كان عبد الله بن عمر t حريصًا كل الحرص على أن يفعل ما كان الرسول يفعله، فيصلي في ذات المكان، ويدعو قائمًا كالرسول الكريم، بل يذكر أدق التفاصيل؛ ففي مكة دارت ناقة الرسول دورتين قبل أن ينزل الرسول من على ظهرها ويصلي ركعتين، وقد تكون الناقة فعلت ذلك بدون سبب، لكن عبد الله t لا يكاد يبلغ نفس المكان في مكة حتى يدور بناقته ثم ينيخها ثم يصلي لله ركعتين تمامًا كما رأى الرسول يفعل، وتقول في ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "ما كان أحد يتبع آثار النبي في منازله كما كان يتبعه ابن عمر t". حتى إنّ النبي نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر t يتعاهد تلك الشجرة، فيصبُّ في أصلها الماء لكيلا تيبس.
جهاده
أول غزوات عبد الله بن عمر t كانت غزوة الخندق، فقد اسْتُصْغِرَ يوم أُحد، ثم شهد ما بعدها من المشاهد، وخرج إلى العراق وشهد القادسية ووقائع الفرس، وورَدَ المدائن، وشهد اليرموك، وغزا إفريقية مرتين.
وكان ابن عمر t رجلاً آدم جسيمًا ضخمًا، يقول ابن عمر: "إنّما جاءتنا الأدْمة من قِبل أخوالي، والخال أنزعُ شيء، وجاءني البُضع من أخوالي، فهاتان الخصلتان لم تكونا في أبي t؛ كان أبي أبيض، لا يتزوَّج النساء شهوةً إلا لطلب الولد".
قيامه الليل
يحدثنا ابن عمر t: "رأيت على عهد رسول الله كأن بيدي قطعة إستبرق، وكأنني لا أريد مكانًا من الجنة إلا طارت بي إليه، ورأيت كأن اثنين أتياني وأرادا أن يذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطيّ البئر، فإذا لها قرنان كقرني البئر، فرأيت فيها ناسًا قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار. فلقينا ملك فقال: لا تُرَع. فخليا عني، فقصَّتْ حفصة أختي على النبي رؤياي، فقال رسول الله : "نِعْمَ الرجلُ عبد الله، لو كان يصلي من الليل فيكثر". ومنذ ذلك اليوم إلى أن لقي ربَّه لم يدع قيام الليل في حلِّه أو ترحاله.
تقواه وعلمه
كان عبد الله t مثل أبيه t تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن؛ فقد جلس يومًا بين إخوانه فقُرئ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ *الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ *أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ *لِيَوْمٍ عَظِيمٍ *يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين: 1-6]، ثم مضى يردد: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ودموعه تسيل كالمطر، حتى وقع من كثرة وجده وبكائه.
وكتب رجل إلى ابن عمر t فقال: "اكتبْ إليَّ بالعلم كله". فكتب إليه ابن عمر: "إن العلم كثيرٌ، ولكن إن استطعتَ أن تلقى الله خفيفَ الظهر من دماء الناس، خميص البطن من أموالهم، كافًّا لسانك عن أعراضهم، لازمًا لأمر الجماعة فافعلْ، والسلام".
شدة ورعه
دعاه يومًا الخليفة عثمان t وطلب منه أن يشغل منصب القضاء فاعتذر، وألحَّ عليه عثمان فثابر على اعتذاره، وسأله عثمان t: "أتعصيني؟" فأجاب ابن عمر t: "كلا، ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة: قاضٍ يقضي بجهل فهو في النار، وقاضٍ يقضي بهوى فهو في النار، وقاضٍ يجتهد ويصيب؛ فهو كفاف لا وزر ولا أجر، وإني لسائلك بالله أن تعفيني". وأعفاه عثمان t بعد أن أخذ عليه عهدًا ألاَّ يخبر أحدًا؛ لأنه خشي إذا عرف الأتقياء الصالحون أن يتبعوه وينهجوا نهجه.
حذره
كان t شديد الحذر في روايته عن الرسول ، فقد قال معاصروه: "لم يكن من أصحاب رسول الله أحدٌ أشد حذرًا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه من عبد الله بن عمر".
كما كان شديد الحذر والحرص في الفُتيا، فقد جاءه يومًا سائل يستفتيه في سؤالٍ، فأجابه قائلاً: "لا علم لي بما تسأل". وذهب الرجل إلى سبيله، ولا يكاد يبتعد بضع خطوات عن ابن عمر حتى فَرَك ابن عمر كفيه فرحًا، ويقول لنفسه: "سُئل ابن عمر عمّا لا يعلم، فقال لا يعلم".
جوده
كان ابن عمر t من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة؛ إذ كان تاجرًا أمينًا ناجحًا، وكان راتبه من بيت مال المسلمين وفيرًا، ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قَطُّ، إنما كان يرسله على الفقراء والمساكين والسائلين، فقد رآه أيوب بن وائل الراسبي وقد جاءه أربعة آلاف درهم وقطيفة، وفي اليوم التالي رآه في السوق يشتري لراحلته علفًا دَيْنًا، فذهب أيوب بن وائل إلى أهل بيت عبد الله وسألهم، فأخبروه: "إنه لم يبت بالأمس حتى فرَّقها جميعًا، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره وخرج، ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها فقال: إنه وهبها لفقير".
كما كان عبد الله بن عمر t يلوم أبناءه حين يولمون للأغنياء ولا يأتون معهم بالفقراء، ويقول لهم: "تَدْعون الشِّباع، وتَدَعون الجياع".
زهده
أهداه أحد إخوانه القادمين من خُراسان حُلَّة ناعمة أنيقة، وقال له: "لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان، وإنه لتقر عيناي إذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه، وترتدي هذا الثوب الجميل". قال له ابن عمر: "أرِنيه إذن". ثم لمسه وقال: "أحرير هذا؟" قال صاحبه: "لا، إنه قطن". وتملاّه عبد الله قليلاً، ثم دفعه بيمينه وهو يقول: "لا، إني أخاف على نفسي، أخاف أن يجعلني مختالاً فخورًا، والله لا يحب كل مختال فخور".
وأهداه يومًا صديق وعاءً مملوءًا، وسأله ابن عمر t: "ما هذا؟" قال: "هذا دواء عظيم، جئتك به من العراق". قال ابن عمر: "وماذا يُطَبِّب هذا الدواء؟" قال: "يهضم الطعام". فابتسم ابن عمر t وقال لصاحبه: "يهضم الطعام! إني لم أشبع من طعام قَطُّ منذ أربعين عامًا".
لقد كان عبد الله t خائفًا من أن يقال له يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]. كما كان يقول عن نفسه: "ما وضعت لَبِنَة على لَبِنَة، ولا غرست نخلة منذ تُوُفِّي رسول الله ". ويقول ميمون بن مهران: "دخلت على ابن عمر t، فقَوَّمتُ (ثَمَّنْتُ) كل شيء في بيته من فراش ولحاف وبساط، ومن كل شيء فيه، فما وجدته يساوي مائة درهم".
موقفه من الخلافة
عُرضت الخلافة على ابن عمر t عدة مرات فلم يقبلها، فها هو الحسن t يقول: "لما قُتِل عثمان بن عفان، قالوا لعبد الله بن عمر t: "إنك سيِّد الناس وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس". قال: "إني والله لئن استطعت، لا يُهرَاق بسببي مِحْجَمَة من دم". قالوا: "لَتَخْرُجَنَّ أو لنقتُلك على فراشك". فأعاد عليهم قوله الأول، فأطمعوه وخوفوه، فما استقبلوا منه شيئًا".
واستقر الأمر لمعاوية t ومن بعده لابنه يزيد، ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدًا فيها بعد أيام من توليه، وكان عبد الله بن عمرt شيخًا مسنًّا كبيرًا، فذهب إليه مروان وقال له: "هَلُمَّ يدك نبايع لك؛ فإنك سيد العرب وابن سيدها". قال له ابن عمر t: "كيف نصنع بأهل المشرق؟" قال مروان: "نضربهم حتى يبايعوا". قال ابن عمر t: "والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عامًا، ويقتل بسببي رجل واحد". فانصرف عنه مروان.
موقفه من الفتنة
رفض t استعمال القوة والسيف في الفتنة المسلحة بين عليٍّ ومعاوية، وكان الحياد شعاره ونهجه: "من قال حيَّ على الصلاة أجبته، ومن قال حيَّ على الفلاح أجبته، ومن قال حيَّ على قَتْل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت: لا". يقول أبو العالية البراء: "كنت أمشي يومًا خلف ابن عمر وهو لا يشعر بي، فسمعته يقول: "واضعين سيوفهم على عَوَاتِقِهم، يقتل بعضهم بعضًا، يقولون: يا عبد الله بن عمر، أَعْطِ يدك".
وفاته
كُفَّ بصر عبد الله بن عمر t آخر عمره، وقد مات بمكة سنة أربع وسبعين للهجرة، وقيل: سنة ثلاث وسبعين وهو ابن أربع وثمانين سنة.
منقول