المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
فكان ينشئ أصحابه بلمسات التوحيد على قلوبهم،
دعوة عامة في المحافل، يوم يرد صلى الله عليه وسلم سوق عكاظ ،
ويجتاز بـذي المجنة ، وبـذي المجاز ،
فيتفصح صلى الله عليه وسلم بكلمات التوحيد،
ويوم يقف على الصفا ويقول: {يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله }
ولنكتفي بأحاديث وقف صلى الله عليه وسلم فيها معلماً وداعية،
وناصحاً لأصحابه في التوحيد.
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس
أولها: حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، ويا لـابن عباس ،
ويا لثمرة الجهد المتواصل منه صلى الله عليه وسلم
في تربية ابن عباس ، يوم أن فقهه في دين الله،
فأخرجه مشكاة تبعث هداها وسناها ونورها،
ركب ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو رديفه على حمار، والرسول صلى الله عليه وسلم يركب الحمار،
لكنه ركب كواكب النصر والفلاح والمجد، فيختلسها صلى الله عليه وسلم فرصة،
ويقول: {يا غلام! فيقول ابن عباس : لبيك وسعديك يا رسول الله، فيقول:
إني أعلمك كلمات -لكنها كلمات نور وهداية وكلمات بشر وخير وسعادة
في الدنيا والآخرة، ليست طويلة ولكنها عميقة أصيلة-
احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك
تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة
إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله
واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء
لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك
ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك،
رفعت الأقلام وجفت الصحف } رواه الترمذي وأحمد
وزاد {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً }
ورواه أيضاً النسائي ، ورواه ابن ماجة بلفظ ...
{يا ابن عباس ! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك }
من هذا المنطلق ومن هذا الحديث، نأخذ وصية في التوحيد
ونعرضه على الذين يقولون: لا حاجة الآن أن نتدارس التوحيد
فلقد وعى الناس التوحيد، فما هناك حاجة إلى أن يعرفوا مسائل التوحيد
ثكلتك أمك يا بعير! وهل المسألة إلا مسألة توحيد
وهل الدعوة إلا دعوة عقيدة، وهل الرسالة إلا رسالة لا إله إلا الله
فأين أنت من هذا؟!
إن الرسول عليه الصلاة والسلام -كما قلنا- كان يعرف استعدادات الصحابة
فكان يضع كل إنسان في موضعه، لا يضع الأديب في موضع المفتيولا المفتي في موضع القائد، ولا القائد في موضع الزاهد
ولا الزاهد في موضع الجندي، بل يضع كل واحد في مكانه الذي أهله الله له.
أرأيتم أين وضع خالداً يوم أن كان سيفاً من سيوف الله وضعه على الجبهات
يكسر رءوس الملاحدة بسيف الله، وأتى بـحسان يوم كان أديباً ووضعه عند المنبر؛
ليرسل القوافي الفصيحة على المعاندين ليرغم أنوفهم في التراب
وأتى بـزيد بن ثابت يوم كان فرضياً يبرم مسائل الفرائض
فأعطاه التقسيم والتوزيع والميراث، وأتى بـمعاذ يوم كان عالماً في الحلال
والحرام، فأعطاه موضوع الفقه، هكذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم.
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل
رضي الله عن معاذ بن جبل وأرضاه، الشاب الذي وعى التوحيد،
وأرسل صوته بالتوحيد إلى الجند في جنوب اليمن ،
وإلى عسقلان في جنوب فلسطين
ليكون شهيداً هناك، فسبحان الله!
أي أمة كنا يوم كانت اهتماماتنا بلا إله إلا الله؟!
أي أمة كنا يوم كانت رسالتنا رفع لا إله إلا الله؟!
إن الذين يعيشون على مطامع الشهوات والبطون
لا يهتمون بلا إله إلا الله في أربع وعشرين ساعة، بل في الأسبوع
بل في السنة، إنهم يخلفون أثرهم، وانتسابهم إلى معاذ رضي الله عنه وأرضاه
بمعابد الإفرنج كـان أذاننـا قبل الكتائب يفتح الأمصـارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
أرواحنا يا رب فـوق أكفنـا نرجو ثوابك مغنماً وجـوارا
{قال صلى الله عليه وسلم لـمعاذ ، وهو راكب معه على حمار:
يا معاذ ! قال: لبيك وسعديك يا رسول الله
قال: أتدري ما حق الله على العباد؟
فقال -وانظر إلى الأدب والحياء والتوقير والإجلال-: الله ورسوله أعلم.
قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً
ثم قال: أتدري يا معاذ ما حق العباد على الله؟
قال: الله ورسوله أعلم
قال: حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً }
متفق عليه، ورواه أحمد في المسند بلفظ آخر.
وكان هذا الحديث وصية ونصيحة من نصائح التوحيد التي أرسلها
صلى الله عليه وسلم لـمعاذ ، أتدرون متى بلغها الناصح الأمين معاذ ؟
على فراش الموت، يوم أن حضرته الوفاة وهو في عسقلان يرفع
لا إله إلا الله في الشام ، ويطارد كلاب البشرية الذين يحاربون لا إله إلا الله
فاندلعت في كفه بثرة من طاعون، ولكنه يريد الموت، يريد لقاء الله والناس
يريدون الحياة، فقالوا: شافاك الله، عافاك الله، لا ضير عليك
فيقول: [[لا والله لقد أحببت لقاء الله، والله لو كانت روحي في كفي لأطلقتها
اللهم إنك تكثر القليل، وتكبر الصغير، اللهم فكبرها ونمها وكثرها ]]
يعني: البثرة، فاندفعت في جسمه، وأتاه اليقين على فراش الموت
وحق الحق لأهل الحق، وبقي اليقين لأهل اليقين، وخسئ الذين غدروا
مع لا إله إلا الله، وتُبِّر الذين فجروا مع عقيدة لا إله إلا الله
فماذا قال في سكرات الموت؟ هل تأسف على منصبه الذي كان يشغله؟!
هل بكى على ماله وولده؟! هل ندم على قصوره؟!
لا والله، فما كان عنده من الفلل والقصور من شيء
إنما هي قصور من دين وعمل صالح ونوافل وعبادة
وفلل من يقين وخير وحسن خلق، وأشجار من معاملة طيبة ودعوة ناجحة
بكى وهو في فراش الموت، وقال: [[مرحباً بالموت حبيباً جاء على فاقة،
لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار،
ولا لجري الأنهار، ولا لرفع القصور،ولا لعمارة الدور، ولكنني كنت أحب الحياة -
فاسمعوا يا أبناء الحياة- لأعفر وجهي ساجداً لك في الأرض،
ولأزاحم العلماء بالركب في حلق الذكر، ولأدعوك وأتملقك في الليل الداجي ]].
فسلام عليك يا معاذ بن جبل يوم أسلمت، وسلام عليك يوم دعوت إلى الله،
وسلام عليك يوم نصحت ويوم مت ويوم تبعث حياً.
وصية النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي
في الترمذي بسند حسن:
{ أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -والأعراب أهل
مصائب في حياته صلى الله عليه وسلم، الأسئلة الثقيلة، الجفاء،
تعكير جو الهدوء والسكينة في المسجد، الضجة والصجة،
تضييع الوقت والمحاضرات والكلمات على رسول الله صلى الله عليه وسلم-
فيأتي هذا الأعرابي ويتربص بالمسجد ويدخل،
ويتخطى الصفوف ويقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام،
ما ظنكم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث إلى جماهير تريد أن
ترفع لا إله إلا الله، وتنصر لا إله إلا الله، فيقاطعه هذا الأعرابي.
وفي الأخير يقول الأعرابي لما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم
بين الناس كما رواه أهل الصحيحين عن أنس ؛
يقول: أين ابن عبد المطلب -ما كأنه يعرف العلم، وما كأنه يعرف البشير النذير،
فيقول الناس: ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق، الأمهق: المشوب بحمرة،
المرتفق: المتكئ، فيتقدم إليه-
فيقول: يا بن عبد المطلب -لا يقول: يا رسول الله:
لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور:63] -
فيقول: قد أجبتك، فقال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة -
انتبه إن سؤالي صعب، ومشكل، إنه مدهش محير فأجبني-
قال: سل ما بدا لك، فيقول هذا الأعرابي: من رفع السماء؟ -
إن أكبر معجزة عند الأعراب رفع السماء، وهي معجزة حقاً-
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله. -وهم يعرفون أنه الله-
قال: من بسط الأرض؟ قال: الله. قال: من نصب الجبال؟ قال: الله.
قال: أسألك بمن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أرسلك إلينا رسولاً؟
قال: اللهم نعم. واحمر وجهه صلى الله عليه وسلم -
إنه سؤال عظيم، داهية من الدواهي أن يسأل عن التوحيد-
فيقول: أسألك بمن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أمرك
أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟
قال: اللهم نعم. ثم أخذ يسأله عن أركان الإسلام فلما انتهى ولى وقال:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص }.
فقال صلى الله عليه وسلم: {أفلح الرجل، ودخل الجنة إن صدق }
فإذا بالتوحيد يعرض في خمس دقائق، لا عرض المنطق
ولا الفلسفة وعلم الكلام الذين تبر الله سعيهم
أتوا يعرضون العقيدة في طلاسم، فأفسدوا عقيدة الناس في قلوب الناس
العقيدة تعرض كهذا العرض، لا أحاجي، لا ألغاز ،،
ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
إن الله لا يغفل عن المأمون الخليفة العباسي في إدخاله علم المنطق
على المسلمين، إي والله، لن يغفل الله عنه، ولن يدعه -إن شاء الله-
إلا بحساب، كيف يدخل علماً ماجناً خسيساً رخيصاً عند من أتوا بالوحي
صافياً منقىً من السماء؟!
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
التوحيد وحصين بن عبيد
عند أبي داود وفي مسند أحمد والترمذي بأسانيد جيدة
أن حصين بن عبيد أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
والرسول صلى الله عليه وسلم متوقع أن الرجل له آلهة كثيرة،
لأن بعضهم له عشرون وثلاثون من الآلهة، حجارة وخشباً وطلاسم واعتقادات-
فيقول عليه الصلاة والسلام: يا حصين بن عبيد ! كم تعبد؟
قال: سبعة؟! قال: سبعة؟! قال: نعم. قال: أين هم؟
قال: ستة في الأرض، وواحدٌ في السماء..
قال عليه الصلاة السلام: فمن لرغبك ولرهبك؟ -إذا ضاقت بك الضوائق،
إذا نزلت بك الكوارث، واحتدمت عليك الأمور-
قال: الذي في السماء، فقال عليه الصلاة والسلام:
فاترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء }:
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66].
وصيته لأبي ذر بالتوحيد
وعند ابن حبان عن أبي ذر قال:
{قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشرك بالله، وإن قتلت، وحرقت }
فكل شيء إلا الشرك بالله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:116]
هذه قطوف من وصاياه صلى الله عليه وسلم في التوحيد،
فيها اليسر والأصالة والعمق والوضوح كل الوضوح، توحيد خالص،
كل كائنة تعرف أن لا إله إلا الله، اللمعة من الضوء، القطرة من الماء،
الورقة من الشجر، البسمة، اللفظة، كل كائن:
وفي كل شيء لـه آيـة تدل علـى أنـه الواحـد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحـده الجاحـد