بعد حالات التردي والذل والانحطاط، التي عاشها الشعب العربي من المحيط إلى الخليج طيلة أكثر من خمسين عاماً من القرن الماضي، هب المارد العربي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الثالث والعشرين من تموز/يوليو 1952، معلنا عصرا جماهيريا جديدا، بعد أن ترسبت في أعماق الجماهير نزعات الولادة الإبداعية التي فجرها ناصر العرب ثورة رائدة في كافة المجالات التحررية..
وبعد ثورة 23 تموز/يوليو الناصرية بستة عشر عاما انطلقت ثورة 17 تموز في العراق معلنة أن المستحيل هو سيد القوانين، وأنه لا تراجع إلى الخلف مهما كانت النتائج قياسا للمستقبل، فألغت بذلك وهم الماضي الاستعماري.. ولم يمض عام 1969 إلا وأعلن العقيد معمر القذافي في الفاتح من أيلول/سبتمبر ثورة الجماهير في الجماهيرية الليبية حيث حدد البيان الأول مسارات الثورة الجماهيرية ومنهجيتها لإعادة صياغة تاريخ ذلك الجزء من الوطن العربي، وكان لهذه الثورات الرائدة تأثير كبير على تجربة الإنسان العربي الوحدوي ضد كافة أشكال الاستعمار.. مما فجر قوة الإرادة في الأمة العربية فكرا وأسلوبا وعملا.
ورغم اختلاط الألوان بقي اللون السائد في كافة الثورات العربية هو الأخضر والأسود والأبيض والأحمر في ذاكرة المبدعين من أبناء الوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج، فتفجرت حالات الإبداع الصناعي والعلمي والعسكري في تجربة (القاهر) و(الرائد) و(الظافر) في مصر العربية، كما تفجرت في العراق حالة الإبداع العسكري المتطور في تجارب عرفنا منها (الحسين) و(العابد) و(السلسبيل) و(الحجارة) بالإضافة إلى المجالات العلمية والصناعية والاقتصادية المختلفة مما نقل العراق من عداد البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة حيث كان من المؤمل أن يصدر العراق أول سيارة عراقية الصنع كاملة في منتصف الثمانينات مما أزعج أعداء العراق وأعداء العرب بشكل عام وفي مقدمهم إدارات الشر الأميركية والصهاينة في العالم وهذه هي إحدى أهم أسباب الحرب العراقية الإيرانية.. وفي الجماهيرية الليبية تم تحقيق ثورة علمية واقتصادية عملت على نقل الشعب الليبي إلى مستوى عالمي وهذه أيضا أزعجت قوى الشر في العالم أيضا فعملت هذه القوى الشريرة على محاولة وأد ثورة الفاتح وتدميرها في مهدها..
وبما أن أشعة الشمس لا يمكن أن تعزل بغربال كان الإصرار العربي على المضي في مسيرة النهوض العلمي والصناعي والاقتصادي والزراعي في العراق كما في باقي البلاد العربية، مما أعاد للمواطن العربي ثقته بنفسه لبرهة من الزمن، ولكن أعداء الإنسانية والعروبة معا لم يدعوا مجالا لتلك الثقة في نفس المواطن العربي فدمروا ما أبدعه شعب مصر وتركوه فريسة للإرهاب الدولي تحت مسميات المعونات الأميركية والبنك الدولي، وكذلك في الجماهيرية الليبية التي حققت تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وزراعية ومن هذه الإنجازات كان النهر الصناعي العظيم من اجل خدمة الإنسان العربي على اعتبار أن المياه هي الأساس لأي تطور مستقبلي للأمة العربية، فقام أعداء الإنسانية بقيادة إدارة الشر الأمريكية بعدوانهم على ليبيا عام 1986 وأطبقوا بحصارهم الظالم على الجماهيرية الليبية منذ عام 1993 من اجل إخضاع هذا البلد وللسيطرة على خيراته الطبيعية وأهمها الماء بعد النفط، وإلى اليوم مازالت إدارة الشر الأميركية ترفض رفع الحصار عن هذا البلد حتى بعد أن وافقت ليبيا على تسليم المشبه بهما إلى محكمة حيادية التي برأت واحدا منهم وحكمت على الثاني حكم ترضية عشوائي وذو نهج سياسي.. ومن ثم تابعت إدارة الشر الأمريكية عدوانها المستمر على العراق منذ عام 1991 وفرضوا عليه حصاراً لم يشهد التاريخ له مثيلا ومن ثم أطبقوا عليه بعد غزوه في العشرين من آذار/مارس 2003 ومازالوا إلى اليوم يقتلون الإنسان فيه بعد أن دمروا المدارس ومستودعات الأغذية وأحرقوا الأراضي الزراعية تاركين لعصاباتهم وأتباعهم من القادمين من وراء حدود العراق من الدول المجاورة الذين جاءوا بحماية الدبابات والمدافع الأمريكية..
وما زالوا أيضا يعملون على تقسيم العراق إلى دويلات باسم الفيدرالية بدعم من بعض الرموز المحلية العراقية المعادية لأي تطلع وحدوي، تمهيدا لتنفيذ المخطط الشرير لأعداء الإنسانية وذلك من اجل إقامة كونفدرالية على مقاس إدارة الشر الأميركية الصهيونية بعد أن تسيطر كليا على منابع النفط في هذا البلد الذي يضم ثاني أكبر احتياطي من النفط في العالم إن لم يكن الأول.. ومن ثم إخضاع دول العالم التي تعتمد في صناعاتها وحياتها اليومية على النفط ومشتقاته.. والأهم من ذلك تأمين السيطرة الكاملة السياسية والاقتصادية والحماية للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وهو ما أعلنه المجرم الصغير بوش الابن أكثر من مرة دون أن يجد ذلك أي رد فعل على الأقل من أي من كتّاب وصحفجيي هذه الأيام..
ففي ذكرى ثورة تموز/يوليو التي تحمل في طياتها معان تدل على عظمة المضمون لمفهوم الثورة التي فتحت مصراع الحرية من اجل الإنسان العربي ليثور ضد الظلم والطغيان، وبناء الوطن الحر، بعيدا عن الاستغلال والعبودية، ومحاربا المستعمر والإمبريالية والصهيونية.. تلك الثورة التي قادها الراحل جمال عبد الناصر الذي أوجد المد القومي لها من خلال كلماته الشهيرة: (ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة) و(لا للاعتراف، لا للصلح، لا للمفاوضات) نتساءل أين الأنظمة العربية منها الآن؟!. تأتي ذكرى تموز/يوليو المجيدة بعد أن عطلت أنظمة الذل العربية (مكتب المقاطعة العربية للبضائع الاسرائيلية) لسنوات مديدة في الجامعة العربية.. كما عطلت المد الجماهيري بحجج واهية لا تخدم إلا أعداء العرب والإنسانية في العالم..
وهم بذلك يلتقون مع أعداء الإنسانية والصهاينة في العالم كما يلتقون مع الصهاينة في فلسطين المحتلة الذين يزيدون في إهانتهم لتلك الأنظمة طالبين منهم المزيد من الذل والتوسل من ألد أعداء الإنسانية في العالم وتحديدا من إدارة الشر الأميركية!!..
فهل ستبقى الجماهير العربية صامتة على جور تلك الأنظمة واستبداد الصهاينة؟!. ومتى ستنهض الجماهير العربية دفاعا حقها في الحياة والدفاع عن كرامتها وعزها وعن ثرواتها الطبيعية التي فيها حياتها واحتياجاتها ومعيشتها وبالتالي كل اقتصادها على المستوى الفردي والوطني؟ متى يعود الشعب العربي ليعيد روح اللآت الثلاث عملياً (لا للصلح، لا للمفاوضات، لا للاعتراف)؟
وأخيراً نسأل هل يعود علينا تموز/يوليو بثورة جديدة تعيد للإنسان العربي ثقته بنفسه من جديد بعد أن كفر وهاجر كما هُجّر من وطنه؟.. يبدو أن التشاؤم واليأس هي السمات الغالبة ظاهريا، إلا أن المناضل المؤمن بقدرة الشعب وطاقاته على الرغم من كل الذل الذي نراه ونسمعه في فلسطين المحتلة وفي أرجاء أخرى من البلاد العربية نقول أننا متفائلون لأننا ندرك أن بذور الخير وجذوة الثورة تكمن في تلك الأمة التي لم ولن ترضى بالذل والهوان رغم ما تعانيه من جور الحكام وظلم الطغيان.. وأن الغد لناظره قريب..