الجزء الثاني من شرح نهج البردة
الأستاذ ضياء الدين ظاظا
داعية إلى الإسلام
من أظهر ميزات شوقي رحمه الله _بل لعلها الميزة الكبرى _ أنه كان رجلاً إسلامياً يوجه نفسه إلى ما يذيع من خصائص الإسلام ، ويزيد في حقائقه السامية توضيحاً وتنويهاً _ فلقد كان _ رحمه الله _ من أولئك البناة الذين شيَّدوا في قلوب الجماهير الشرقية صرحاًَ رفيعاً من حب الإسلام، وتقدير الرسول عليه السلام ،وهي القصائد التي كان ينظمها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
هل استطاع واحد من شعراء الإسلام أن ينتج خيراً منها ( نهج البردة _ ولد الهدى _ سلوا قلبي_ إلى عرفات الله _ .. .. وغيرها وأن يكون في إنتاجه متمشياً مع هذا السياق الذي أنتهجه أمير الشعراء ،أو كما كان يُحب أن يُطلق عليه ويُلَقَّبْ ( بشاعر الإسلام ) : من توقير أسباب الطلاوة والسحر ، والفتنة ، والجمال ، والروعة لكل ما يقول .. .. ؟ اللهم لا .
ويتابع التفتازاني قائلاً:وكان يؤثر أن يُلقَّبَ بشاعر الإسلام،ويهشُ لهذا اللقب أكثر من هشاشته للقب أمير الشعراء.
وإني لأذكر في مناسبة الحديث عن روح الفقيد الإسلامية أنه تَفَضَّلَ على (المعرفة ) في بداءة سنتها الثانية ببضعةٍ من جواهره النادرة التي جمعها في كتابه ( أسواق الذهب ) قبل أن يتم طبعه ،وكنت أخذت نفسي في تقديم هذه الثروة الطائلة على القرّاء بكلمات لم أقل فيها إن شوقي أمير الشعراء ، وإنما قلت ( شاعر الشرق والإسلام ) ، فلما التقيتُ به بعدئذٍ، كانت هالة من البشر تعمر وجهه الضحوك المُشرق وهو يقول لي( لكأنك يا أستاذ كنت تنطق بلسان الغيب ، فإن قولك عني : إني ( شاعر الإسلام ) لأحب إليَّ من هذا اللقب الرنان الذي يطلقه الصحفيون عليّ .. .. ذلك أني أتمنى أن أكون شاعر الإسلام حقاً !!(مجلة المعرفة نوفمبر 1932م)
لقد صدرت كتب كثيرة ودراسات ومقالات عن شوقي يصعب حصرها ، كما ترجمت بعض آثاره إلى اللغات الأجنبية ، ومما يحسن ذكره أنه عندما أنشئ كرسي الأدب المصري في كلية الآداب بجامعة القاهرة أطلق عليه اسم كرسـي شوقي تكريماًَ لأمير الشعراء .
وهذه الصفحات التي أقدمها إليك عن بعض ملامح سيرته الذاتية ليست إلا قراءة بين السطور ،أرجو أن تلقي ضوءاً جديداً على أمير الشعراء.
إيمان بالله
عَرَضَ شوقي لوجود الخالق سبحانه وتعالى ،وللتوحيد الذي حام حوله البشر منذ زمن قديم ، لأنه في فطرهم ، وآمن بالعبادات ونوَّه بآثارها ،وثار على من يصدون الناس عنها وتضرع إلى الله الذي يُسبِّحُ كل شيء بحمده ،وخضع لقضاء الله ،وآمن بأنه لا مردَّ له ، وابتهل إلى الله أن يغفر له ما اجترح من ذنب .
ودان شوقي بأن في خلق السموات والأرض الدليل المقنع على وجود الله تعالى،فلا حاجة إلى أدلة العلماء وبراهين الفقهاء:
تلك الطبيعةُ قِفْ بنا يا ساري حتى أُريكَ بديعَ صُنعَ البارِي
الأرضُ حولََكَ والسماءُ اهتزَّتا لروائع الآياتِ والآثــار
من كلّ ناطقةِ الجلَال كأنَّهــا أمُّ الكتابِ على لسان القاري
دلَّت على مَلكِ الملوك فلم تَدَعْ لأدلّة الفُقَهـاءِ والأحْــبَار
من شَكَّ فيه فنظرةٌ في صُـنْعِه تمَحو أثيمَ الشكّ والإِنكار
ومن إيمانه بالوحدانية قوله في الشهادة:
"الشهادة قصيدةٌ عُلْويّةُ الرَّوِىّ،مطلَعُها اللهُ ومقطَعُها النبيّ،كلمةٌ هي الدّين،وهي كنْهُ(1)
اليقين،وهي الحقُّ المبين،لم تَزَلْ مُقَّدمَةَ الكتاب،وفاتِحةَ الخطاب،ومفتاحَ الباب.. ومن عبقرِيَّةِ الشهادة-أماتنا اللهُ وإياكَ عليها-إنَّ حُسْنَ الظنَّ بالله طالما أوقَع في نفوسِ الجماعاتِ أَنها أَفضلُ عملِ العبدِ عند ربّه،وأَنها ربما قامتْ مقامَ"الأَداءِ عن سائر الفرائِض حتى فرَّط المفرَّطون،وهُمْ عليها يتَّكلون..) أسواق الذهب 84
العـــــــــــبادات
آمن شوقي بالعبادات ،ونوَّه بآثارها العظيمة في تطهير النفوس وصلاح المجتمعات
1_ الصلاة :قال في الصلاة : ( لو لم تَكُنْ رأْسَ العبادات ، لعُدَّتْ من
صالحة العادات . رياضة أَبْدان ، وطهارةُ أردان (2)، وتهذيبُ وجدان ،
وشتى فَضائِلَ يشبّ عليها الجواري والولدان . أَصحابُها هم الصابرون والمثابرون ،عَوَّدَتْهم البُكور، وهو مِفتاحُ باب الرزق ، وأفضلُ ما يَرودُ به المخلوق التَّوجُّه إلى الخالق ، انْظُرْ جلالَ الجُمَع ،وتأَمْل أَثَرَها في المُجتَمَعُ ،وكيف ساوَتْ العِلْيَةَ بالزَّمَعْ؟(3)
مسَّت الأرضَ الجِبَاه ، فالناس أَكفاءٌ وأشباه . .. .. ) أسواق الذهب 87
الهامش:
1)الكنه:الأصل والفاية
2-الردن :الغزل أو الخر.والجمع أردان،والمراد بها هنا:الثياب
3-الزمع:الرعاع.
2-الزكاة:
قال في الزكاة : ( حِزبُ(1) الاشتراكية ، وحربُ البُلْشُفيَّة ، أَيُّها الناس:
أَمرَ اللهُ فَصَلَّيتُمْ ، ونَهى المالُ فما زكَّيْتم، فَّرقْتُم بين الخَمْس(2) وكلُّها حُكْمُ الواحد ، فلكلَّ أَلف مُصَلَّ مُّزَكٍّ واحد ! هي مالُ الفقير خلَسْتمُوه(3) ، ورزقُ المحرومِ حَبَستموه
وحقُّ العاجز في الحياةِ بَخَسْتُموه .
تُقرِضُون (4)الولاة ، ولا تُقْرِضون الله ،وتُنفقون تَملُّقا لأَهلِ الجاه ، ولا تُنفقون تَعَلُّقاً بالنجاة ..)(5)
وسخر من الذين يصلون ويصومون ولكنهم لا يزكون ، وأنذرهم بأن الله قد أحصى نصيبب الفقراء من أموال الأغنياء ،فالذي يؤثر ماله على طاعة الله وحبه خاسر .
يرى شوقي في الاسلام حافظاً لأركان المجتمع أن ينهار،فهو بما شرَّع من الزكاة يمنع تلك النفوس الثائرة التي تصبح ذئاباً إن لم تنل ما يخمد جذوتها
.ويبرئ كلومها،وهو يرى أن صاحب الدعوة الإسلامية محمد صلوات الله وسلامه عليه إمام الاشتراكيين،بيد أنه يداوي المجتمع بالرفق واللين والدعة،والهدوء،من غير وثبة ولا طفرة،إذ الطفرة ما دخلت شيئاً إلا أفسدته،وانْصت إليه يقول:
عجبتُ لمعشَرٍ صلّوا وصاموا ظواهرَ خشيةٍ وتُقىً كذابا
وتُلفيهم حيالَ المال صُمَّاًً إذا داعى الزكاة بهم إهابا
لقد كتموا نصيبَ الله منه كأن الله لم يُحص النّصابا!
1-الحزب:النصير
2-المراد بالخمس:أركان الاسلام.
3-خلس الشيء:أخذه مخاتلة
4- أقرضه: أعطاه قرضاً
5- أسواق الذهب 90
يريد الخالقُ الرزقَ اشتراكاً وإن يكُ خصَّ أقواماً وحابى
فما حَرَمَ المجدَّ جَنَى يديه ولا نسي الشقيَّ ولا المصابا
وجهر بأن الأموال في أيدي أصحابها عارية ، فيجب أن تكون شركة بينهم وبين المحتاجين ، لأن الله الرزاق إذا كان قد يَسَّرَ للأغنياء سبيل الثراء فإنه لم يغفل حقوق الفقراء والضعفاء فيها .
وحذّر الأغنياء من البخل بمالهم ، لأن بخلهم ُيحنق الفقراء عليهم ويمهد لهم الثورات .
ثم عاد يُرغبّهم في البذل ،ويدلل على المساواة ،،فقال إن الهواء يخترق الأكواخ كما
يخترق القصور ،وإن الشمس ترسل أشعتها على الخصيب والجديب وإلى الغني والفقير ، وإن الماء يروي الأسود والكلاب .
وإن الموت حتم لا يهرب منه ثريٌّ ولا معدوم ، وإن الناس جميعاً يتساوون بعد الموت فيرقدون في الثرى ،ليزهدهم في اكتناز في المال ، ويذكّر الأغنياء البخلاء بأن الموت مدرك لهم ، وسيتركون مالهم لغيرهم ،وكان الخير لهم أن يقدموا مالهم عملاً صالحاً ينفعهم عند الله تعالى.
3 -الصوم :
قال في الصوم: ( حِرمانٌ مشروع ، وتأديبٌ بالجوع ، وخُشُوع لله وخُضُوع ... . يستثير الشفقة ، ويحض على صدقة ، يَكْسِر الكِبْر ، ويعلم الصبر ، ويَسُنَّ خلال البر.)
4 _الحج:
قال في الحج: ( مَوكبُ الإسلامِ ومَظْهَرُه ، ولُبَابَ حَسَبه وجَوْهرهُ ، ومَوْسُمه الحرامُ أَشْهُرُه ، مِهْرَجانُه العظيم ، وعُرْسُه الفخيم ، ونَدِيَّه(1) الكريم ، والنَّظمُ الذي قَرُنَ فيه الدُّنيا إلى دِيِنِه القويم، فجَعَله لها صلاحاً وعِمارةً ، وَمَلَأها بِيُمِنِه نماءً ويسارة (2) وأفاض بَرضكاتِه على التَّجارة.(3)
وقال يصف المسجد الحرام ( قِبلَةُ البَدَويِّ في قَفْرِه ، ووجهةُ القَرويَّ في كَفْره،(4) حَرَمُ الله الُمطَهَّر، وبَيْتُهُ العتيقُ المُسَتَّر(5) ، الذي وَجَّهَ إليه الوجوه، وفَرَضَ على عباده أَن يَحُجُّوه .. بناهُ الله بمكةَ على فضاءٍ زكيّ لم يتنفَّسْ فيه الناس(6) ، وخلا إلا من جُحرٍ أو كِناس (7)، فلا الدُّنْيا سَحَبَتْ عليه غُرُورَها ، ولا النفوسُ نَقَّلَتْ فيه شُرُورَها ، .. .. بُنيَ البيتُ وإذا الجلال حُجُبُه وأَستارُه،الحقُّ حائِطُه وجِدَارُه ، والتَّوحيدُ مَظْهرُه ومَنَارُه ، والنبيُّون بُناَتُه وعُمَّاره (8، واللهُ عزَّ وجلَّ ربُّه وجاره .. .. )