ســـــراب الحـــب
كــان صديق أختها الكبرى التي تزيدها بعشر سنوات، وحده من بين كل أصدقاء أختها في الجامعة. استقطب انتباهها، سمتّه في سّرها: الموسوعة، فكل الكتب القيمة من روايات ومسرح ودراسات في الفن، كانت أختها تستعيرها منه، وهي كانت تلتهم هذه الكتب وتحس بمتعة مزدوجة، وكأن الكتب مبطّنة بروحه.
ساورتها شكوك أن أختها تحبه، ثم اتسعت شكوكها لتشمل كل صديقات أختها المفتونات بعلي، علي المثقف، والموهوب في التمثيل، وعازف الأورغ والوسيم تلك الوسامة التي تجعل أية أنثى تدرك من اللحظة الأولى أنها لن تصمد أمام زخم رجولته.
تزوجت أختها الكبرى من زميل لها بعد قصة حب ليس فيها ما يدهش. ارتاحت في سرها كون أختها لم تتزوج علياً، لكن فرحتها لم تطل، إذ سمعت أنه تزوج.
لم تغرق طويلاً في الحزن، ربما لأنها كانت ترفض أن تعترف بينها وبين نفسها أنها تحبه، أو لأن حدسها دلّها بطريقة ما أن خيوط حياته لن تتشابك مع خيوط حياتها، انخرطت في الحياة الجامعية مستمتعة بفيض المعجبين، وسافر علي إلى فرنسا مع زوجته.
من وقت لآخر كان يداهمها إحساس بالفراغ العميق، يبدو لها كهوة واسعة وفي نهايتها يرتسم وجه علي فيشرخها الحنين لبرهة. ثم يلتحم هذا الشرخ كيفما اتفق لتستأنف دوامة الحياة. وفي لحظة مباغتة. وهي في قمة نشوتها في نظرات المعجبين، وعبارات الإطراء. كانت صورة علي تبزغ لتحرق كل شيء وهو يبتسم ابتسامته العذبة الساخرة بعض الشيء. كأنه يقول لها: أنت تحبينني وكلهم سراب.
لم تكن تقيم لتلك الومضات أهمية، بل لم تعرف كيف ستقيّمها. كانت تفسر اضطراب روحها كلما تذكرته، بأنه إعجاب بشخصه. لأنه الشاب الأكثر تميزاً من بين كل الشبان الذين التقتهم. وفي قمة حججها المنطقية كانت صورة علي ترتسم أمامها طالعة من أعماق روحها، لتهزمها وتجبرها على الاعتراف أن كل ما تدعيه كذبّ، وأن عاطفتها تجاهه تملك عليها كيانها كله.
بعد تخرجها من الجامعة، تزوجت الشاب الذي يتمتع بصفات الزوج. سامر لا يعيبه شيء. عريس لقطة كما يقولون من حيث الغنى والمستوى الاجتماعي والمهنة، اعتقدت أنها تحبه. لولا بعض أحلامها التي كانت تصفعها وهي تصورها بأوضاع عاطفية ولقطات احتضان رائعة مع علي. كانت تستيقظ مذعورة على مشاعر ذنب تبللها. وكانت تحاول دفن تلك المشاعر في أعماق نسيانها كوسيلة للتخلص منها، في حملها الأول وقبل شهر من موعد ولادتها التقته في المطار. كان زوجها قد خطط لها أن تلد في أمريكا عند أخته، كي يحمل ولي العهد الجنسية الأمريكية، ورغم تململها وخشيتها من السفر وهي حامل، إلا أن زوجها أقنعها أن من واجبهما أن يضمنا منذ الآن مستقبل ذلك الكائن الذي لم يرَ النور بعد. كانت تفكر بسخف هذه الضمانات.
بعد عشر سنوات من لقائها الأخير مع علي في عرس أختها، التقت علياً، هوى قلبها وهي تراه يحمل حقيبة السامسونايت بيد، ومعطفه باليد الأخرى، كان منهمكاً في الحديث مع أجانب، أحست بامتعاض شديد كونه سيراها بعد تلك السنوات حاملاً، وأدهشها أن يخفق قلبها بتلك القوة عندما رأته، مستخفاً بنبض ذلك الذي يعيش في أحشائها، اعترفت لنفسها أن الزمن لم يترك بصماته عليه، إنه لا يزال فاتناً بحيويته، وتلك الجاذبية الغامضة التي تسميها الرجولة، ترددت هل تكلمه أم تتجنبه؟ لكن الحنين هزمها، وقفت على بعد خطوات منه، للوهلة الأولى خرج صوتها مرتعشاً مشققاً وهي تلفظ اسمه، وكررت المحاولة ونادته بعد أن سخرت من مشاعر الإثم التي تذكرها أنها حامل من رجل يفترض أن يستعمر خلاياها العصبية، التفت ليتأملها بعينيه المتألقتين، قلبها بعفوية وهو يتأمل بطنها مبتسماً، من المصادفة أنهما سيسافران على الطائرة نفسها، وخلال دقائق كانا قد لخصا عشر سنوات فصلتهما، أخبرها أنه أب لطفلين، وأنه يعمل كوسيط تجاري للوحات الفنية وللتحف الأثرية.
قدمته لزوجها الذي لحقها بعد أن اطمأن على حقائبها وأوراق سفرها، قالت: علي، صديق أختي الهام، التفتت إلى علي وقالت: زوجي سامر، تصافح الرجلان بود صادق، علق علي: أنت محظوظ، التقطت جوهرة حقيقية.
جلسوا في كافتيريا المطار، كانت بين رجلين أحدهما يمثل الحلم، والآخر الحقيقة، واحد تعيش معه، تعلق مصيرها بمصيره، والآخر يمثل ذلك الانعتاق الحر، حيث لا توجد خطط للمستقبل، ولا حقوق ولا واجبات، ولا مسؤوليات، أحست أنها بائسة، وأن بطنها متورم بورم يضغط على روحها حتى يكاد يزهقها، كانت تنقل نظرتها بين وجهي الرجلين وتتساءل أيهما أكثر تواجداً في حياتها، الشخص الذي تعيش معه الدقائق والأيام، أم الرجل الذي تفكر به، ويطلع لها في أحلامها؟
لم تعرف أنها شردت إلا حين أعادها حديثهما إلى أرض الواقع، كانا يتواعدان على لقاءات في المستقبل القريب، ويخططان لمشاريع مشتركة، خفق قلبها، هل سيدخل علي حياتها مجدداً؟
ترى ألم يشعر بالشعلة الخفية في روحها يوم كانت في الخامسة عشرة وهو في الخامسة والعشرين؟ ألم يلاحظ أنها في عرس أختها لم ترفع عينها عنه بينما كل الأنظار متعلقة بالعروسين؟
قبلها زوجها وهو يتمنى لها رحلة موفقة، تركها برعاية علي، وحين مشت بخطواتها المتثاقلة بجانبه. تمنت بكل خلية في جسدها لو كانت زوجته، لدرجة آمنت أنها ستكون أسعد امرأة في العالم، لأول مرة تحس بدفق حنانه المختزن منذ سنوات، يخصها به، كانا وجودين كثيفين متكهربين بالجاذبية اتجاه بعضهما. وساعدهما الطيران فوق الغيم على التحرر من ثقل الأفكار الأرضية المفروضة سلفاً، فكرت أن لا شيء يحصن المرأة ضد الحب حين تمسها عصاه السحرية، لا زواج ولا حمل ولا مستقبل، أنها تعي الآن رغماً عنها، كيف يكهربها الحب، وتعرف لحسن الحظ أو لسوئه إنه يعاني مثلها، وأن كيانه اضطرب منذ التقيا في المطار.
كانت رحلة طويلة، تمنت لو تطول العمر كله، ونسيت أنها ستلد بعد أيام وستغدو أماً، وكانت تغمض عينيها لتحلم به يحتضنها برقة، وحين تفتح عينيها تجده يرنو إلى وجهها بشغف لا يعمل على إخفائه، كان حديثهما الهامس يغيبهما عن هدير الطائرة، سألها فجأة: أتحبين زوجك؟
قالت: إنه لطيف.
قال: لم تجيبي عن السؤال؟
قالت بخبث: بل أجبت.
سألته بدورها: وأنت، ألست سعيداً مع زوجتك؟
قال: لا، الزواج مؤسسة فاشلة مائة في المائة.
-لماذا تزوجت إذاً؟
-ظروف.
حطت الطائرة في مطار الواقع، لكن هذا اللقاء ترك شقوقاً في قناع الواقع، وأحدث شروخاً في حياتهما ليس من السهل ردمها.
زارها في المستشفى وقدم هدية لها وليس للمولود، زيارة قصيرة خاطفة، متعللاً بأشغال كثيرة، لكنها لاحظت كيف تحاشى أن تلتقي عيونهما. لم تبق الأمومة مكاناً لأحلام الحب، تحولت إلى ظل للصغير أو مكمل له، ولكنها لاحظت كيف صار هاتف زوجها اليومي مصدراً لكآبة عميقة تغرق روحها، حتى أن سؤالاً تفجر من أعماق كآبتها ذات يوم: من يكون هذا الرجل؟ فتردد لنفسها مراراً محاولة تجذير حقيقة لا مفر منها: إنه أبو طفلي.
استأنفت حياتها الأسرية مع زوجها وطفلها بسعادة متألقة ظاهرياً، كانت تعطي نفسها لأسرتها لدرجة تكاد تقتنع هي نفسها بأنها الإنسانة الأكثر انسجاماً مع ذاتها، كانت مقتنعة بأن كل شيء يسير على ما يرام. لكن ما أن يأتي الليل حتى ينقض عليها شعور قاس بالشك بكل لحظة عاشتها في النهار، إن روحها تحوم هناك حوله، تشتاق إليه شوقاً متعاظماً يفضحها ليلة بعد ليلة، حاولت أن تصادق نفسها وحدثت روحها بلطف بأن كل الزيجات تتعرض لمطبات عاطفية وبأن الإرادة والإحساس بالمسؤولية يتغلبان أخيراً على هذه العواطف التي لو ترك لها العنان لدمرت معظم الأسر.
توطدت الصداقة بين زوجها وعلي، صارت تلتقيه دوماً وتحدثه. وتمكنا بمساعدة مؤسسة الزواج التي يرزحان تحتها من لجم عواطفهما. وأدراج مشاعرهما الملتبسة في خانة الصداقة، استمعت بتعاطف شديد لزوجة علي تشكو زوجها وتغيبه الطويل عن البيت، وبأنها اكتشفت خياناته لها واضطرت للسكوت حفاظاً على استقرار أسرتها. أحست بالغيرة والغضب وهي تسمع عن مغامرات علي النسائية، لكنها سرعان ما أدركت أنها لا تملك الحق بالغيرة.
في حملها الثاني، حدث الطلاق بين علي وزوجته، بذلت جهوداً صادقة لإعادة شمل الأسرة الصديقة. توارت مشاعرها كعاشقة مزمنة، وتمنت صادقة لو يعود علي إلى زوجته، حدثته مراراً عن أطفاله والألم الذي يسببه انفصاله عن أمهم، كانت صادقة متحمسة لكنه حسم النقاش قائلاً بأنه لم يخلق للزواج وتفاهاته.
عاد الوله القديم يستيقظ، إنه الآن حر، كانت تغوص في ندم قاس بعد سلسلة أحلام يقظة تبدأ بوفاة زوجها إثر نوبة قلبية أو حادث سيارة لتنتهي بزواجها من علي، كانت تشعر أن شوقها إليه كرجل كبتت حبه سنوات طويلة، يفيض عنها ولا تملك تجاهه حيلة.
بعد أشهر من طلاقه صدمها خبر زواجه، جنت من الغضب والغيرة، وقنعت عواطفها بأنها متألمة من أجل أسرته، تمنت لو تطعنه وتقول: لماذا تزوجت ثانية؟ ألم تقل أنك لم تخلق لمؤسسة الزواج؟ وأنا كيف..؟ عندها تحس بطعنة تخترق قلبها وهي تردد. أنا، من أكون أنا، زوجة رجل آخر وأم لطفلين.
تعرفت بزوجته الجديدة، ممثلة ناشئة تبدو مبهورة بعلي وهو هل يحبها؟ لم تستطع الاستغراق في هذه التساؤلات، لأن حياتها تعرضت لهزة قوية يوم اكتشفت أن زوجها على علاقة مع سكرتيرته، وبأنه متزوج منها في السر، أقامت الدنيا ولم تقعدها، تشبثت بالطلاق، رغم أن زوجها سارع لتطليق السكرتيرة. حاول علي أن يثنيها عن إصرارها على الطلاق، لكن محاولاته فشلت، كان الألم يشرخها، وهي تستعيد سنوات الإخلاص للزوج وتفانيها في حب أولادها. لم يخطر لها أن تحاسب نفسها على أحلامها السرية مع علي، هل نحاكم الإنسان على أحلامه؟ هذا ما كانت تقوله. وهل الفكر خيانة إن لم يتوج بالفعل؟
لم تعد تجد لذة أو سعادة بالتفكير باحتمال أن يتفجر الحب بينها وبين علي. نسيت أنها تمنته طويلاً. وأن العائق زال بعد طلاقها. لم تعد ترغب أن يتحقق حلمها. إن الواقع هو الذي يجرح وليس الخيال. والرجل الذي عاشت معه يوماً بعد يوم. وأنجبت منه، وخططت معه للمستقبل هو الذي أهانها، وطعنها في صميم كبريائها حين تزوج سراً من امرأة أخرى.
أما الآخر الذي ظل شوقاً وحلماً أشبه بفكرة ترفرف حول رأسها، فمديته لا تجرح. لساعات طويلة حكت لعلي مدى ألمها وعمق جرحها، عجباً كيف صار صديقاً ترتاح بالجلوس إليه؟ أين ومضات الحب المكبوتة؟ وهو بدوره كان يحاول التخفيف عنها، مؤكداً لها أن زوجها يحبها، وأنه وقع في فخ امرأة لعوب تطمع بثروته.
بعد أشهر من طلاقها، طلق علي زوجته، ولم تسأله عن السبب، كانت تتوقع تلك النتيجة، فعلي لم يخلق للزواج، في حياته حب واحد: الفن.
بين طفلها وطفلتها وبدون زوج، فكرت به كحبيب، لم يعد هناك أي عائق يمنعها من إفلات مشاعرها المحبوسة. لكن ما بها مشاعرها لا تلتهب؟ لماذا لا تشعل فتيل الحب المكبوت؟ هي نفسها لا تعرف السبب. إنها تستطيع ببساطة أن تتصل به وتطلب إليه أن يصحبها في نزهة بسيارته. وأن تدس في المسجلة شريط الكاسيت الذي عمره أكثر من عشرين عاماً، والذي قدمه لها في عيد ميلادها، سيفهم من دون أن تضطر لقول أية كلمة، إنها تحتفظ بهذا الشريط، وستترك لليل مهمة الإفصاح عن مشاعرها. لم لا تفعل؟ السؤال يتحول لسلاح ذي حدين، لِمَ لا يفعل هو؟ ألا يرى أنها غدت حرة؟
عذبها السؤال ذو الحدين، تاه ذهنها في احتمالات كثيرة، بعد أيام تلقت منه مكالمة، طلب إليها أن يلتقيها لأمر هام، خفق قلبها، فكرت أنه سيصرح لها بحبه.. أحست أنها في فخ.. ترى ماذا ستقول؟ ألم تكن تنتظر تلك اللحظة وتحلم بها. ألم تحلم مراراً أن زوجها سيموت مفسحاً لها طريق الحب. ترى لماذا تتردد؟
وجدت نفسها تنتفض وتقول: لا، مرت أمامها سنوات حياتها، الأفضل أن يبقى علي بموقع الحلم، إنها لا تستطيع أن تكون له، ثمة مواقع لا تتبينها، ليست متعلقة تماماً بزوجها ولا طفليها، وليست متعلقة أيضاً بأطفاله.. فجأة انقشعت أمامها الحقيقة بسطوع لا يقبل الشك، إنها لا تريد خسارته كصديق، لقد كان صديقاً رائعاً قبل زواجها وبعده، كانت تتمنى لو تزوجته، لو بدأت حياتها معه، أما الآن فالوضع مختلف. لقد تحررت من خداع الحاجة إلى الحب. وجرحها لم يشف بعد، حياتها تقلقلت وأحست بافتقاد للرجل الذي عاشت معه سنوات، خططا معاً لمستقبلهما ومستقبل طفليهما، ستقول هذا الكلام لعلي بعزة نفس وسترجوه أن يقدر موقفها وألا يزعل منها، وستتمنى له السعادة التي يستحقها.
في موعدها معه كان الحزن يعتصر أحشاءها، وجدت نفسها تفكر بزوجته بحنان. إنها امرأة ممتازة ومكابرة، قررت أن تفاتحه بأمر رجوعه إلى زوجته من أجل أولاده على الأقل.
استقبلها بود شديد كعادته، جلست مقابله مستعدة لصد كلمات الحب، قال لها بعد أن أخذ شهيقاً عميقاً: من دون لف ودوران زوجك يحبك ويحتاجك، يجب أن تعيدي النظر..
انفجرت ضاحكة، لم يتوقع أن تضحك هكذا، وأمام نظرة الدهشة في عينيه التي تطالب بتفسير لضحكتها قالت أخيراً وسط دموعها:
-ياه كم أنت صديق رائع. وكم تحتاج الصداقة إلى صيانة.
رشفا القهوة دون أن يتبادلا الكلام، إنما شعرا معاً أن القلب يتحدث إلى القلب، والروح تتحدث للروح، كانا يفكران معاً ودون أن يعرف أي منهما أن الآخر يماثله في فكرته العميقة. بأن الحنان العميق بينهما يفوق تلك النشوة المحتملة التي ستتولد فيما لو تزوجا.