقيده شيء، ويعرف الأخطار... من منا نزل البحر ولدغته الأعشاب اللاصقة؟ واخترقت سمعه دوامات الأعماق وأصوات القروش والأفاعي، إنه قرش عنيد. ها... لاتتململ لعلني ثرثرت طويلاً... حسن... لا أريد سوى أن تنظر إلى وجهه الذي يكسوه زغب الطحالب. لقد انتشلني هذا الشيطان من الموت.. هل أبلغته بوجودي وبحثي عنه كل يوم؟ إنني أتجمد من البرد لأجله. أرجوك قل له. إنني في حاجة للقائه. والآن أتظن أنه هناك قرب الساحل؟ لماذا ترسل إليّ مثل هذه النظرات. لعلك تقول أنه يسخر منك. ربما، ماكان لي أن أحدثك بهذا لولا قلقي من أن يكون مختبئاً في الماء يترصدنا ضاحكاً، هنا قرب الزجاج. نعم. إنني أحدثك وعيناي تبحثان كل هذا الوقت في عتمة المياه القريبة إلى الكازينو!. لعلي أحمق لكنه الشيطان الذي يدفعني نحو الطريق.. أنت تفهم يا أخي... أنت تفهم، إن هذا لي ليس كل شيء، سأخبرك... ذات مرة جلس في هذا المكان. مضى يحدق في نقطة مجهولة في المدى المائي... وفيما هو ساهم أخرج من جيب معطفه أسماكاً حية مازالت تضرب رؤوسها وتحرك زعانفها وديداناً شعرية برؤوس كروية! وسرطانات حمراً، وسلاحف صغيرة بعيون لامعة وحفنة حشرات متنافرة ألقى بها على الطاولة ثم شرع فجأة بالتهامها بشراهة عجيبة حتى سال عصيرها فوق لحيته الطويلة السوداء! زعق رجل كان يجلس على مقربة منا... ياإلهي هذا جنون. إنه وحش حقاً وعاد في اليوم التالي مهتاجاً، أمسك بكفي وقادني خارج المكان، خطونا بصمت تجاه الشط ثم لبثنا نرقب حركة أحياء الماء. قلت ستمطر قال وهل هناك أحلى من المطر، ومضى يتمدد على الرمل. وشغلت لحظات بإخفاء رأسي من سيول المطر الذي شرع بالسقوط ثم التفت إليه لأكلمه فلم أجده!.... لحقت به بعد دقائق رميت ثيابي على الرمل. ونزلت إلى الشط. كان هدير القذائف يرتج له الكون، التماعات بيض تشق العتمة، وأشكال مضيئة تمتزج خاطفة أمام بصري عقب انطلاقها خلف البساتين. فأنكمش داخل جسمي تحت الماء. لم يكن يبرز سوى رأسي الذي شرع يدور فوق الموج مفتشاً سطح المياه المعتمة. وكان يأخذني الحنق والاهتياج كلما رأيت قنينة شبه ملأى. وأجساماً صغيرة تطفو خلال انحدارات الموج فينطلق عنان مخيلتي وأنا أتمثل رأس صاحبي طافياً أو نابعاً من طي الموج مثل كل الأشياء التي مرت أمامي وخطر لذهني بعد أن أتعبني الانتظار أهمية انتقالي صوب بقعة أشد عتمة تتيح لي مراقبته دون أن يراني. يقيناً إنه مختبئ تحت الماء لمراقبتي. آه لو اقترب ذاك الوهج الأصفر البعيد لاطلاقة التنوير. من هنا لتكشف كل شيء. إن مايعيقني حقاً هو الظلام. ها إنني أندفع بعيداً. عليّ أن أغوص ما أمكنني في بقعة ضائعة من غلالة الظلمة لتضليله. لبثت طويلاً تحت الماء ثم عجزت عن استنشاق الهواء، فاشرأب رأسي مجدداً فوق الماء متفرساً في الظلمة ومصغياً لأيما حركة. كان رأسي يدور في كل اتجاه حتى شلني ألم حاد نبت في رقبتي، فخبطت الماء غاضباً وانطلق فمي بالصراخ، أخرج بحق السماء أيها الصديق. دعني أكلمك، وإلا ستلتقطك شباكي ضحكت من غبائي، بينما كنت معلقاً أفكر بما يمكن القيام به‎، ولوهلة أحسست بشيء يمسك بقدمي ويسحبني إلى الوراء، أو لعله ثقل استند إلى قدمي فاستدرت مهتاجاً على الفور وهزني الخوف أيريد أن يخطفني إلى القاع؟ لبثت أدور حول نفسي ضارباً الماء بكل اتجاه... كان قلبي يدق بعنف وأخذ جسدي يتلوى منتفضاً وهو يقترب من القاع، اصطدمت بالصخور، وألفيت كفي تمسك بالحصى اللزج وبديدان صغيرة وطحالب ظللت أترنح، إنه هو. رأيته ينزلق مع الموج، وكان له ذنب سمكي لامع! ولعلها زعانفه هي التي كانت تحدث موجاً عالياً اخترق سمعي ودفعني إلى مقربة من السطح! نعم. إنه هناك، لايمكن أن تكون أدغال المياه والأشنات هي التي تعلقت بساقي، أو خداع التيارات... تقوس جسدي مرة أخرى وأنا أتفرس في تيارات المياه وبمرور الوقت. بدأت أشعر أنه يخدعني ويعبث بي... هذا الاخطبوط المخاتل ولم يكن أحد غيره من خطف مع الموج ومس ساقي، صحيح أن قلقي صار يتردد مع أنفاسي إثر ذلك، إنني لست خائفاً، ولكن لماذا، ترى هل تبدلت وبدأت تسيطر عليّ حكاياتهم. لقد أفسدني هذا الشيطان، وبدأ ذهني يستعيد أقوالهم عندما أشاعوا أنه يرحل بعيداً صوب أعماق الخليج والبرازخ البعيدة. هناك حيث يقطع الطرق أمام السفن. يختطفها ويأخذها إلى اتجاه مضلل، وكان النواخذة يحذرونه. إنهم يعرفونه منذ زمن بعيد... كما حكى آخرون بأنه أحد الأولياء الصالحين. لديه قدرات خارقة على شفاء المرضى. إلا أن الناس تخافه وتنفر منه. ترى هل عليّ أن أصدق؟.. إنني عرفته قريباً، رأيته مارداً رهيباً وهو يحملني فوق ظهره مسافة طويلة ملتهبة بالنار في الوقت الذي كان جرحه ينزف أيضاً. ولكن لايهمنا الآن كل هذا. إنما علينا أن نرقبه ونتوقع خروجه من بين الموج بأية لحظة، لابد أن يأتي. أنا لا أزعم. ولكنها العاصفة التي ستلفظه هنا!
ألم أقل لك.. مثلما حدست خروجه ذاك المساء الذي أحدثك عنه إذ كان الليل قد أطبق على الأشياء وليس هناك سوى أصوات مثرثرة. هسهسة مياه. وضوضاء، اندفاعات موج مفاجئة ولهاث وموج معاكس لحيوات مبهمة تغطس أو تسبح وشياطين تتواثب وانفجارات بعيدة. يارب كيف تطارد الشياطين، هل أتابع أثره، إنه هناك. لعلك لاتصدقني، أعرف أن الأمر ليس بهذا اليسر، ولكنها العاصفة، إنني هكذا ألتقيه وأفترق عنه... لماذا تضحك؟ أنت تدرك مثلي كل ذلك ولكنك صامت، لماذا لاتفكر معي، لماذا لم تخبره عني أنني أحتاج لقاءه؟ ولكن متى تتفتت حبال سفينتنا الكازينو وننطلق سريعاً للبحث عنه، أتظن أنه رحل فعلاً صوب مياه الخليج كما أشاعوا، أم رقد في مغائر سفينة ضائعة؟ أم عمل على تضليلنا بتأخره؟ ها... ها انظر يا أخي. انظر هناك ماوراء الزجاج؟! ماهذه السمكة الكبيرة المندفعة صوبنا؟ إنها تومئ إلينا، ولكن يا إلهي. ألا ترى إنه صاحبنا نفسه! نعم هو بالذات، هاهو ينادينا، أتسمع؟ ألم أقل لك أنه آت أرأيت كيف كان يبحث، والآن أعطني زجاجة أخيرة... أسرع أرجوك... لاتلوح بيدك معترضاً. انتبه إلى صراخه هاهي عيناه اللامعتان تبرقان خلف الزجاج. ولكن لايهم.. لايهم.. إنني في عجلة من أمري... ها أنا ذاهب. ينبغي أن ألحق به قبل أن يتوارى.







رد مع اقتباس
قديم 23-05-2006, 01:16 AM   رقم المشاركة : 20
عاصفة نجد
رائدي رائع
 
الصورة الرمزية عاصفة نجد
الملف الشخصي






 
الحالة
عاصفة نجد غير متواجد حالياً

 


 

ـــــــــــــــــ إنها تقتل الطيور

لم أكن قد نمت... لم تهدأ نفسي. أخشى أن أغمض عيني في اللحظة التي تدق فيها نافذتي. أستشعر سلفاً الرعشة التي يتركها الطرق في جسدي، يرجفني الانتظار. أفتح أبواب أذني... عيناي في الظلام تتفرسان في شبح قامتها المديدة، أعلم أنها ستطرق الزجاج إلا إني أخاف أن أسمع صوت الطرق بسبب أرقي أو لشيء ما قد يحدث خلال مجيئها.. نظارتي بدت ثقيلة فوق أنفي، أتلمسها لئلا يعشى بصري في الظلام.. أمسح جبهتي خشية أن يسرقني النوم أو الدوار.. الضجة. آه. لكم طغى صوتها على صوت الطرق...
إلا أني أميز نقر أناملها الذي يشبه وقع خطوها القصير المتوتر، حين تحني قامتها مجتازة رواق عريشة الكروم وهي تخطر بفستانها الأبيض بين انعكاسات ضوء الغرفة الضعيف وأنا خلف النافذة على السرير في يقظة مستثارة مشدوداً إلى خيال قامتها في سكون الليل، أحصي خشخشة الثمار الجافة التي تسقطها الريح فوق البلاط وأصوات الحشرات الباحثة عن فرائسها.. شيء مامنعني من التحدث إليها ليلة أمس... أو ربما فاتني أن أفتح النافذة.. المسكينة عادت أيضاً واتكأت على حافة النافذة... وأصابعها المرتعشة مازالت ملطخة بدم محاولة انتحارها وهي ممسكة بخشب النافذة... قليل من ضوء الغرفة أنار عظمتي كتفيها الناحلين تحت ثنية ثوبها المطرز بعناية وجزء من شعرها المسرح المعقوص إلى الوراء بالدبابيس... كانت أظفارها تنقر كل حين الزجاج فيلتمع تحت الضوء الدم الداكن الذي مازالت تنزفه أناملها. وألفيتني أدور في الصباح منقباً آثار تجوالها في أواخر الليل. أرى انتشار عناقيد الكروم على البلاط وشظايا أحواض الزهور التي هشمتها قدماها المتعثرتان ولطخات الدم إثر لمسات أصابعها على الزجاج، كما احتضنت بإشفاق حقيبة يدها السوداء المحشوة بقناني الدواء التي وجدتها مع فساتين متسخة كانت قد حملتها ليلة ذهابها، وأغلقت الباب المفتوح الذي لم توصده وراءها دائماً. رأيت ريش الطيور التي قتلتها في أقفاصها خلال الليل الذي لوّن أغصان الأشجار وأعشاب الحديقة حتى إنها بعثرت أشياء حجرتها المنظمة والمعتنى بها... وكنت في أثناء وقوفها خلف النافذة ليلة أمس، أبتلع ريقي وأرتعد متمتماً يالشقاوتها، لقد جاءت وبين العتمة والنور تمسك بصري بالضوء المنعكس في عينيها الصفراوين الذاويتين وعنقها الطويل المتسخ الذي يختفي وراء شعرها وهو يقفز حول وجهها حين تنحني على حافة النافذة متلمسة عناقيد الكروم المتدلية لوقت قصير.. ثم وهي تنشب أظفارها الصغيرة في أعناق الطيور داخل الأقفاص من غير أن أستطيع نسيان كلماتها المكررة وهي تحذرني كل مرة: إن من يقتل الطيور يفقد بصره، إنها مخلوقات رقيقة وطيبة، هازة رأسها الصغيرة لمرات فيختلج ذهب عينيها بوثوق عجيب دفعني إلى تصديق كلامها.
نعم كنت أتابعها حين تنسحب متعثرة بأغصان الأشجار تحت الكروم التي يغمرها الظلام وقد عبثت الريح بطيات فستانها المهفهف على جسدها وتطايرت الأوراق اليابسة على رأسها الذي دعك السقيفة وبصري يلاحق خطواتها المنسحبة التي اخترقت بلاط الرواق وداست فوق أغصان الأقحوان. ثم تبينت شبحها الأبيض في أقصى الممر وهي تدفع أحواض النباتات بخطواتها المتعجلة.. لاحظتها بوضوح حين فتحت باب الخروج بانحناءة خفيفة وغابت مثل ريح هاربة إذ ذاك سارعت إلى الشرفة، تمسكت بحديدها متطلعاً إلى عتمة الطريق. لبثت برهة ثم استدرت وهبطت السلم مهرولاً إلى الصالون وأصابعي المرتجفة أدارت قرص الهاتف لمرات قبل أن يجيبني طبيب الردهة الخاصة في المصح القائم بطرف المدنية، دهش لطلبي.
-ماذا جرى في هذه الساعة من الليل؟
-دكتور. لقد عادت إلى المنزل. قبل دقائق كانت تتسكع في الحديقة وغادرت قال بعد هنيهة بهدوء:
-من تظنها في الحديقة؟
-زوجتي أيها الطبيب، ضحك ثم قال:
-لو تعلم يا أستاذ، إنها راقدة على سريرها منذ دخولها المصح وستلبث بضعة أسابيع أخرى قبل أن تتحسن جراء العملية الأخيرة. وتابع: لاتقلق. نوبات الاضطراب بدأت تخف وكل شيء سيكون على مايرام قريباً.
-ولكن أود لو تأتي غداً قبل هذا الوقت وتلقي نظرة فقط عبر النافذة.
أجل أيها الطبيب. إنها تقتل الطيور كل ليلة! تأتي في الوقت الذي اختارته نفسه كي تموت، صمت برهة ثم قال بصوت خافت:
-لا شيء.. لا شيء. بوسعك أن تنام الآن. وسمعت إغلاق سماعة الهاتف. لحظتها. قررت اللحاق بها. قطعت الرواق بحذر خشية إيقاظ أمي العجوز هتفت في سري وأنا أحث خطوي مبعداً آخر الشكوك: ها هو ذا الباب تركته مفتوحاً وراءها مثل كل مرة.. برغم أنها تسلقت السور لمرتين مؤخراً! في الطريق صفعتني برودة الليل.. بصري يجول ما بين أشجار الشوارع الصامتة، وهيئتها تراودني كل حين. فتتقيد حركتي باحتراس شديد! وتخيلتها جالسة محتمية من البرد وراء البنايات!.. الطبيب أنكر أن تكون إحدى النزيلات قد هربت من المصح، لكنني وجدت الكلب. نعم. كان يرتعش من البرد، عيناه تدوران بخوف. كأن ثمة من يطارده، كلب صغير وهزيل عيناه صفراوان حزينتان مثلها، فدهمني وعي مفاجئ بالذنب وألفيتني خائفاً عليها من البرد والجري في الظلام.. إنها ضعيفة أمام البرد، هشة.. يدها البيضاء مصفرة لفرط شحوبها وفمها الحذر مجرد خط صغير على وجهها.. سأغرق، سأغرق. تصحو صارخة مبهورة الأنفاس من نومها تتصبب عرقاً وهي تشعر أنها كانت تغرق أو تموت فجعلت تتملص من النوم وتهرب منه مواصلة التجوال في الليل بانتظار النهار حيث يتلاشى الظلام والكوابيس وأنا أحدق في عينيها الذاهلتين. البعيدتين اللتين لا تبصرانني حتى خلت أنها فقدت بصرها حقاً! فمن يصدق أن الطيور ستكون ضحيتها، بعد أن كانت تبذل كل رقتها وحنوها ورعايتها لها لقد قطعت قدماي الشوارع التي سلكناها في ما مضى، الأماكن الأكثر بعداً وبغتة تباطأ خطوي عندما خطر لذهني ورحت أهمس لنفسي كمن يفشي سراً لعلها تنتظرني في مكان ما ولكنها ربما لا تراني. أجل، إنها تقتل الطيور كل ليلة، أرى جثث مخلوقاتها الرقيقة والطيبة متناثرة كل صباح. ألم توصني كل مرة. ألم تقل، ولكن، لا فائدة، لا أريد أن أجعلها تنطق بشيء، عندما راحت أظفارها تنغرز في لحمي وتشدني بعنف صارخة أن صوتك يرعبني فأصمت مشفقاً وأنا أتطلع إلى الخطوط المبكرة على جبينها إثر التقطيب كما كنت أختلس النظر إليها وهي تجهش في البكاء طوال الليالي حين تنفرد مع حوض غسيلها تنظف فستانها كل ليلة من غير أن تفلح في إزالة بقع العصير التي لوثت ثوبها ذات مساء.. الحوض البلاستيكي الواسع ذاته الذي كانت ممددة فيه شبه ميتة ليلة انتحارها وقد مال عنقها الشاحب خارج حافته ويدها اليمنى تمسك قنينة زجاج مهشمة بأصابع مدماة بعد أن التهمت أقراصها المنومة. نعم لقد طفت في كل مكان وعدت وبصدري فوران مقلق وراحت قبضتي تطرق الباب وتنتفض. لم يجب أحد، غير أنني سمعت همس خطوات. حركة شخص ما خلف الباب يترصدني. ناديت أمي، ردد السكون صوتي، ثم عاد وقع الأقدام مجدداً. أعقبه صمت أخفضت رأسي أسفل الباب قفز قلبي وأنا ألمح كاحليها الدقيقين وذيل فستانها في الظلام. انتصبت كالمجنون، افتحي الباب. شق صوتي السكون. ردت بصوت خفيض- هل ستبدأ العراك من جديد؟!
-لا يا عزيزتي، أريدك أن تستريحي فقط. كنت أتحسس وجودها وأنا أحشر أذني في شق الباب، غمغمت بعد وهلة وسمعت انسحاب أقدامها إلى الداخل، لحظتها كدت أن أفقد عقلي، ناديتها، قرعت الجرس مرات، لم ألبث أن استدرت راكضاً تجاه باب المنزل الآخر، ظللت أقرع الجرس بتواصل فتح الباب فجأة، أطلت أمي مندهشة، اندفعت مهرولاً صوب غرفتي ووجدت نفسي أمامها تماماً إذ لم يكن بيننا سوى الرواق كانت تقف قرب نافذتي وعنقها يضيئه نور غرفتي ولشدة جزعي أزحتها إلى الخلف إذ حجبت عني رؤيتها وهي جامدة وعيناها مبيضتان من الدهشة. هنيهات. وصعقني اختفاؤها مجدداً.. هتفت باسمها ملء فمي. دنت أمي. تساءلت بخوف ولكن من تكلم؟ وقبل أن أنطق، تجدد الطرق على الزجاج فجأة، وثبت من مكاني متشبثاً بذراع أمي، ثم أعقب ذلك حركة خشخشة في زاوية العريش، ثمة خطوات ناعمة، حفيف ثوب تعبث به الريح واجفلني خبط أجنحة وزعيق طيور تتمزق كان ارتجاف الضوء الناحل يلامس جزءاً من شبحها الذي له شكل الضباب وهو يدرج باتجاه النافذة. همست لأمي باحتراس، ألا ترين أنها هناك إنها لا ترانا يا أمي! لقد ذبحت مخلوقاتها الطيبة.. رمقتني طويلاً بعينيين نصف مغمضتين وهزت رأسها مستسلمة.







رد مع اقتباس
 
إضافة رد

« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
واخير المحشش قال شيء صح .... كبير يامحشش الدووووخي :: منتدى الضحك والابتسامة والفرفشة:: 40 23-11-2010 12:06 AM
اقتل خمسة لتعيش بسعادة عبق الجنة المنتدى الإسلامي 10 18-03-2010 11:15 PM
اقتل هؤلاء لتعيش في سعااااادة أزف الرحيل المنتدى الإسلامي 6 23-10-2009 01:22 PM
يكفي .....يكفي ..خلاص بدرانو إرشيف أخبار الخفجي 12 13-06-2006 01:07 PM
بنتُ بلدي : أرجوكِ لالالا، يكفي رجاء يكفي . abw_slman :: المنتدى العام :: 9 21-08-2005 08:44 AM



الساعة الآن 04:26 PM.

كل ما يكتب فى  منتديات الرائدية  يعبر عن رأى صاحبه ،،ولا يعبر بالضرورة عن رأى المنتدى .
سفن ستارز لخدمات تصميم وتطوير واستضافة مواقع الأنترنت