مجاهد مأمون ديرانية
يتصور كثير من الناس أن الدعاء يصنع المعجزات، وأنا كنت كذلك مدة من الزمن في طفولتي وشبابي، ثم أدركت أن الدعاء لا يصنع المعجزات، ولكنه يمكن أن يحقق الأعاجيب. ما الفرق بينهما؟ سأبيّن الفرق كما أفهمه، وإن أخطأت فأرجو أن تردّوا عليّ خطئي، فإن هذه المعاني مما خطر ببالي بعد طول تأمل وتدبر في آيات الدعاء وأحاديثه وأخباره، ما قرأتها في مكان ولا سمعتها من أحد، وكل اجتهاد عرضةٌ للخطأ كما أنه مظنّةٌ للصواب.
قلت إن الدعاء يحقق الأعاجيب ولكنه لا يحقق المعجزات. فما الفرق بينهما؟ المعجزة هي مخالفة قانون من قوانين الوجود، وهذا الأمر لا يكون إلا لنبي من الأنبياء، كما أحيا عيسى عليه السلام الموتى وكما وقع إبراهيم عليه السلام في النار ولم يحترق، وكما خالف نبينا الأكرم عليه الصلاة والسلام قوانين الزمان والمكان الفيزيائية في حادثة المعراج.
أما العجائب فإنها اجتماع طائفة من الأحوال والظروف في ترتيب غير مألوف لتحقيق نتيجة غير متوقَّعة. ومن صفات العجائب أنها تخالف -غالباً- القوانينَ الإحصائية العامة، لكنها لا تخالف القوانين الطبيعية. سأضرب مثلاً: أنا أقيم في جدّة، والطريق من بيتي إلى المطار يستغرق في أوقات الازدحام المعتادة نحواً من ثلثَي ساعة، ولو كانت الطرق خالية من السيارات أو تكاد فقد لا يزيد على ثلث ساعة. كثيراً ما كنت على سفر واضطررت إلى قطع الطريق في وقت الازدحام، وكثيراً ما كنت متأخراً (وهي عادة سخيفة لم أتخلص منها على كثرة محاولاتي المُخْلصة على مرّ السنين) ويستبدّ بي القلق والخشية من أن تفوتني الطيارة فأجتهد بالدعاء، وإذا بالرحلة إلى المطار تتيسر غاية التيسير وأجد الطرق على غير ازدحامها المعهود في ذلك الوقت المحدد، فأصل ضمن الوقت وأدرك الطيارة في موعدها.
في هذه الحالة لم يتسبب الدعاء في اختراق للقوانين الطبيعية، ولكنه جمع بعض الظروف الغريبة وغير المألوفة إحصائياً، جمعها في نَسَق واحد أثمر نتيجة غير متوقعة. يمكن أن أسمّي هذه النتيجة “تيسيراً” أو “توافقاً عجيباً” تَمّ بقَدَر قدره الله استجابة للدعاء المخلص، وهو يجري ضمن القوانين الطبيعية وليس بتجاوزها ومخالفتها، وعندما يسمع بمثل هذه الحادثة الآخرون فإنهم يستغربون، وقد يقول قائلهم: “يا للغرابة! كيف وصلت بهذه السرعة؟” لكنهم لا يقولون: “مستحيل، لا شك أنك تخدعنا أو تتخيل خيالات لا أصل لها”. قارنوا بين هذا الأمر وبين عودة الميت إلى الحياة. لو مات إنسان عزيز علينا، عالِمٌ من العلماء الربانيين مثلاً (وقليلٌ ما هم) فاجتمع الآلاف من المسلمين وراحوا يجأرون إلى الله بالدعاء بأن يردّ عليه الروح، هل يُستجاب الدعاء وترتد إليه الروح؟ إحياء الموتى معجزة أعطاها الله لنبي من أنبيائه وهي تخالف قوانين الوجود، والدعاء لا يخالف القوانين، لذلك فإنه لا يحيي الأموات.
هذا هو الفرق بين العجائب والمعجزات.
* * *
إذن لنتفق على أن الدعاء لا يحقق المعجزات، هذه الأولى. الثانية أهم: الدعاء لا يمكن أن يُستجاب على الدوام. إننا نتوصل إلى هذه البديهية بالتفكير المنطقي ولو لم تدل عليها النصوص (ولكنها تدل عليها كما سنرى لاحقاً). لو صَحّ المعنى الذي نفهمه من ظاهر الآية {ادعوني أستجب لكم} والآية {أجيبُ دعوةَ الداع إذا دعان}، لو صَحّ المعنى الظاهر المباشر الذي تدل عليه هاتان الآيتان وأمثالهما لما بقي في الدنيا مرض ولا فقر ولا بلاء، لأن كل مريض يدعو الله بالشفاء وكل فقير يدعوه بالغنى وكل مبتلى يدعوه بالعافية، فإذا كانت الاستجابة لكل دعاء حتميةً ارتفع ذلك كله من الأرض وغدت الدنيا قطعة من الجنة. لكن هذا لا يكون ولا يمكن أن يتحقق لأنه يخالف أصلاً من الأصول التي بُنيت الدنيا عليها، وهو أنها دار ابتلاء وشقاء: {لقد خلقنا الإنسان في كبَد}، {ولنَبلُوَنّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفُسِ والثمرات}.
ولو صح معنى الآيات على ظاهرها لما بقي في الدنيا شر ولصارت كلها خيراً محضاً، لأن الأخيار يَدْعون على الأشرار فيُستجاب دعاؤهم فيأخذهم الله أخذاً عزيزاً ويريح منهم العباد، لكن هذا لا يمكن أن يتحقق لأنه يخالف أصلاً آخر من الأصول التي بُنيت الدنيا عليها، وهو أنها دار خير وشر: {ونبلوكم بالشرّ والخير}، {وكذلك فَتَنّا بعضَهم ببعض}، {قال اهبطا منها جميعاً، بعضكم لبعض عدو}.
لو أجاب الله كل دعاء لكل مضطر لأبصر كل أعمى وسمع كل أصمّ ونطق كل أبكم، ولبرئ من مرضه كل مريض واغتنى كل فقير. لو أجاب الله كل دعاء لكل عبد صالح لما بقيت عانس بلا زواج ولا والدان بلا ولد. لو أجاب الله كل دعاء لهلك الطغاة والأشرار وانتصر الخير على الدوام. لو أجاب الله كل دعاء لما بقي في الدنيا ما يضرّ وما يسوء، على الأقل كانت الصراصير ستختفي من الوجود بفضل دعاء كاتب هذه الكلمات الذي يبغضها كأكثر ما يبغض إنسانٌ شيئاً من المخلوقات. لو أجاب الله كل دعاء سيكفّ الناس عن الموت ويَخلدون في الحياة، لأن لكل مَن حان أجلُه مُحِباً يأسى لفراقه ولا بد أن يجتهد في الدعاء له بطول العمر.
باختصار: لو أن كل الأدعية أُجيبت لما بقيت الدنيا هي الدنيا التي أرادها الله، ولصارت قطعة من جنّة الآخرة.
* * *
ثم إن الدعاء قد يصطدم بعضه ببعض، فكيف يستجاب كله حتماً؟ لو أن الموظفين في شركة تنافسوا على منحة أو وظيفة عالية وأخلصوا كلهم الدعاء فلن ينالها إلا واحد، ولو أعجب بالفتاة الحسناء العددُ من الشبّان ودعا كل منهم أن تكون زوجتَه فلن تكون إلا لواحد، ولو بقي في رحلة الطيارة مقعد والمضطرون إلى السفر عشرة ودعَوا جميعاً فلن يظفر به إلا واحد، ولو ولو ولو… عدّدوا ما شئتم وفكروا بما شئتم وسوف تجدون مئات من الأمثلة ومئات، مما يدل قطعاً على أن الدعاء لا يمكن أن يستجاب جميعه، ولا حتى أكثره، بل الأقل منه على التحقيق.
ولو أن الدعاء يُستجاب لكل داع لكان أَولى الناس بالاستجابة الأنبياء. أليس أول ما يدعو به نبيٌّ ربَّه أن يهدي قومه؟ وكم نبياً اهتدى قومُه بدعوته؟ الذين نعرفهم وخبّرنا القرآن بخبرهم لم تثمر دعوتهم إلا العدد القليل من الأتباع بعد العدد الكبير من السنين.
وماذا عن ابتلاء الأنبياء؟ أمَا دعوا الله أن يكشف عنهم البلاء؟ لو قال قائل إنهم لم يفعلوا لهجاهم وانتقص منهم، لأن الدعاء عبادة يتقرب بها العابد إلى المعبود، والأنبياء هم أحق الناس بها ولا بد أنهم أحرص الخلق عليها. لقد انتظر إبراهيم عليه السلام طويلاً حتى جاءه الولد على الكِبَر، فهل يستوي ولد في آخر العمر مع أولاد في أوله؟ ويعقوب عليه السلام الذي فقد ولده الصغير الأثير، يوسف عليه السلام، كم انتظر من سنوات كلُّ يوم من أيامها طولُه سنةٌ حتى ردّ الله عليه ولده المفقود؟ وحتى عند ذلك، هل عاضَه ردُّ ولده رجلاً عن فقده طفلاً؟ هل ذهبت معاناة السنين وحسرات الليالي التي انقضت بالدعاء والانتظار؟
منقول