رحلة الكتابة من الكهوف حتى لوحة المفاتيح
للكلمة المكتوبة تاريخ طويل ورحلة مليئة بالأسرار والتحديات والصعاب منذ ان عبّر إنسان الكهوف عن مخاوفه ومعتقداته برسم الثيران والغزلان والخيول على جدران الكهوف، ثم في مراحل تاريخية لاحقه دفعت حاجات الإنسان الإجتماعية والاقتصادية إلى اكتشاف وتطوير طرق أخرى للتدوين والتوثيق، فكانت الكتابة المسمارية قبل أكثر من سبعة آلاف سنة في العراق القديم والتي سميت مسمارية لاستعمال المسامير المعدنية في الكتابة على الألواح والرُقم الطينية، وكان استعمال الكتابة المسمارية أول الأمر محدوداً ومحصوراً في إدارة شؤون الدولة والمعاملات التجارية الكبرى ثم يتسع مع مرور الوقت نطاق استخدامها، حيث دون السومريون ومن ثم البابليون والآشوريون والأكاديون بها أعمال وتاريخ الملوك والأحوال الشخصية والمراسلات والآداب والأساطير والنصوص الدينية والعبادات.
أما الكتابة الهيروغليفية في مصر القديمة والتي تعني في اللغة اليونانية القديمة (الكتابة المقدسة) التي شملت مجموعة كبيرة من الرسومات مثل صور البشر والطيور والثدييات والنباتات وأشياء متنوعة من البيئة المصرية، حتى وصل عدد الرموز الهيروغليفية الى سبعمائة رمز، فقد بدأت كذلك محدودة الانتشار في المجتمع المصري القديم ثم استخدمت في مراحل لاحقة في نقش وزخرفة النصوص الدينية على جدران القصور والمعابد والمقابر وأسطح التماثيل والألواح الحجرية المنقوشة والألواح الخشبية الملونة، لتشهد فيما بعد تطورات متتالية واستخداماً واسعاً في كافة مناحي الحياة. ثم قفزت الكتابة قفزتها الكبرى مع تطوير الفينيقيين والكنعانيين الكتابة الهيروغليفية،حيث نجح الفينيقيون وبحكم نشاطهم التجاري الواسع في تطوير الرمزية التصويرية، طريقة الكتابة القديمة، الى حروف أبجدية، حيث استخدم الفينيقيون اثنين وعشرين حرفاً، أصبحت فيما بعد أساساً للكثير من الأبجديات الحديثة، مثل أبجديات اللغات الأوربية واللغات السامية مثل العربية والعبرية.
التطور في استخدام الرموز والحروف صاحبه تطور آخر في وسائل وأدوات الكتابة، فبعد جدران الكهوف نجح الإنسان القديم في صقل الألواح الحجرية ليدون عليها معاملاته ومعتقداته ثم استخدم الألواح الطينية بعد أن
تعلم صناعة الفخار وتجفيفه، وتحول الإنسان في مراحل تالية لاستخدام ورق البردي، الذي اشتهرالمصريون القدماء بصناعته من سيقان نبات البردي ثم نشروه بدورهم في مناطق أخرى من الشرق الأوسط، واستخدم العرب للكتابة العظام والرق وهو الجلد المدبوغ الرقيق، حتى اكتشف الصينيون صناعة الورق في بداية القرن الثاني الميلادي، ومن ثم انتشر الورق في العالم الإسلامي ثم في أوربا بعد ان وصلت الفتوحات الإسلامية الى شرق آسيا وتعرف المسلمون على أسرار صناعته.
الأحجار المسنونة والمسامير التي أخذت لغة السومريون منها اسمها وقطع الأخشاب أخلت المكان لأدوات أخرى للكتابة واصلت رحلة التطور، فالقصبات المبراة وريش الطيور ثم الأقلام المدهشة بأنواعها
المعدنية والحجرية كلها كانت شواهد على رحلة الكلمة المكتوبة.
حتى سجل الصينيون إنجازاً حضارياً آخر باختراع الطابعة اليدوية، حيث طوروا نوعاً من القوالب الخشبية وذلك لطباعة الكتاب المقدس لدى البوذيين والمسمى (تيبيتاكا)، وانتشرت في الصين في فترات لاحقة طريقة الطباعة بالقوالب لتطبع أعدادا كبيرة من الكتب، أتاحت للعامة الحصول على قسط من العلم.
ثم شهدت الكلمة المكتوبة ثورة كبرى بعد اختراع الألماني يوهان غوتنبرغ في منتصف القرن الخامس عشر للطابعة التي تعد أحد أهم الاختراعات البشرية، وذلك بتطوير قوالب الحروف التي توضع بجوار بعضها البعض ثم بوضع الورق المضغوط عليه لتكتمل المطبوعة، هذه الطابعة كانت سببا في تطور الحضارة وانتشار المعرفة بشتي لغات الأرض. ولايمكن الحديث عن تطور الكلمة المكتوبة بدون الحديث عن الآلة الكاتبة التي يعود تاريخها الى بداية القرن الثامن عشر، والتي تعتبر الأم الأولى لما نراه من آلات كاتبة في وقتنا الحاضر.
رحلة الكلمة المكتوبة واصلت التطور مارةً بمحطات كثيرة ومدهشة الى ان انتهت الى آخر ما توصلت اليه التكنولوجيا الحديثة وهي الكتابة بلمس شاشة الآي باد والهاتف الذكي، وفي انتظار محطات أخرى لنكتشف ماذا يخبئ لنا مستقبل الكلمة المكتوبة.