[gdwl]
شيء من السيادة ..
لاحقته عيون المجانين في أكبر مهجع في المستشفى حين راح يستعرض بخطى متئدة، وحركات متسائلة، ونظرات متعجبة يذرع بها الممر الفاصل بين الأسرة على طول المهجع… لم يأبه لسخريتهم منه، وقد علا ضحكهم لكنه بضربة واحدة على وجه من حاول أن يلمسه كانت كافية لإنزال الصمت المطبق في المهجع الثامن….فقط عيونهم كانت تتكلم توزعت بين الخوف، والألم والانكسار ، وهم يلوذون بها نحو زميلهم الواقع على الأرض وقد راح يزحف مرتجفاً نحو مكانه…لم يخطر ببال المجانين أن شاديا الملقب بأبي الزعيم كان ضابطا في سلاح المدرعات في دولة ((التنانير الشرقية)) …أخذ مكانه منتشياً بفرض هيبته على المجانين وراح يفكر بالخطوة التالية….
فالهدف كما بدا من استعراضه كان لأجل توزيع المهمات على زملائه. ..فاختار( طلوب) نائباً له، وجعل( طنوز) رئيساً ((للقوة)) وعين(جربوع) رئيساً ((للأسرار))أما ( فصوع) فرئيساً ((للكلام)) وغدا( بكوع) رئيساً ((للرحمة)) وبعد اجتماع قصير أمسى كل واحد منهم يعرف مهمته مع إيقاف مؤقت لرئيس الرحمة عن ممارسة مهامه إلى حين فرض هيبة الحكومة الجديدة …أمر أبو الزعيم جميع الموجودين في المجمع أن يصفقوا للحكومة الجديدة ، فصفق عدد قليل منهم..قوم الموقف ثم استدعى على عجل رئيس القوة، وأمره أن يأتي بمن صفق ويجعلهم جنودا له ، وبعد أن فعل أمره أن يختار ثلاثة منهم يتمتعون بقوة بدنية ، وأن يختاروا واحداً ضعيف البنية، ويضعوه في وسط المهجع، ويشبعوه ضرباً….في اليوم التالي أمر أبو الزعيم الجميع أن يصفق فعلا التصفيق في المهجع إلاّ من أعداد قليلة تم تعينهم بدقة من قبل أبي الأسرار، فقد واجه صعوبة بالغة في تجنيد واحد يأتيه بأخبار سكان المهجع الثامن وقد استغل فيه حبه للطعام، فجاد عليه مما تمت مصادرته من زملائه…كان المشهد الأول كفيلا بفرض سيادة حكومة أبي الزعيم ، وإشاعة الرعب بين سكان المهجع الثامن، وتجنيد أعداد كافية لنقل كل شيء إلى أبي الأسرار، وكان انقضاء هذا الشهر كفيلا بإعطاء الصلاحية لرئيس الكلام لممارسة عمله في شرح أهمية هذه الحكومة وقدسيتها ، وما تعد به من خير في المستقبل لكل المجانيين ولا سيما في سرد القصص الطريفة المشبعة بالخيال…ولتخفيف معاناتهم من قسوة أبي القوة إن في تعذيبهم أو في مصادرة طعامهم،فقد وجب على أبي الرحمة أن يشرح لهم عن فناء هذه الدنيا، ويذكرهم بمن مات من زملائهم،وأن القناعة والصبر ومجاهدة النفس من أجل بقاء حكومة أبي الزعيم هي أكبر الأهداف وأكثرها قدسية …بعد مضي أربعين يوماً أمر أبو الزعيم أعوانه أن يحتفلوا بتأسيس حكومتهم ، وأن يختاروا لها علماً من جوارب المعاقبين، فجاء العلم خليطا من ألوان متعددة لكن أبا الزعيم أكد لنائبه أنه سيكتسب هيبته مع مرور الأيام ، ثم أمر أبو الكلام أن ينظم شاعر نشيداً لهذه الحكومة، فتقدم أحدهم بنشيد يقول فيه:.
بينما رفض نشيدا آخر يقول:فقد رأى فيه أبو الأسرار إساءة للزعيم رغم أنه أكثر حماسة من الأول، فرفضه..
مضى الاحتفال على أحسن ما يرام ، لكن أبا الزعيم لم يعجبه هذا الهدوء التام ، فأمر أبا الأسرار أن يكلف من يورط بعض سكان المهجع بعمل معادٍ للحكومة سيما بعد تزايد عدد المتعاونين معه بحكم المجاعة الناشئة عن كثرة قرارات المصادرة، و بغية إيجاد مبرر لهذه القرارات ، وإبقاء حركة الحكومة في نشاط وحماسة …وصلت أخبار حكومة أبي الزعيم إلى إدارة المستشفى، فتم استدعاؤه ..كان المدير مشغولا بقراءة ملف أبي الزعيم ضابط الدرع المسرح بتهمة المبالغة في حب الذات، أو جنون العظمة …
- سأله المدير باستغراب : كيف استطعت أن تسيطر على هؤلاء المجانين
- وبهدوء أجاب: لأنهم مجانين
- لكننا لن نسمح لك بمواصلة عملك هذا …
- لا ضير ،فهناك من سيتابع المسيرة، فالأفكار العظيمة لا تموت .
- نخشى أن تنتقل أفكارك إلى بقية المهاجع .
- بل انتقلت؛ولكن نواجه صعوبات جمة في إفهام الآخرين .
- طيب، وإن ساعدناك على انتشارها .
- إذن سأكون طوع بنانكم .
- جيد عليك الآن بالخطوة الأولى ، وهي إنشاء برلمان لتفريغ الشحنات، وممارسة الإحساس بالنقص، والرغبة في الكلام.
- اتفقنا .
لكن فرحة أبي الزعيم تلاشت مع أول خطوة لقدمه داخل المهجع إذ وجد نفسه مطوقاً من قبل رجال أبي القوة، وهم يحكمون وثاقه معلنين عن حكومة جديدة بزعامة أبي القوة ،ونائبه أبي الأسرار والحكم بالإعدام على الخائن أبي الزعيم . لتبدأ مرحلة جديدة في حياة المهجع الثامن.
[/gdwl]