بإرادة الصائمين كان النصر في غزوة بدر .. وبدر كانت نصر ووعد .. أما النصر فقد تحقق بنصر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم .. وأما الوعد فباق طالما كانت هناك أمة تصوم فتنتصر .
انتصرت إرادة المسلمين في بدر رغم أنه لم يكن في الحسبان أن الأمر سينتهي إلى معركة وقتال فلقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السابع من رمضان في السنة الثانية من الهجرة ليسترد أموال المسلمين السليبة من قافلة أبي سفيان .. خرج المسلمون ليقطعوا على المشركين شريان حياتهم الاقتصادي في تجارتهم مع الشام ولكن الأمر انتهى إلى معركة وقتال .. ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين )ْ7ْ الأنفال .
إنها إرادة وعزيمة الصائم سعد بن معاذ رضي الله عنه عندما استشار الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين هل يثبتوا لمواجهة المشركين الذين تجهزوا لحربهم أم يعودوا إلى المدينة بعد أن أفلتت قافلة قريش ؟ .. يشير المقداد بن عمرو بالثبات ( امض لما أمرك الله فنحن معك .. والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى .. اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ) .. ولكن عين الرسول على الأنصار فينهض سعد بن معاذ من بينهم ( والله لكأنك تريدنا يا رسول الله .. لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة .. والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا .. إنا لصبر في الحرب .. صدق في اللقاء .. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ) .
إنها إرادة وعزيمة الصائم سعد بن معاذ رضي الله عنه كما أنها إرادة وعزيمة وشفافية النبي الصائم المستجاب الدعوة ( سيروا على بركة الله وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ) ويبتهل صلى الله عليه وسلم إلى الله ( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك .. اللهم فنصرك الذي وعدتني ) .. لو حسبها صلى الله عليه وسلم وصحابته حساب إمكانات مادية ما كانت بدر فهم ثلاثمائة يزيدون قليلا .. قلة لا تجد ما تركب أو ما تأكل أمام ألف يزيدون أو يقلون يركبون الخيل ومعهم ما ينحرون ومعهم دفوف ونساء ليلهى ويتسلى الجنود .
إنها إرادة الصائم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .. الصحابي الجليل قصير القامة الذي يصعد فوق صدر أبي جهل فيخاطبه أبو جهل وهو تحت قدمه ( لقد ارتقيت مرتقى صعبا يارويعي الغنم ) ولكن سيف مسلم أجهز عليه 0
إنها إرادة الصائم بلال بن رباح الذي رأى أمية بن خلف أسيرا في يد عبد الله بن الزبير فيصيح بلال ( أمية بن خلف رأس الكفر .. لا نجوت إن نجا .. لا نجوت إن نجا ) يحول عبد الله بينه وبين أسيره فيستنصر بلال بإخوانه ويصيح ( يا أنصار الله .. أمية بن خلف رأس الكفر .. لا نجوت إن نجا .. لا نجوت إن نجا ) ويواصل بلال متابعته لهدفه حتى يقتل المسلمون أمية بن خلف .
بدر معجزات ودروس
وفي بدر معجزات ودروس .. ومن المعجزات نعرض لثلاث ونبدأ بأعظمها .. استغاثة الرسول صلى الله عليه وسلم ومدد الله سبحانه بملائكته .. بدأت المعركة كعادتها بالمبارزة وبرز من المشركين عتبة بن ربيعة وأخاه شيبة وابنه الوليد .. يدفع الرسول صلى الله عليه وسلم بحمزة بن عبد المطلب ( أسد الله ورسوله ) وعلي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه ) وعبيدة بن الحارث ( رضي الله عنه ) .. يلقى حمزة عتبة فيقتله ويلقى علي الوليد فيقتله ويلقى عبيدة شيبة فيصيب شيبة ساق عبيدة فينتصر له أخواه فيقتلان شيبة .. كانت هذه البداية وكانت هذه بشارة النصر .
يبدأ المسلمون المعركة من موقعهم الاستراتيجي الذي اختاره رسولهم الكريم بعد مشاورتهم .. يبدأ المسلمون بقذف السهام على قريش .. يصيح أبو بكر - الصديق رضي الله عنه – ( اجعلوا شعاركم .. أحد .. أحد ) .. يحمل المشركون على المسلمين ولكن المسلمين ثابتون ( أحد .. أحد ) .. تشتد المعركة .. الرسول صلى الله عليه وسلم في مركز القيادة يدير المعركة – عريش من جريد على ربوة عالية أشار به سعد بن معاذ وبناه مع بعض المسلمين قبل بدء المعركة – تشتد المعركة .. رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتهل ( يا حي يا قيوم .. يا حي يا قيوم .. يا حي يا قيوم) .. بعض الصحابة يحيطون بعريش رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الرسول يبتهل ( يا حي يا قيوم .. يا حي يا قيوم .. يا حي يا قيوم ) .. يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخفق خفقة .. بقوم من خفقته .. ينادي أبا بكر .. الصديق يلبي .. يبشره الرسول صلى الله عليه وسلم ( أبشر أبا بكر .. أتاك نصر الله .. هذا جبريل آخذا بعنان فرسه يقوده وعلى ثناياه النقع ) .. تلك كانت الاستغاثة وذلك كان المدد الذي أخبرنا القرآن عنه ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ْ123ْ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ْ124ْ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ْ125ْ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ْ126ْ ) آل عمران .. ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ْ9ْ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ْ10ْ ) الأنفال
.. إنها إرادة الله وتثبيته ونصره ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ْ12ْ ) ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ْ17ْ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ْ18ْ ) الأنفال
والمعجزة الثانية معجزة النعاس .. قبل المعركة ووسط الخوف من لقاء جمع المشركين بعددهم وعدتهم ينعم الله على المسلمين بالنعاس فيغشاهم النوم ثم صحون منه وقد اطمأنت قلوبهم وغمرت السكينة نفوسهم وإذا بهم يستبشرون بالنصر ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه "11" ) الأنفال .. وهكذا كان يوم أحد .. تكرر الفزع وتكرر النعاس وتكررت الطمأنينة .
والمعجزة الثالثة معجزة المطر .. ( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ْ11ْ) الأنفال.. وبعد النعاس فإذا بالمطر ينزل فيروي به ظمأهم .. ينزل الماء ليطهرهم به إذا مستهم جنابة أثناء النوم .. ينزل الماء فيثبت به الرمال فتثبت الأقدام عند لقاء العدو
ومن الدروس نكتفي بأربعة .. ونبدأ بأولها .. أمر المؤمنين كله خير .. نقدر ما نقدر ولكن الله يقدر ما يشاء وفي قدره كل الخير لعباده من المؤمنين .. فكما يقول الأستاذ مصطفى مشهور المرشد العام للإخوان المسلمين في مقال أخير له .. هناك فرق كبير جدا بين ما يطلبه الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم .. فغزوة بدر كانت ستمضي في التاريخ حسب مقاييس المؤمنين - غير ذات الشوكة - فتصبح قصة تجارة وقافلة غنمها المسلمون واستولوا عليها وعادوا إلى المدينة ، وهذا ما أراده المسلمون وخرجوا من المدينة لأجله ، أما ما أراده الله سبحانه وتعالى: أن تكون موقعة وغزوة ، ونصر عقيدة وانتصار الحق على الباطل ، وانتصار القلوب حين تتصل بالله ، فإذا الحق راجح غالب .
الدرس الثاني درس الإمكانات والإرادة الذي أشرنا إليه .. الإمكانات ليست إمكانات مادية فقط ولكنها إمكانات مادية ومعنوية وثقافية وحضارية وعقدية وفي كل الجبهات .. الإمكانات إمكانات قوة شاملة وليست قوة عسكرية فقط .. أما الإرادة فإنها أعظم ما تكون مع الصيام .. ولا تجدي ذخيرة العتاد والسلاح إلا إذا كانت مؤيدة بقوة الإيمان واليقين الحق .
الدرس الثالث هو درس الثبات والصبر عند مواجهة الأعداء .. الثبات والصبر هما عدة القتال الأولى .. ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ْ15ْ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ْ16ْ) الأنفال
درس رابع لا يقل أهمية هو درس الشورى .. ونعرض فيه لمواقف ثلاثة .. الموقف الأول الذي أشرنا إليه وهو استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته : هل يعودون للمدينة بعد أن أفلتت قافلة قريش أم ينتظرون الكفار لمواجهتهم ؟ .. وأشار عليه المهاجرون والأنصار ممثلين في المقداد بن عمرو وسعد بن معاذ بالثبات والقتال .
الموقف الثاني لدرس لشورى هو منزل الحرب .. فلقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى موقع لينزلوا به فإذا الحباب بن المنذر يسأل الرسول الكريم ( أرأيت هذا المكان أمنزلا أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟! ) ويجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم ( بل هو الرأي والحرب والمكيدة ) فيشير عليه الحباب بموقع آخر بالقرب من القليب ليتحكموا في الماء ويمنعونه عن المشركين .
الموقف الثالث لدرس الشورى هو مشورة الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين الذين أعزهم الله بالنصر بشأن أسرى المشركين .. يشير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – بقتلهم ويشير أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – بقبول الدية ومن لا يملك فليعلم عشرا من غلمان المسلمين .. ويأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأي أبو بكر ويقبل الدية .. إعمال لمبدأ الشورى الذي أمر الله رسوله الكريم به .. فالشورى واجبة طالما لم يكن هناك نص .. وينزل القرآن الكريم مؤيدا لرأي عمر الذي لم يؤخذ به .. ولا حرج في ذلك طالما لم يكن هناك نص .. ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ْ67ْ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ْ68ْ ) الأنفال .. هذا هو درس الشورى .. والشورى سابقة على التشريع فأغلب آيات التشريع مدنية ولقد عاش المجتمع المسلم ثلاث عشرة سنة في مكة قبل المدينة فما الذي كان يحكم المسلمين .. الإجابة بوضوح هي الشورى فالشورى سابقة على التشريع .
تحياتي للجميع
منقول