الليل يدخل في بوتقة الصّمت، يرتدي لونه، يخيم بثقل على المكان، ثمة امرأة تعجن اللون بأصابعها، تشكله كائنات تنبض بأحاسيسها، تعيش الحزن، امرأة غيرت عناوينها، بعد أن شحذت الغربة داخلها، واقتحم القلق ذاكرتها، تريد أن تقول شيئاً.. ثم تمتنع!...
امرأة امتهنتها الغربة، ولازمتها حقيبة السفر، شهق الفجر لها..
كصباحات وردة أيقظتها الشمس.. بخفة مدت خطواتها إلى المطبخ أعدت قهوتها، وقفت أمام المرآة، بدا وجهها منكمشاً، رسم الزمن عليه آثاراً لا تمحى، أطلت من النافذة على مدى يتسع، يئن تحت ضباب رمادي ضاق على صدرها.. تخيلت للحظة أن البيوت من حولها خاوية، والأشجار يابسة.. والنجوم فارقت بريقها، واختلطت الأشياء.. من حولها ليل بلا قمر... ولا أضواء، تناولت كأس الماء، دفعته إلى حلقها.. غصت ببقايا الكأس!.. أسندت ظهرها على النافذة، استسلمت للصمت، فكرت قليلاً كيف تخرج من هذا الضيق؟.. أخذت وعاء الماء وراحت ترش فوق أصيص الحبق آه.. هنا بقايا عطره.. تحت الياسمينة آثار شقاء يديه، تذكر كان يصنع لها عقداً منه.. ويقدمه لها، مع ابتسامة عذبة، عادت لتقف أمام المرآة من جديد، ما فعله الزمن؟!.. ضغط ثقيل على صدرها.. أرادت أن تلجأ إلى الذاكرة.. خذلتها.
وحيدة، والليل يحيط بغرفتها المنعزلة عن غرف البيت الباقية، ضوء باهت، تموت الألوان من حوله، بعض الفراشات الصغيرة ذات طنين مزعج، تشعل سيجارة، تمج منها نفساً قصيراً، وضعتها على زاوية النافذة.. ووقفت تراقب احتراقها البطيء، ليل.. وغربة.. ونافذة لا تطل إلا على الصمت.
على مهل راحت تعيد تفاصيل ما جرى لها، باغتتها فكرة أن تنبش في الذاكرة المكتوبة، أخرجت من خزانتها دفتراً نفضت عنه غبار الزمن، فتحت الباب المؤدي إلى الشرفة، قلبت أوراقاً.. صوراً قرأت.. حتى سال دمع عينيها، شعرت بالتعب، وضعت يديها فوق بعضها بحيث تداخلت أصابعها مع بعضها، وضغطت على صدرها الناهد، قشعريرة اجتاحت جسدها.. أحست بألم ذكرها بما كان لها من ليال حميمة، رتلت كلمات أغنية تعشقها، من حنجرة فيروز.. يا جبل لبعيد خلفك.. حبايبنا.. حفرت الكلمات في داخلها، كهذه الصور التي ذكرتها بشبابها، حاولت إعادة الشريط من الذاكرة.. داهمتها حالة عصبية، ورافقها توتر، قذفت الفنجان.. راقبت تحطمه على بلاط الغرفة، قالت لنفسها.. هكذا يتحطم داخلها وتتهشم روحها حتى وصلت إلى هذا الفراغ، الليل يلفها بسواده.. ملل.. تجرحها أسئلتها؟.. من يوقف هذا الضجيج.. من يحاول إلغاء ذاكرتها، راحت تحدث الشرفات.. افتحي صدرك للريح الجديدة.. سرب حمام عبر فوقها، راقبت الفراخ الصغيرة، وهي ترف تحت جناح أمها.. أثارت غريزتها للأمومة.. آه.. يا له من زمن، كم حلمت أن تضم إلى صدرها طفل.. ترضعه حنانها ودفئها، تمنحه محبتها، مسحت عن خدها دمعها، لقد كسر الرجل الذي أحبته حلمها، حين واجهته يوماً بأنها تتمنى أن يكون لها طفلٌ يشبهه، غادرها.. ولم يعد.. كل ما في البيت يذكرها فيه، هنا في هذه الغرفة ارتدت له قميص نومها الأبيض.. وربطت خصرها بشالها الحريري.. أشغل هو شريط عبد الحليم/ والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا../، وراح يلف شعرها على يديه ويردد كلمات الأغنية بمرح شيء ما تحرك داخلها، أحست أنها بحاجة إليه أخذته إلى حضنها شدته بقوة حتى أدهشته، سألها بتعجب ما بك همست إليه بتحبب، أريد طفلاً، تركها تجر خيبتها، ارتدى ملابسه على عجل، ولم يعد.. دارت حول نفسها كما دارت بها الدنيا، امرأة تلفها الوحدة، وتعصف في وجهها الريح، بالأمس كانت النظرات تتعلق بها، وكلمات الغزل.. وهي تبدي تعالياً لن تكرر تجربة حبيبها، أخذت شالها القديم، تفجرت أوجاعها دفعة واحدة.. شوقاً.. عشقاً.. وأغاني، ما زال صوت عبد الحليم يهيم من حولها، تطويها الغربة خلف ضباب السنين الرمادية، تعيش على هامش الحياة، أشعلت شمعة، انتظرته.. يأتي ليشاركها عيد ميلادها.. شمعة واحدة.. ترمز إلى سنين عمرها، أربعين عاماً من الوجع والأسئلة؟.. غادرت القطارات ألقها الروحي، وضاقت الدنيا بخطواتها التعبة!! طويلة ليالي الشتاء.. تبحث عن دفء يلملم جسدها النحيل، تنبت أوجاع الغربة من حولها، وهي تصغي بروحها إلى نغنغات طفل.. تأخذه إلى روحها، تفرش له باقي عمرها.. أخذت ريشة الألوان وراحت ترسم، عينيه.. ابتسامته.. شعره.. واحتارت كيف ترسم نغنغاته؟!.. تركت اللوحة، أشعلت سيجارة أخذت نفساً عميقاً وقفت أمام اللوحة، أطلقت زفيراً.. ودخاناً.. ووجعاً.. كانت تهوى الألوان المفرحة، ما الذي يدفعها للألوان العاتمة، تدافعت أفكارها ماذا ترسم لقدميه الصغيرتين.. اختارت ألوان سترته.. سرواله.
تفاصيل تنبت شوكاً ينتشر على جسدها التعب، دفعتها لأن تغادر غرفتها بحثاً عن وجه طفل يعيش في ذاكرتها!!..