إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله تعالى فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد :
لقد نزل بنا عشر رمضان الأخيرة ، فيها الخيرات الجزيلة ، و الأجور الكثيرة ، و فيها الفضائل المشهورة ، و الخصائص العظيمة .
فمن فضائلها :
أن النبي –صلى الله عليه و سلم – كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها ، ففي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجْتَهِدُ فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِى غَيْرِهِ.
و في الصحيحين عنها-و اللفظ للبخاري- قالت :
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ.
هذه الأحاديث فيها دليل على فضيلة هذه العشر ، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم – كان يجتهد فيها أكثر مما يجتهد في غيرها ، و هذا الاجتهاد شامل لجميع أنواع العبادة من صلاة و قرآن و ذكر و صدقة و غيرها ؛ و كان –صلى الله عليه و سلم – يشد مئزره في هذه العشر ، و هذا كناية عن أمرين : الأول:
اعتزال نسائه ليتفرغ للصلاة و الذكر ، و في المصنف لعبدالرزاق عن سفيان قال : (شد المئزر : لا يقرب النساء)اهـ.
الثاني : الْجِدَّ فِي الْعِبَادَةِ و الاجتهاد فيها كَمَا يُقَالُ: شَدَدْت لِهَذَا الْأَمْر مِئْزَرِي أَيْ تَشَمَّرْت لَهُ. قاله الخطّابي كما في الفتح.
فكان عليه الصلاة و السلام يحيي ليله فيها بالقيام و القراءة و الذكر بقلبه و لسانه و جوارحه ، لشرف هذه الليالي ، طلبا لليلة القدر فيها التي قال فيها النبي –صلى الله عليه وسلم – (من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه ) كما في الصحيحين عن أبي هريرة –رضي الله عنه-.
و مما يدلك على فضيلة هذه العشر من هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه و سلم كان يوقظ أهله فيها للصلاة و الذكر حرصا على اغتنام هذه الليالي المباركة ، فإنها فرصة العمر ، و غنيمة لمن وفقه الله تعالى ، قال تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و الحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يأمرون }.
فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوت هذه الفرصة الثمينة على نفسه و أهله فما هي إلا ليال معدودة ربما يدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى جل و علا ، فيفوز بسعادة الدنيا و الآخرة .
قال النبي –صلى الله عليه وسلم - :
(رحم الله رجلا قام من الليل فصلى و أيقظ أهله فصلت ، فإن أبت نضح-في رواية :رش- في وجهها الماء ، و رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ، و أيقظت زوجها فصلى ، فإن أبى نضحت- في رواية: رشت- في وجهه الماء).رواه أبو داود و النسائي و ابن ماجه عن أبي هريرة –رضي الله عنه . و صححه العلامة الألباني.
و في الموطأ أن عمر بن الخطّاب – رضي الله عنه – كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي ، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة فيقول لهم : "الصلاة الصلاة" ، ويتلو هذه الآية :
{ وأمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها }.
و كانت امرأة حبيب العجمي أبي محمد تقول له بالليل :
"قد ذهب الليل و بين أيدينا طريق بعيد ، وزاد قليل ، و قوافل الصالحين قد سارت قدّامنا و نحن قد بقينا".
و إنه لمن الحرمان يا عباد الله ، الحرمان العظيم ، و الخسارة الفادحة أن ترى كثيرا من المسلمين يمضون هذه الأوقات المباركة و الثمينة فيما لا ينفعهم ، بل فيما يضرهم ، يسهرون معظم الليل في اللهو الباطل على المفسديون ، و المسلسلات الهابطة ، و الأغاني الماجنة ، و الغيبة و النميمة ، فإذا جاء وقت القيام ناموا عنه ، بل و حتى عن صلاة الفجر! ، ففوتوا على أنفسهم خيرا كثيرا لعلهم لا يدركونه بعد عامهم هذا ؛ و هذا و الله من إغواء الشيطان لهم و تلاعبه بهم ، و صده إياهم عن سبيل الله ، قال تعالى :
{ إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير }.
و من خصائص هذه العشر المباركة أن فيها ليلة القدر التي شرفها الله عزوجل على غيرها ، ومنّ على هذه الأمة بجزيل فضلها و عميم خيرها ؛ و قد أشاد الله تعالى بفضلها في كتابه المبين ، فقال سبحانه :
{ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يُفرق كل أمر حكيم }.[الدخان:3-4].
و هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر ، قال تعالى :
{ . إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ (4) أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5)}.
وصفها الله تعالى بأنها مباركة لكثرة خيرها و بركتها ، و فضلها ، و من بركتها أنّ هذا القرآن أنزل فيها ،
و سميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة ، قاله في الفروع.
و قال صاحب المحرر:
و هو قول أكثر المفسرين لقوله تعالى :
{ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يُفرق كل أمر حكيم}.
فإن المراد بذلك ليلة القدر عند ابن عباس.اهـ.
وقال الزهري :
"سميت ليلة القدر، لعظمها و قدرها و شرفها".
و قال أبو بكر الوراق –رحمه الله تعالى- :
" سميت ليلة القدر ، لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر ، على رسول ذي قدر ، و على أمة ذات قدر ".
و ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان لقول النبي –صلى الله عليه و سلم – في الحديث المتفق عليه :
(تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان).
و هي في الأوتار أقرب من الأشفاع لقوله –صلى الله عليه وسلم – كما هو عند البخاري :
(تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان).
و هي في السبع الأواخر أقرب لحديث ابن عمر –رضي الله عنهما- المتفق على صحته :
"أن رجالا من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر" ، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم - :
(أرى رؤياكم قد تواطأت –أي:اتفقت- في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر).
و أرجى هذه السبع هي ليلة السابع و العشرين كما نص على ذلك الإمام أحمد ، لحديث مسلم في صحيحه عن حديث زر بن حبيش قال : سمعت أبي بن كعب يقول -وقيل له : إن عبد الله بن مسعود يقول : من قام السنة أصاب ليلة القدر- فقال أبي رضي الله عنه : رحمه الله أراد أن لا يتكل الناس ، والذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان - يحلف ما يستثني - ووالله إني لأعلم أي ليلة هي ؟ هي الليلة التي أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيامها هي ليلة صبيحة سبع وعشرين ، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها.
ورفع ذلك في رواية إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
و ليلة القدر لا تختص بليلة معينة في جميع الأعوام على الصحيح ، بل تنتقل فتكون في عام ليلة سبع و عشرين مثلا ، و في عام آخر ليلة خمس و عشرين ، و هكذا تبعا لإرادة الله و حكمته ، و يدل لذلك حديث النبي –صلى الله عليه وسلم – الذي رواه البخاري :
(التمسوها في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى).
قال الحافظ:
(وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين ")اهـ.
قال السفاريني –رحمه الله تعالى – في (كشف اللثام) بعد أن سرد الخلاف فيها :
( ..و قال غيره تنتقل ليلة القدر في في العشر الأخير ، قاله أبو قلابة التابعي ، و حكاه ابن عبد البر عن مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبي ثور ، و قاله أبو حنيفة)اهـ.
و قد أخفى الله عزوجل علمها على العباد ليكثر عملهم في طلبها بالذكر و الصلاة و الدعاء في هذه الليالي كلها ، فيزدادوا قربة من الله سبحانه ؛ وكذلك لكي يختبرهم ، و يرى الجاد منهم ، و الكاسل عنها .
و من فضائل ليلة القدر :
أن من قامها إيمانا و احتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه.
كما في الصحيحين عن النبي –صلى الله عليه وسلم - :
( من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه).
قال الخطابي:
( قوله : "إيمانا و احتسابا " أي : نية وعزيمة ، وهو أن يقومها على التصديق و الرغبة في ثوابها ، طيبة بذلك نفسه غير كاره)اهـ .
و قال الحافظ المنذري في "الترغيب و الترهيب" :
(قال البغوي: قوله : "احتسابا" أي : طالبا لوجه الله)اهـ.
و الحمد لله رب العالمين.
منقول من شبكة سحاب