جميلة جدا مقولة ديكارت الشهيرة: أنا أفكر إذن أنا موجود.
لم يقرأها شخص إلا وتركت فيه بالغ الأثر فاقتبسها أو عدّل عليها. وأنا لا اختلف كثيرا عن هؤلاء فاقتبستُ منها شعاري أدناه.
سؤالي هو: هل فهمنا بالضبط ما الذي يرمي إليه ديكارت من مقولته هذه، هو الذي احدث ثورة في العالم الفلسفي والمنهجي؟
أعتقد أن أغلبيتنا ستقول (كما قالت زوجتي أيضا عندما سألتها عنه) بأن ديكارت كان يقصد بأن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو نعمة التفكير. وذلك لأننا نركز في فهمنا لمقولته الشهيرة على كلمتي "أفكر" و"موجود.
أما أنا فأقول بأننا إذا أردنا أن نفهم بالفعل ما يقصده ديكارت، يجب علينا أولا أن نعرف طرقة تفكير ديكارت ومنهجيته.
ديكارت ابتدع منهجية جديدة شجاعة للبحث والنقد الأدبي والفلسفي. يقوم مبدأه على حد قول طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي" على ما يلي:
"أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوّا تاما".
مثلا، إن أردنا أن ندرس أفلاطون، يجب علينا أن نطهر أفكارنا وعقلنا من أقوال أرسطو ومن أقوال الفلاسفة الذين نقدوا أفلاطون ومن جميع ما تعلمناه حول أفلاطون وعلى الأخص أن نتجاوز المقدمات التي يضعها المترجمون وغيرهم في فاتحة ترجمات أعمال أفلاطون، فنمضي بفكر خالي نقي لنقرأ أفلاطون في مصادره الأصلية بعيدا عن كل ما من شأنه أن يبني فينا فكرة مسبقة أو حكما مسبقا على أفلاطون وأفكاره. في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط، يمكن أن أقول بأنني أنا الذي أقرأ أفلاطون ولا أكون متأثرا بفكر شخص آخر.
وعليه يكون ديكارت قد أراد من خلال مقولته تلك أن يركز على كلمتي "أنا" الأولى والثانية لا على كلمتي "أفكر" و"موجود".
"أنا" أفكر، أي أنا ديكارت الذي يقوم بعملية التفكير غير متأثر بما كتب فلان وبما قاله علان من الناس.
إذن "أنا" موجود. بمعنى أنا ديكارت أكون موجودا وقائما وكلماتي التي أقولها بعد دراستي لموضوع ما من المواضيع تمثلني أنا. لأن ما تفتّقت عنته أفكاري وما خطته يدي من كلمات هي تعبير عني أنا لا عن شخص آخر تأثرت به وبأفكاره خلال درسي لموضوع من المواضيع.
فالأفكار التي أقدمها والانتقادات التي أوجهها هي إذن نتيجة تفكيري أنا وعليه عندما أطرح أطروحتي ونتيجة بحثي أكون أنا موجودا فيها لا فلان من الناس الذين تأثرت بهم فيكون هو موجود في كتاباتي وهو موجود فيَّ.
مثلا، يقال، لا يترك سقراط كتابات ولكننا نستيطيع أن نتعرف إلى أفكار سقراط من خلال ما كتبه أفلاطون أو غيره لأنهم خلدوا لنا أفكار سقراط.
"أنا" أفكر، إذن "أنا" موجود
أنا ديكارت فكر وانتقد ودرس وبنى وكتب وعليه فديكارت موجود ولا وجود لأي شخص آخر من خلال ما خطته يد ديكارت لأنه غير متأثر بأحد. وعليه فديكارت لم يخلّد أحدا من الناس كما خلد أفلاطون سقراط بل ديكارت خلد ديكارت فقط وكان ديكارت موجودا من خلال ما كتبه ديكارت.