لا يختلف اثنان على أن أسطورة الملاكمة في العالم هو محمد علي كلاي وهذا شيء بسيط عن حياته وعن إنجازاته.
محمد علي ملاكم أمريكي ولد باسم (كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور) (بالإنجليزية: Cassius Marcellus Clay Jr) في 17 يناير 1942 لإسرة مسيحية في مدينة لويفيل بولاية كنتاكي، فاز ببطولة العالم للوزن الثقيل ثلاث مرات على مدى عشرين عامافي 1964 و1974 و1978، وفي عام 1999 توج محمد علي كلاي بلقب "رياضي القرن".
في إحدى المناسبات التي تحدث فيها محمد علي بهدوء غير مألوف عنه قال ببرود شديد غير مألوف وصوت خفيض : "عندما أعتزل من المرجح أن تموت الملاكمة". ومع أن رياضة الملاكمة لا تزال على قيد الحياة بعد ربع قرن من إطلاقه ذلك التصريح فإنها عاشت منذ مغادرته المسرح مهزلة تلو الأخرى وفضيحة بعد فضيحة؟ وربما كان محمد علي يتحمل بعض المسؤولية في ذلك لا للانتقاص من أهمية هذا الرياضي , وإنما أطلقه في حقيقة الأمر لكي أثبت مدى عبقريته وأسجل ضخامة مساهمته الفريدة في هذا الميدان الرياضي. ما أريد أن أقوله بمعنى آخر أن حمد علي كان يجسد فن الملاكمة بأجمل صورها وأروع معانيها وأدق مهاراتها, كما أنه وضعها بأدائه الفريد في ذروة تضاءلت معها كل المراحل السابقة واللاحقة. فقد أغنى هذه الرياضة وحولها إلى إبداع فني ورفع مستواها إلى حد أصبح من المستحيل على أحد غيره أن يرقى إليه. صار الرجل رمزاً للملاكمة ومقياساً لمنجزاتها ومعياراً للملاكمين في العالم أجمع من هواة ومحترفين منذ بروز نجمه وحتى اليوم.
قبل فترة , احتفلت الملاكمة ووسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفزيون بمناسبة مرور خمس وعشرين سنة على المباراة التي جرت بين محمد علي وجورج فورمان في مدينة كنشاسا عاصمة زائير. وبلغت كثافة تلك الاحتفالات حداً دفع كل من أسعفه الحظ بمشاهدة المباراة إلى الكتابة عن المناسبة التعليق عليها , بصورة لم يحظ بها أي حدث رياضي في القرن العشرين. ومجرد الاحتفال بذكرى مرور خمسة وعشرين عاماً على المباراة وما أبرزه الاحتفال من مشاعر الحنين إلى تلك الأيام هو خير شهادة على ما يحظى به الرجل من محبة واحترام وتقدير بين آلاف الملايين من البشر الذين عرفوه وتابعوه أو لم يشأ لهم قدرهم بذلك.
- داخل الحلبة وخارجها:-
مع إطلالة الألفية الميلادية الثالثة تهافتت الصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون والمؤسسات الرسمية والشعبية والأكاديمية في كل ميادين الحياة على اختيار شخصيات القرن في المجالات المختلفة.
وقد جاءت الاحتفالات بذكرى مرور ربع قرن على مباراة محمد علي وفورمان للتأكيد على رأي الكثيرين بأن محمد علي هو أفضل شخصية رياضية في القرن العشرين.
بل وذهب كثيرون آخرون من كبار المعلقين مثل سايمون جرينبيرج ومايكل هيرد وألن هارباد وتوم أونيانجو وهيو ماكفاني وديفيد ريمنك وعشرات وغيرهم إلى اعتباره "أعظم" أو "أفضل" رياضي في تاريخ البشرية.
ولم يكن إصدار هذا الحكم اعتباطياً أو عشوائياً , لأن أولئك المعلقين من النخبة وأصدروا حكمهم بعد معايشة متواصلة للبطل العملاق ومتابعة مستمرة لمباريته ودقائق حياته داخل الحلبة وخارجها.
ذلك أن حياة محمد علي خارج الحلبة كانت ذات أثر عميق جداً في حياته الرياضية إذا اختلطت فيها السياسية والدين (باعتناقه الإسلام) بالعنصرية والحقد من خصومة والجرأة والشجاعة والثبات من الرجل الذي وجد نفسه في مواجهة معركة شرسة شنتها عليه السلطات الأميركية الرسمية ودوائر رياضة الملاكمة بعدما أعلن إسلامه ورفضه الالتحاق بالجيش الأميركي للقتال في فيتنام.
الحياة الغنية الزاخرة التي عاشها محمد علي بدأت مع نزوله إلى الحلبة لأول مرة ضد سوني ليستون وفوزه عليه ما أضاء آفاق الرياضة والسياسة في الولايات المتحدة في الستينات من القرن العشرين؟ كان آنذاك في الثانية والعشرين من عمره. وكان باعترافه واعتراف الجميع "في ذروة الوسامة والثقة".
إن الزمن يطير بسرعة كبيرة. وهو ينصح الجميع في معرض تعليقه على معاناته الراهنة نتيجة إصابته بمرض الرعاش الشديد (باركنسون) بقوله : "إنني أعرف لماذا أصابني هذا المرض. إذ أن الله سبحانه تعالى يريد أن يُريني أنني لست سوى إنسان عادي مثل باقي البشر مهما بلغ نجاحي ومهما أنجزت. وفي هذا عظة لي وللآخرين وأيضاً الذين يجب عليهم أن يتعظوا".
ومنذ بروز نجمه حتى اليوم صارت تلك الحياة مادة غنية للعديد من الكتب والأفلام والمقالات والبرامج الوثائقية التي تتقصّى جميعها بدرجات متفاوته ومن روايات متعددة فصول رحلته في هذه الدنيا من نعومة أظفاره حتى الآن, مروراً بأحداث الستينات والسبعينات. حين ظهر على ساحة بطولة العالم للوزن الثقيل فلويد باترسون الذي واجه تحدياً من ملاكم أسود آخر أراد انتزاع البطولة منه وهو سوني ليستون. وكان باترسون "مدلل" البيت الأبيض الذي دعاه إلى الالتقاء بالرئيس جون كينيدي لتكريمه؟. إذ كان البيت الأبيض يعتبر باترسون "نموذج الرجل الأمريكي الأسود" الطيب بينما كان يرى ليستون السجين السابق الأمي نموذج العنف الخاضع لسيطرة المجرمين. ولهذا أصدر كينيدي تعليماته إلى باترسون حين التقاه في البيت الأبيض : "يجب عليك أن تهزم هذا الرجل". لكن باترسون لم يجد بعد المباراة من بديل لإطلاق لحيته لمساعدته على التنكر بعد الهزيمة الساحقة التي ألحقها به ليستون؟ فقد دمره بعد مرور دقيقتين وست ثواني فقط على بدء المباراة.
- وحش الحلبة:-
وهكذا أطلق الأمريكيون على ليستون بعد المباراة لقب "وحش الحلبة". وسارع المعلقون إلى اعتباره "أفضل ملاكم من الوزن الثقيل في التاريخ" بل وذهب بعضهم إلى التشدق بعبارات من قبيل " من المستحيل على أي ملاكم في هذا القرن أن يهزم ليستون".
وسط هذه الخلفية برز محمد علي ليتحدى ليستون في المباراة التي جرت بينهما في شهر فبراير (شباط) عام 1964. وأجمع المعلقون يا قبل هذه المباراة على أن ليستون سيهزم خصمه في خلال أقل من دقيقة واحدة.
بل وطالب مراسل صحيفة "ديلي ميل" الإنجليزية على سبيل المثال بوجوب "منع إجراء المباراة لأن محمد علي مجنون لمجرد إقدامه على تحدي ليستون". وبعدما أجرى الطبيب المكلف بفحص الرجلين سلسلة فحوصاته أعلن أن نبض محمد علي وضغط دمه وصلا إلى درجة مرتفعة جداً ما يدل على أن "الخوف الشديد" يهيمن عليه ومن الأفضل منعه من النزول إلى الحلبة".
وحتى ليستون أعلن قبيل صعوده إلى الحلبة أن خصمه "مصاب حقاً بمس من الجنون ... وليس في وسع أحد أن يعرف ما الذي يمكن أن يفعله شخص مجنون في خلال المباراة".
إلى أن محمد علي أذهب ليستون والمعلقين والعالم أجمع حين سحق خصمه. ففي تلك المباراة قدم ملحمة فنية تكاملت عناصرها من السرعة وخفة الحركة والرشاقة وقوة اللكمات والرقص والقدرة على تفادي لكمات ليستون الذي طلب بنفسه وقف المباراة.
ومنذ ذلك اليوم وقف العالم أجمع من منصتاً لما يقوله محمد علي متابعاً لما يقوم به.
هذا مقطع فيديو لمحمد علي كلاي حينما تغلب على ليستون
http://www.youtube.com/watch?v=uzWynvBLJ4I[/URL]
لقد فاز محمد علي ببطولة العالم للوزن الثقيل ثلاث مرات مسجلاً بذلك إنجازاً لم يسبق لأحد قبله أو بعده أن حققه. لكن المباراة التي جرت بينه وبين جورج فورمان في زائير قبل ربع قرن هي التي ستظل عالقة في أذهان الناس ما دامت هناك حياة ورياضة. فقد كان عليه آنذاك وهو في الثانية والثلاثين من عمره أن يخوض مباراة رهيبة ضد فورمان الذي اكتسفح قبل فوزه بالبطولة كلاًَّ من جو فريزر وكين نورتون. ومن المفارقات أن فريزر ونورتون كانا الوحيدين اللذين انتصرا على محمد علي فكيف يمكن له أن ينازل فورمان؟
ها هو الرجل الذي جردته السلطات من لقب بطولة العالم وسحبت منه الرخصة التي تسمح له بالملاكمة ما حرمه من ممارسة الرياضة في أفضل ثلاث سنوات من ريعان شبابه, لمجرد أنه رفض المحاربة مع الجيش الأمريكي في فيتنام لأن تلك الحرب كانت "عدوانية تخالف عقيدتي ومبادئ دين الإسلام". وها هم المعلقون والمحللون يتندّرون: "كيف أصبحت حركته أبطأ كثيراً ولم تعد لديه القدرة على الرقص أو توجيه اللكمات القوية أن يلاكم فورمان.. الآلة القتالية المثلى؟ "لم يجرؤ أحد على الإطلاق أن يتوقع فوز علي, بل وتوقع معظمهم أنه سينتهي على سرير أحد المستشفيات, تماماً مثلما تشدق أولئك الخبراء قبل مباراته ضد ليستون منذ عشر سنوات خلت.
وبدأت المباراة, ومرة أخرى أذهل الملاكم الأسطوري العالم أجمع حين وجه في الجولة الاولى اثنتي عشرة لكمة متتالية بقبضته اليمنى إلى خصمه في إشارة إلى ازدرائه له, وقد أثار ذلك غيظ فورمان الشديد. وحين بدأت الجولة الثانية توقع الجميع من علي أن يرقص حول الحلبة ليتفادى لكمات خصمه.
لكنه اتجه فوراً إلى أحد الزوايا وأسند ظهره إلى الحبل وغطى وجهه بين بيديه سامحاً لفورمان بتسليط لكماته المتوالية إلى جسمه. ومثلما عذّب محمد علي خصمه ليستون قبل عشر سنوات حين وصل طيلة المباراة سؤاله : "ما هو اسمي؟ قل محمد علي" (بعدما رفض ليستون مناداته بغير كاسيوس كلاي) تعمد هذه المرة همس الشتائم في أذني فورمان.
لقد استعد محمد علي لهذه المباراة وتدرب من أجلها وتحمّل في سبل ذلك مشقة كبيرة. ونزل إلى الحلبة بخطة مدروسة محكمة أثبتت عبقريته التكتيكية علاوة على مهاراته الفنية الفائقة:
إذ أن قوى فورمان أخذت تنهار تدريجياً مع بداية الجولة السادسة.
وفي الجولة الثامنة لقن علي العالم أجمع درساً لا ينسى وبعد فوزه على فورمان قال أحد المعلقين "كان علي أشبه بالفيل النائم في مستهل المباراة. لكن الفيل حين يصحو يسحق كل ما في طريقه!".
محمد علي هو شخصية القرن العشرين , فالحقيقة هي أن من الصعب الحكم عليه في مجال الرياضة فقط لأنه كان أكثر من مجرد رياضي أسطوري.
إذا لا يزال وجهه حتى اليوم أشهر الوجوه في العالم لا لمجرد إنجازاته الرياضية فحسب , وإنما لأن حياته صارت مزيجاً من النجومية والبطولة ولأنه أصبح رمزاً للكفاح من أجل المساواة والدفاع عن المعتقدات والمبادئ في وجه تيارات عاتية مضادة.
وربما تعجز الكلمات عن إنصاف الرجل أو رسم لوحة لحياته. لكن جورج فورمان نفسه وصفه بأنه "أعظم رجال القرن العشرين".