أعلن باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عن خروج تدريجي للقوات الأمريكية من أفغانستان بدءا من يوليو(تموز) القادم، وذلك بإخراج (30) ألف جندي أمريكي كمرحلة أولى، والحقيقة، أن التخطيط لخروج القوات الأمريكية وغيرها من قوات الحلف الأطلسي ليس جديدا؛ فالتمهيد لإخراج القوات الأمريكية من الورطة الأفغانية، كان واضحا منذ بداية انتخاب أوباما رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، وكانت المؤشرات واضحة لاتخاذ مثل هذا القرار منذ ذلك الوقت، وجاء ذلك بوضوح على لسان عدد من المسؤولين الأمريكيين، ولعل قمة ذلك الوضوح كان على لسان جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي الذي صرح بأن القوات الأمريكية ستخرج من أفغانستان حتى لو أمطرا السماء حجرا، أي أنهم سيخرجون من أفغانستان مهما كانت النتائج على أرض المعركة.
كما أن التمهيد للخروج من أفغانستان أو الهروب منها كان واضحا من خلال عدد من التغييرات الدرامية للأهداف المعلنة للحرب في أفغانستان، فبقدرة قادر تنبه المسئولون في أمريكا وبريطانيا وغيرهما من الدول الغربية، أنه ليس من مسؤوليتهم جعل أفغانستان دولة ديموقراطية، وتحسين وضع حقوق الإنسان فيها رغم أن هذا كان أحد الأهداف الرئيسية المعلنة في بداية خوض الحرب فى أفغانستان واحتلالها، وكذلك طرأ تغير مفاجئ على الخطاب الأمريكي في أفغانستان، فقرر الرئيس الأمريكي وسائر المسؤولين الأمريكيين أن لا يذكروا "الإرهاب" في خطاباتهم، وأن يغيروا عنوان الحرب فلا يسموها حربا على "الإرهاب"، رغم أنهم لم يعطوا لهذه الحرب عنوانا أو اسما جديدا, فبقيت الحرب بلا اسم ولا عنوان ولا هدف واضح، فإذا لم تكن هذه الحرب ضد الإرهاب الذى ملأت أمريكا به العالم ضجيجا فهي ضد ماذا ؟ وإذا كانت هذه الحرب ليست لتحقيق الديموقراطية ولا لحقوق الإنسان فما هو الهدف؟
وفي البداية تغيير أوباما للخطاب السياسي والإعلامي والأمريكي حسن كثير من المراقبين الظن به كرجل عقلاني، وظنوا أنه أراد بذلك تجنب اتهام المسلمين بالإرهاب، وتخفيف لهجة الخطاب الأمريكي ضد المسلمين، و رأوا فى ذلك مؤشرا لبوادر الرغبة فى التصالح مع العالم الإسلامي، ولاسيما بعد خطابه الشهير فى القاهرة، ولكن ظهرا الآن أن ذلك التغيير فى الخطاب كان موجها للداخل الأمريكي تمهيدا للرأى العام الأمريكي والغربي عموما، لتقبل الهروب من أفغانستان،وتصوير ذلك بأنه انسحاب بعد إنجاز مهمة، وليس هروبا ، وبالتالي فلا حاجة للبقاء أفغانستان.
كما أن الإدارة الأمريكية اتخذت عددا من الخطوات الدراماتيكية، للتمهيد لهذا الخروج أو الهروب، ولعل أبرز تلك الخطوات، قتل أسامة بن لادن أو الإعلان عن قتله، وكان واضحا من الخطاب أوباما بعد مقتل ابن لادن، ومن تصريحات عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكى بعد ذلك الحدث، أن الهدف من ذلك هو التمهيد للهروب من أفغانستان، والإعلان للشعب الأمريكي، وللعالم أن المهمة قد انتهت، وأن أمريكا قد انتصرت، فحان الوقت لرجوع الجنود منتصرين.
كما أن أمريكا اتخذت عددا آخر من مثل هذه الخطوات على هذا الصعيد كالإعلان عن التصالح من جماعة طالبان، والسعى الحثيث وراء ذلك، ولعل قمة تلك الخطوات كانت اتخاذ مجلس الأمن قرارا بـ(فصل) "طالبان" من جماعة "القاعدة" ، ويا له من قرار!
فمجلس الأمن الدولي يقرر فصل جماعة "طالبان" عن جماعة "القاعدة "، فكأن الجماعتين مؤسستان تابعتان للأمم المتحدة فاتخذ مجلس الأمن قرارا إداريا بفصلهما وجعل كل واحد منهما مؤسسة مستقلة.
ولم يبين مجلس الأمن ما الذى تغير فى الجماعتين، حتى يفصلا عن بعضهما، وهل تغير في إيديولوجية الجماعتين شيء؟ وهل أعلنت جماعة طالبان أنها تعترف بحقوق الإنسان حسب المفهوم الغربي؟ أو تؤمن بالديموقراطية وبحقوق المرأة حسب المفهوم الغربى وتأذن لها بالذهاب إلى المدارس، وبممارسة العمل السياسي وتوليها للمناصب السياسية، وغير ذلك من الأمور التى اعتبرت من أجلها جماعة إرهابية وتراجعت عن تلك الأفكار؟
ولكن بقى أن يفصل مجلس الأمن بين مكاتب الجماعتين ومراكزهما ومعسكراتهما فى وزيرستان ووانا وكويتا وقندهار.
وهذا مما يدل على أن إحتلال أفغانستان والحرب على " الإرهاب" لم يكن لأسباب حقيقية، بل لما كانت مصلحة أمريكا تقتضى أن تعتبر جماعة "طالبان" جماعة إرهابية ولتتخذ ذلك ذريعة لاحتلال أفغانستان دمجت تلك الجماعة بجماعة القاعدة، ولما اقتضت مصلحتها الهروب من أفغانستان فصلت بينهما .
ولكن السؤال المهم هو: هل خروج القوات الأمريكية وقوات حلف الناتو من أفغانستان انسحاب أم هروب؟
للإجابة عن هذا السؤال، لابد من النظر فى مدى تحقيق الأهداف المعلنة لهذه الحرب عند بدايتها، لا بعد تغييرها من قبل الإدارة الأمريكية عندما رأت استحالة تحققها، فإذا كانت هذه الأهداف قد تحققت، فهو انسحاب بعد أداء المهمة بل هو انتصار، وأما إذا لم تتحقق الأهداف فهو هروب وهزيمة .
وكانت الأهداف المعلنة للاحتلال الأمريكي في أفغانستان هي: القضاء على جماعة " القاعدة" وجماعة "الطالبان" والقضاء على المخدرات، وتحقيق الديموقراطية وحقوق الإنسان في أفغانستان، وبالنظر في هذه الأهداف، يظهر جليا أنه لم يتحقق أي واحد منها؛ فجماعة "القاعدة" مازالت موجودة، ولم يتم القضاء عليها وإن كانت الإدارة الأمريكية تريد التظاهر بأنها قد قضت عليها بقتل زعيمها، وأما جماعة "طالبان" فباتت أقوى مما كانت غداة سقوطها، وها هى أمريكا تحاول أن تتصالح معها وتفرق بينها وبين جماعة "القاعدة"، بل إن هناك تقارير تفيد بأن الإدارة الأمريكية، تريد أن تسلم لها جنوب أفغانستان برمته، وأما تجارة المخدرات وإنتاجها، فازدهرت في عهد الأمريكيين والحكومة الموالية لها، بل إن كبار رجال في هذه الحكومة متهمة بالاتجار فيها.
وبالنظر إلى هذه الأمور، يمكن للمراقب المحايد أن يحكم هل خروج أمريكا من أفغانستان انسحاب أم هروب؟
ولا شك أنه هروب، بل هو هروب كبير ولكن هذا الهروب سيكون ثمنه باهظا بالنسبة الأمريكيين والأفغانيين على حد سواء.
وأما بالنسبة للأمريكيين؛ فتداعيات هذا الهروب الكبير و آثارها ستكون كارثية عليهم على المدى القريب والبعيد؛ فالاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق أضعف الاقتصاد الأمريكي بشكل كبير، وتسبب فى الأزمة المالية العالمية، التي ما زال الاقتصاد الأمريكي يعاني منها، ولا يوجد هناك أمل بالخروج من تلك التداعيات على المدى القريب، ثم صورة أمريكا كقوة عظمى وهيبتها اهتزت فى العالم، ولم تعد في نظر الكثيرين تلك القوة العظمى التى لا تقهر، وبعد الهروب من أفغانستان ستهتز أكثر، وهذا يؤدى إلى فقدان سيطرتها الاقتصادية والتجارية والسياسية على العالم، وهو بدوره سيفاقم الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها أمريكا في الوقت الحالي، ولا سيما إذا علمنا أن اقتصاد أمريكا يعتمد في جزء كبير منه على ما يتدفق من الأموال من خارجها سواء كان ذلك على شكل استثمارات خارجية أو الإيرادات التجارية أو الودائع في البنوك .
وبالإضافة إلى ذلك، فإنه ستكون لهروب القوات الأمريكية من أفغانستان آثار اجتماعية وسياسية ونفسية على الشعب الأمريكي .
وكل هذه الأمور وغيرها، سترشح الولايات المتحدة الأمريكية للالتحاق بالاتحاد السوفيتي السابق.
وأما آثار هذا الهروب، فقد لا تكون أقل كارثية على الشعب الأفغاني منها على الأمريكيين، فإذا خرجت القوات الأمريكية، فهي ستترك الحكومة الأفغانية الحالية فريسة لجماعتي "الطالبان" و"القاعدة" وبعد سقوطها ستتجدد الحروب الأهلية والعرقية بين مكونات الشعب الأفغاني؛ فتاريخ الشعب الأفغانى أثبت أنه من السهل عليهم إلحاق الهزيمة بالمحتلين والانتصار عليهم، إلا أنهم لم يستفيدوا من تلك الانتصارات ، فلم ينتصروا على أنفسهم، وهذا يتطلب من أهل الحل والعقد في العالم الإسلامي، أن يتداركوا الأمر، ويحاولوا ترتيب الأمور في أفغانستان، قبل خروج القوات الأمريكية منها.