طمحت نفس سيبويه إلى الشخوص إلى بغداد أملاً في الحظوة عند الخلفاء والأمراء ، فارتحل إليها ومايدري ماخبّأه الغيبُ له ، فرُبَّ ساعٍ لحتفه، وحق ماقاله خليفةُ بن بزار الجاهلي:
( والمرء قد يرجو الرجا ..... مؤمّلا والموت دونه )
ونزل ضيفاً عند يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد ، فاعتزم يحيى الجمعَ بينه وبين الكسائي بعد أن عرف الرشيد جلية الأمر وعين لذلك يوماً في دار الرشيد ، فحضر سيبويه أولا وتلاقى مع الفراء والأحمر تلميذيْ الكسائي فسـألاه وخطّآه في الإجابة وأغلظا له في القول ، ويطول بنا الكلام ونحرج عن المقصود لو عرضنا لهذه الأسئلة وماأجيب به عنها وكل ذلك معروف في كتب النحو المبسوطة ، فقال لهما: لستُ أكلمكما حتى يحضر صاحبكما، يعني شيخهما الكسائي، جاء الكسائي وغصّت الدار بالحضور على مشهد من يحيى وابنه جعفر ثم بدأ الكسائي الحديث وقال لسيبويه : تسألني أو أسألك ؟ فقال سيبويه: سل أنت .
فقال له : هل يقال كنتُ أظنّ أن العقربَ أشدّ لسعةً من الزنبور فإذا هو هي ، أو يقال مع ذلك فإذا هو إياها , فقال سيبويه : ( فإذا هو هي) ولايجوز النصب ، فسأله عن أمثال ذلك نحو: ( خرجت فإذا عبدالله القائمُ أو القائمَ ) ، فقال سيبويه : كله بالرفع , فقال الكسائي العرب ترفع ذلك وتنصبه ) ، واحتدم الخلاف بينهما طويلا ، فقال يحيى : قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديْكما فمن يحكُم بينكما ؟ فقال الكسائي : هؤلاء العربُ ببابك وفدتْ عليك من كلّ صُقع وقد قنع بهم أهلُ المصريْن ، يحضرون ويسألون ، فقال يحيى قد أنصفت ، واستدعاهم فتابعوا الكسائي ، فأقبل الكسائي على سيبويه وقال له : قد تسمع أيها الرجل ، قاستكان سيبويه عند ذلك وانقبض خاطره ، فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قدم إليك راغباً فإن أردت أن لاتردّه خائباً ، فرقّ له يحيى وجبر كسره، فخرج من بغداد وتوجّه تلقاء فارس يتوارى من الناس من سوء مالحقه ، ولم يقدر أن يعود إلى البصرة ، وقد كان إمامها غير منازع ، فمات غمّاً بفارس في ريعان شبابه ، وقال قرب احتضاره متمثلا:
يؤمّل دنيا ليبقى بها ... فمات المؤمّل قبل الأمل
حثيثاً يُروِّي أصول النخيل ... فعاش الفسيلُ ومات الرجل
وقد رُويتْ هذه المناظرة على صور مختلفة ، ويرى جمهرة العلماء أن إصبع السياسة لعبتْ دوراً كبيراً في هذه الحادثة الخطيرة ، لأنها حكم بين البلديْن لا الرجليْن ، وماوافقت العرب الكسائي إلا لعلمهم أنه ذو حظوة عند الرشيد وحاشيته ، وهم على يقين من أنّ الحق مع سيبويه، على أنه روي أنهم قالوا : القولُ قولُ الكسائي بإيعاز رجال الدولة ولم ينطقوا بالنصب إذ لاتطاوعهم ألسنتهم، ولذا طلب سيبويه أمرهم بالنطق بها لكنه لم يستمع له .
المصدر : كتاب نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة .
تأليف : الشيخ محمد الطنطاوي .