إمامُ البُخلاء
زعموا أنَّ رَجُلاً قد بَلغَ في البُخلِ غايَتَهُ وصار إماماً وأنه كان إذا صارَ في يَدِه الدِّرهَمُ
خاطبَهُ وناجاه وفداه واستنبطه. وكان مما يقول له: كَم مِن أرضٍ قد قطعت! وكَم مِن كِيسٍ قد فارقت! وكم مِن خاملٍ رَفَعت!
ومِن رَفيعٍ قد أخملت! لكَ عِندي ألا تعرى! - ثُمَّ يُلقيهِ في كيسِه ويقول له: اسكن على اسم الله في مكان لا تُهانُ ولا تُذَل ولا
تُزعَجُ منه! - وأنّه لَم يُدخِل فيه درهماً قَط فأخرجه، وأنَّ أهلَهُ ألحوا عليه يوما في شهوة (أي طعام اشتهوه) وأكثروا عليه
في إنفاق درهم فدافعهم ما أمكن ذلك. ثم حمل درهماً فقط. فبينا هو ذاهب إذ رأى حَواءً (حاوي الأفاعي) قد أرسَلَ على
نَفسِهِ أفعىً لِدِرَهمٍ يأخُذه. فقال في نفسه: أُتلِفُ شَيئاً تُبذَلُ فيه النفسُ بأكلَةٍ أو شربة؟! والله ما هذا إلا موعظة لي مِن الله!
ورجع إلى أهله و رَدّ الدرهمَ إلى كيسِه - فكان أهلُهُ مِنه في بلاء. وكانوا يتمنون مَوتَهُ والخلاص منه. فلما مات وظنوا أنهم
قد استراحوا منه قَدِمَ ابنُه فاستولى على مالِه ودارِه. ثم قال: ما كان إدامُ أبى فإنّ أكثرَ الفسادِ إنّما يكونُ في الإدام. قالوا:
كان يأتَدِمُ بِجُبنَةٍ عنده. قال: أرونيها. فإذا فيها حِزٌّ كالجدول مِن أثرِ مَسحِ اللقمة! قال: ما هذه الحفرة؟ قالوا: كان لا يَقطعُ
الجبنَ وإنّما كان يَمسحُ على ظهره فيحفر كما ترى! قال: فبهذا أهلكني وبهذا أقعدني هذا المقعد! لو علمت ذلك ما صليت
عليه! قالوا: فأنت كيف تريد أن تصنع قال: أضعها من بعيد فأشير إليها باللقمة!!!!]
- من كتاب البُخلاء للجاحظ.