مرحباً ،
في صباح غير كل صباح ، وبمحض إرادة فكرة ، أتت إليّ رغبةٌ في قراءة جريدة .
لي عادةٌ قديمة بقراءة الجريدة من الصفحة الأخيرة ، زعماً منّي بأنّ ما وضع في
بدايتها أهم وأجدر من ما هو موضوع في الخلف ، ولأنّي أحب التشويق والانتظار
أفعل ذلك .
،
كاريكاتير ، أخبار عالميّة مختلفة ، إعلان لساعة ، و خبر غريب طريف كانت
الصفحة الأخيرة ، وبينما هممتُ بوضع إبهامي في الجزء الأيمن من الصفحة ،
إذ بها أنتِ ، مولودة في الصحيفة ، مزروعة في حقول اللازورد ، مصنوعة
من اللاوعي ، تعتلين أعلى الصفحة ، وترمُقين لي بعين ثاقبة ، تجتثّين ما لدي
من جرأة ، لأكفّ عن نظري إليك .
أنتِ يا كُل الكُل ، يا أمل طفلة بلعبة ، يا انتظار أم لجنينها ، يا لهفة السجين
للحريّة ، يا رجاء المريض ، يا كُل أسباب الحياة ، من أنتِ ؟
في حصّة التاريخ ، أنتِ الماضي ، وفي الجغرافيا أنت الحدود ، وفي العلوم
أنت الجاذبية ، وفي الطبّ أنت القلب ، وفي الحساب أنت اللانهاية ..!
،
أتذكّر أول لقاء ، عندما كُنّا في القطار ، كانت زجاجة النافذة تعكسُ
حُمرة شفاهك ، وكُحل عينيك ، كُنت أسترق النظر بين الفينة والأخرى
لأرى حُمرة الشمس في المغيب ، وما أزال أرقُب حتّى يخيم الليل في
كحل عينيك ..!
أتذكّر كيف اختلقتُ حجّة لتغيير مكان جلوسي كي أقترب منكِ ،
وكيف كانت نظرتُكِ الساخرة إليّ ، وكأنّكِ تعرفين ما قد وقع بي .
كيف استأذنتُكِ للجلوس ، وبنبرة ساخرة رددتِ :" أنا لا أمتلكُ القطار " .
أصعب لحظات قضيتها تلك ، عندما يكون في فمي كلام ، لا يفقهه
لساني .
حينها ، سألتُك عن الصباح وكيف بدا جميلا ذالك اليوم ، و لا أنسى
ردّك حينما قلت : أنّ الصباح دائما كذلك ، ما دمت رائحة القهوة تخرج
من فنجان يدك ، وما زالت العصافير تغرّد ، وما زال الضوء باقٍ
وفيروز .
كان لذلك الردّ ، أثر كبير فيني حيث أدمنت القهوة ،
وبدأت ألاعب العصافير في نوتة موسيقيّة ، و أراقب خصل الضوء
تتهادى من السماء كالمطر ، و أردد " حبيتك بالصيف ، حبيتك بالشتي "
أتذكّر كيف مرّ ذلك الطريق بتلك السرعة ، وكيف كان بطئياً ولا يكاد
ينتهي . أتذكر أفكارك ، ونظراتك ، وابتسامتك التي تُشع ضياءً ،
أتذكر كيف كّنت مُشرقة ، واضحة كالشمس ، وفيك من الغموض
ما لا نهاية له ، كنت الشيء وضدّه ، كُنت الدقائق الآتي يكونّ
المستقبل ، كنت قافية القصيدة ، كنت وحدك السيف في زمن
امتلأ بالعصيّ .
عطرك ، نعم عطرك ، يشبه الياسمين في رقّته ، كانت رائحتك
تُشبهك ، كانت كالمُحيط عمقاَ ، وكالسماء بُعداّ ، كان عطرك ندى
للروائح وشذى ، كان يصارع أكسجين الهواء ويغلبه .
وصلتُ وجهتي ، وذهبت و لم أعرف اسمك ، أو عنوانك .
فكنت المفقودة و المرجوّة ، وما زلتُ أبحث عنكِ في زوايا القطار
وفي فنجان قهوتي ، وفي الصبح ، وفي تغريد العصافير ،
وصوت فيروز .
تبّاً لهذه الجريدة ، ولخبر اصطدام القطار الذي سقط عليه إبهامي ،
و لرغبتي في قراءة جريدة ، ولي ..!
،