وقال إبراهيم بن محمد الشافعي : سمعت سفيان بن عيينة يقول : فضيل ثقة .
وقال أبو عبيد : قال ابن مهدي : فضيل رجل صالح ، ولم يكن بحافظ .
وقال العجلى : كوفي ثقة متعبد ، رجل صالح ، سكن مكة .
وقال محمد بن عبد الله بن عمار : ليت فُضَيلا كان يحدثك بما يعرف ، قيل لابن عمار : ترى حديثه حجة ؟ قال : سبحان الله . وقال أبو حاتم : صدوق . وقال النسائي : ثقة مأمون ، رجل صالح . وقال الدارقطني : ثقة .
قال محمد بن سعد : ولد بخراسان بكورة أبيورد ، وقدم الكوفة وهو كبير ، فسمع من منصور وغيره ، ثم تعبد ، وانتقل إلى مكة ونزلها إلى أن مات بها في أول سنة سبع وثمانين ومائة في خلافة هارون ، وكان ثقة نبيلا فاضلا عابدا ورعا ، كثير الحديث .
وقال أبو وهب محمد بن مزاحم : سمعت ابن المبارك يقول : رأيت أعبد الناس عبد العزيز بن أبي روَّاد ، وأورع الناس الفضيل بن عياض ، وأعلم الناس سفيان الثوري ، وأفقه الناس أبا حنيفة ، ما رأيت في الفقه مثله.
وروى إبراهيم بن شماس ، عن ابن المبارك قال : ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض .
قال نصر بن المغيرة البخاري : سمعت إبراهيم بن شماس يقول : رأيت أفقه الناس ، وأورع الناس ، وأحفظ الناس وكيعا والفضيل وابن المبارك .
وقال عبيد الله القواريري : أفضل من رأيت من المشايخ : بشر بن منصور، وفضيل بن عياض ، وعون بن معمر ، وحمزة بن نجيح. قلت : عون وحمزة لا يكادان يعرفان ، وكانا عابدين . قال النضر بن شميل : سمعت الرشيد يقول : ما رأيت في العلماء أهيب من مالك ، ولا أورع من الفضيل .
وروى أحمد بن أبي الحواري ، عن الهيثم بن جميل ، سمعت شريكا يقول : لم يزل لكل قوم حجة في أهل زمانهم ، وإن فضيل بن عياض حجة لأهل زمانه ، فقام فتى من مجلس الهيثم ، فلما توارى ، قال الهيثم : إن عاش هذا الفتى يكون حجة لأهل زمانه ، قيل : من كان الفتى ؟ قال : أحمد بن حنبل .
قال عبد الصمد مردويه الصائغ : قال لي ابن المبارك : إن الفضيل بن عياض صدق الله فأجرى الحكمة على لسانه ، فالفضيل ممن نفعه علمه.
وقال أبو بكر عبد الرحمن بن عفان : سمعت ابن المبارك يقول لأبي مريم القاضي : ما بقي في الحجاز أحد من الأبدال إلا فضيل بن عياض ، وابنه علي ، وعليّ مقدم في الخوف ، وما بقي أحد في بلاد الشام إلا يوسف بن أسباط ، وأبو معاوية الأسود ، وما بقي أحد بخراسان إلا شيخ حائك يقال له : معدان .
قال أبو بكر المقاريضي المذكر : سمعت بشر بن الحارث يقول : عشرة ممن كانوا يأكلون الحلال ، لا يُدخلون بطونهم إلا حلالا ولو استفوا التراب والرماد . قلت : من هم يا أبا نصر؟ قال : سفيان ، وإبراهيم بن أدهم ، والفضيل بن عياض ، وابنه ، وسليمان الخواص ، ويوسف بن أسباط ، وأبو معاوية نجيح الخادم ، وحذيفة المرعشي ، وداود الطائي ، ووهيب بن الورد .
وقال إبراهيم بن الأشعث : ما رأيت أحدا كان الله في صدره أعظم من الفضيل ، كان إذا ذَكر الله ، أو ذُكر عنده ، أو سمع القرآن ظهر ، به من الخوف والحزن ، وفاضت عيناه ، وبكى حتى يرحمه من يحضره ، وكان دائم الحزن ، شديد الفكرة ، ما رأيت رجلا يريد الله بعلمه وعمله ، وأخذه وعطائه ، ومنعه وبذله ، وبغضه وحبه ، وخصاله كلها غيره . كنا إذا خرجنا معه في جنازة لا يزال يعظ ، ويذكر ويبكي كأنه مودع أصحابه ، ذاهب إلى الأخرة ، حتى يبلغ المقابر ; فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء ، حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها .
وقال عبد الصمد بن يزيد مردويه : سمعت الفضيل يقول : لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق ، وطلب الحلال ، فقال ابنه علي : يا أبة إن الحلال عزيز . قال : يا بني ، وإن قليله عند الله كثير .
قال سري بن المغلس : سمعت الفضيل يقول : من خاف الله لم يضره أحد ، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد .
وقال فيض بن إسحاق : سمعت الفضيل بن عياض ، وسأله عبد الله بن مالك : يا أبا علي ما الخلاص مما نحن فيه ؟ قال : أخبرني ، من أطاع الله هل تضره معصية أحد ؟ قال : لا . قال : فمن يعصي الله هل تنفعه طاعة أحد ؟ قال : لا ، قال : هو الخلاص إن أردت الخلاص .
قال إبراهيم بن الأشعث : سمعت الفضيل يقول : رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله ، وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة ، من عمل بما علم استغنى عما لا يعلم ، ومن عمل بما علم وفَّقه الله لما لا يعلم ، ومن ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته .
وسمعته يقول : أكذب الناس العائد في ذنبه ، وأجهل الناس المُدِلّ بحسناته ، وأعلم الناس بالله أخوفهم منه ، لن يكمل عبد حتى يؤثر دينه على شهوته ، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه .
وقال محمد بن عبدويه : سمعت الفضيل يقول : ترْك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله عنهما.
قال سَلْم بن عبد الله الخراساني : سمعت الفضيل يقول : إنما أمس مثلٌ ، واليوم عمل ، وغدا أمل .
وقال فيض بن إسحاق : قال الفضيل : والله ما يحل لك أن تؤذي كلبا ولا خنزيرا بغير حق ، فكيف تؤذي مسلما .
وعن فضيل : لا يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوه .
وعنه : بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله ، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله .
قال محرز بن عون : أتيت الفضيل بمكة ، فقال لي : يا محرز ، وأنت أيضا مع أصحاب الحديث ، ما فعل القرآن ؟ والله لو نزل حرف باليمن لقد كان ينبغي أن نذهب حتى نسمعه ، والله لأن تكون راعي الحمر وأنت مقيم على ما يحب الله ، خير لك من الطواف وأنت مقيم على ما يكره الله .
المفضل الجندي : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الطبري ، قال : ما رأيت أحدا أخوف على نفسه ، ولا أرجى للناس من الفضيل . كانت قراءته حزينة ، شهية ، بطيئة ، مترسلة ، كأنه يخاطب إنسانا ، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يردد فيها وسأل ، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعدا ، يُلقى له الحصير في مسجده ، فيصلي من أول الليل ساعة ، ثم تغلبه عينه ، فيلقي نفسه على الحصير ، فينام قليلا ، ثم يقوم ، فإذا غلبه النوم نام ، ثم يقوم، هكذا حتى يصبح . وكان دأبه إذا نعس أن ينام ، ويقال : أشد العبادة ما كان هكذا .
وكان صحيح الحديث ، صدوق اللسان ، شديد الهيبة للحديث إذا حدث
من أقواله:
قال: من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد.
قال: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله.
قال: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحا، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل.
قيل له: ما الزهد؟ قال: القنوع. قيل: ما الورع؟ قال: اجتناب المحارم. قيل: ما العبادة؟ قال: أداء الفرائض. قيل: ما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق.
قال: لو أن لى دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان قيل له: يا أبا على فسر لنا هذا، قال: إذا جعلتها في نفسى لم تعدني، وإذا جعلتها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد.
قال: لا يبلغ العبد حقيقة الايمان حتى يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة وحتى لا يحب أن يحمد على عبادة الله.
قال: من استوحش من الوحدة واستأنس بالناس لم يسلم من الرياء، لا حج ولا جهاد أشد من حبس اللسان، وليس أحد أشد غما ممن سجن لسانه.
قال: كفى بالله محبا، وبالقرآن مؤنسا، وبالموت واعظا.
قال: خصلتان تقسيان القلب، كثرة الكلام، وكثرة الأكل.
بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله
_ قال عبد الصمد بن يزيد:سمعت الفضيل يقول:
لم يتزيّن الناس بشئ أفضل من الصدق وطلب الحلال,فقال ابنه علي:يا أبة:إن الحلال عزيز,قال:يابني:إن قليله عند الله كثير.
_ قال سَري بن المُغلس:سمعت الفضيل يقول:
من خاف الله لم يضره أحد,ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد.
_ قال إبراهيم بن الأشعث:سمعت الفضيل يقول:
رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله,وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة,من عمل بما علم استغنى عما لايعلم,ومن عمل بما علم وفقه الله لما يعلم,ومن ساء خلقه شان دينه وحسبه ومروءته.
_ وسمعته يقول:
أكذب الناس العائد في ذنبه,وأجهل الناس المُدِلُّ بحسناته,وأعلم الناس بالله أخوفهم منه,لم يكمُل عبد حتى يؤثر دينه على شهوته,ولن يهلك الله عبد حتى يؤثر شهوته على دينه.
_ قال محمد بن عَبدويه:سمعت الفضيل يقول:
ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك,والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
_ قال سَلم بن عبدالله:سمعت الفضيل يقول:
إنما أمس مثل واليوم عمل وغداً أمل._ قال فيض بن إسحاق:قال الفضيل:
والله مايحل لك أن تؤذي كلباً ولاخنزيراً بغير حق,فكيف تؤذي مسلماً.(قلت):الله المستعان على أحوالنا ماذا يقول عنا إذا كان بيننا..
_ قال إبراهيم بن الأشعث:سمعت الفضيل يقول:
من أحب أن يُذكر لم يُذكر,ومن كره أن يُذكرذُكِر.
_ وسمعته يقول:
الخوف أفضل من الرجاء مادام الرجل صحيحاً,فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل.
_ قال فيض بن وثيق:سمعت الفضيل يقول:
إن استطعت أن لاتكون محدثاً ولا قارئاً ولا متكلماً:
إن كنت بليغاً,قالوا:ما أبلغه وأحسن صوته,فيعجبك ذلك فتنتفخ,وإن لم تكن بليغاً ولا حسن الصوت,قالوا:ليس يُحسن يُحدّث وليس صوته بحسن,أحزنك ذلك وشقّ عليك فتكون مرائياً,وإذا جلست فتكلمت,فلم تُبال من ذمّك ومن مدحك,فتكلم.
_ قيل له:ما الزهد؟قال:القنوع,قيل:ما الورع؟قال:اجتناب المحارم,قيل:ما العبادة؟قال:أداء الفرائض,قيل:ما التواضع؟قال:أن تخضع للحق وقال:أشد الورع في اللسان.
_ قال عبد الصمد بن يزيد:سمعت الفضل يقول:
لو ان لي دعوة مستجابة ما جعلتها,إلا في إمام
,فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد.
_ وعن الفضيل:
حرام على قلوبكم أن تصيب حلاوة الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا.
_ وقال أيضاً:
إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار,فاعلم أنك محروم كبّلتك خطيئتك.
_ قال عبد الصمد بن مردويه:سمعت الفضيل يقول:
من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه,لا يرتفع لصاحب بدعة إلى الله عمل,نظر المؤمن إلى المؤمن يجلو القلب
ونظر الرجل إلى صاحب بدعة يورث العمى,من جلس مع صاحب بدعة لم يُعط الحكمة.
_ قال إبراهيم بن الأشعث:سمعت الفضيل يقول في مرضه:
ارحمني بحبي إياك فليس شئ أحب إلي منك.
_ وسمعته يقول وهو يشتكي:مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين.
_ وسمعته يقول:من استوحش من الوحدة واستأنس بالناس لم يسلم من الرياء,ولاحج ولاجهاد أشد من حبس اللسان,وليس أحداً أشد غمّاً ممن سجن لسانه.
_ عن الفضيل قال:
من أخلاق الأنبياء الحلم والأناة وقيام الليل.
_ قال الأصمعي:نظر الفضيل إلى رجل يشكو إلى رجل,فقال:
ياهذا تشكو من يرحمك إلى من لايرحمك.
_ قال الفيض:قال لي الفضيل:لو قيل لك:يامُرائي,غضبت وشق عليك,وعسى ماقيل لك حق
تزيّنت للدنيا وتصنعت وقصرت ثيابك وحسّنت سمتك وكففت أذاك,حتى يقال:أبوفلان عابد ما أحسن سمته,فيكرمونك وينظرونك,ويقصدونك ويهدون إليك,مثل الدرهم السُّتُّوق(هوالردئ الزيف الذي لاخيرفيه)لا يعرفه كل أحد فإذا قُشر,قُشر عن نحاس.(قلت):يارب استرعلينا..
_ وقال أيضاً:كفى بالله مُحبّاً وبالقرآن مؤنِساً وبالموت واعظاً وبخشية الله علماً وبالاغترار جهلاً.
_ وعنه قال:خصلتان تُقسيان القلب:كثرة الكلام وكثرة الأكل.
_ وعنه قال:كيف ترى حال من كثرت ذنوبه وضَعُفَ علمه وفني عمره ولم يتزود لمعاده.
_ وعنه قال:يامسكين,أنت مُسئ وترى أنك مُحسن,وأنت جاهل وترى أنك عالم,وتبخل وترى أنك كريم,وأحمق وترى أنك عاقل,أجلُكَ قصير,وأملُكَ طويل.
قال الذهبي -:قلت:إي والله,صدق,وأنت ظالم وترى أنك أنك مظلوم وآكل للحرام وترى أنك متورع وفاسق وتعتقد أنك عدل وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله.
_ قال قُطبة بن العلاء:سمعت الفضيل يقول:
آفة القُرّاء العجب
- موقف للفضيل مع هارون الرشيد :
عباس الدوري : حدثنا محمد بن عبدالله الأنباري ، قال : سمعت فضيلا يقول : لما قدم هارون الرشيد الى مكة قعد في الحِجْر هو وولده ، وقوم من الهاشمين ، وأحضروا المشايخ ، فبعثوا إليّ فأردت أن لا أذهب ، فاستشرت جاري ، فقال : اذهب لعله يريد أن تعظه ، فدخلت المسجد ، فلما صرت إلى الحجر ، قلت لأدناهم : أيكم أمير المؤمنين ؟ فأشار اليه ، فقلت : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فرد علي ، وقال : اقعد ، ثم قال : إنما دعوناك لتحدثنا بشيء ، وتعظنا ، فأقبلت عليه ، فقلت : يا حسن الوجه ، حساب الخلق كلهم عليك . فجعل يبكي ويشهق ، فرددت عليه ، وهو يبكي ، حتى جاء الخادم فحملوني وأخرجوني ، وقال : اذهب بسلام .
قال الذهبي (8/440) :
وعنه : يا مسكين ، أنت مسيءٌ وترى أنك محسن ، وأنت جاهل وترى أنك عالم ، وتبخل وترى أنك كريم ، وأحمق وترى أنك عاقل ، أجلك قصير ، وأملك طويل .
قلت ( الذهبي ) : إي والله ، صدق ، وأنت ظالم وترى أنك مظلوم ، وآكل للحرام وترى أنك متورع ، وفاسق وتعتقد أنك عدل ، وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله .
- رسالة ابن المبارك إلى الفضيل بن عياض :
روى الحافظ ابن عساكر عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملي عليَّ عبد اللّه بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وأنشدها إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا * لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه * فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل * فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا * رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا * قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبَّار خيل اللّه في * أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب اللّه ينطق بيننا * ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال : قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليّ الفضيل بن عياض :
حدثنا منصور بن المعتمر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة أن رجلاً قال : يا رسول اللّه علِّمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل اللّه ، فقال : "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ " فقال : يا رسول اللّه أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله ، أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات ؟!
الحديث رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب الجهاد والسير .
والله اعلم
الفضيل بن عياض وزيراً
د. أحمد الزهراني
قرأت يوماً حكاية الرشيد مع الفضيل بن عياض، وهي قصة مشهورة - وإن كان في سندها مقال- بكى فيها الرشيد من موعظة الفضيل، وبلغ الرشيد من الإعجاب به مبلغاً حتى قال لوزيره: «إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين»، ومع هذا فقد سألت نفسي: تُرى لو أنّ الرشيد احتاج إلى وزير للمال أو للحرب أو غيرها من الولايات أكان سيبحث عن الفضيل؟
ثمّ تخيّلت لو أنّ الفضيل في عصرنا ورُشّح لمنصب رئيس للبلاد أو وزير للدفاع أو القضاء، فقلت في نفسي: لو كنت في زمن يُرشح فيه مثل الفضيل لما انتخبته ولما أعطيته صوتي، ماذا يعود على الأمّة من عابد يهوى الزوايا للخلوة والبكاء والصلاة. ربّما يغضب البعض من هذا الكلام ظناً منه أنّ فيه انتقاصاً للفضيل رحمه الله، وليس كذلك، بل هو موافق لسنّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
لقد عاش في عهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتحت رعايته عدد كبير من صحابته، كلّهم كانوا قِمَماً في العبادة والتقوى والخوف من الله تعالى، لكن كم منهم ولاّه النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ولاية عامة؟
وأولئك الذين ولاّهم هل كانوا هم الأشهر في الجانب العبادي والتقوى والخوف من الله؟
هذا أبو ذر جندب بن جنادة -رضي الله عنه- الذي قال عنه صلّى الله عليه وسلّم: «ما أقلّت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر» يقول: قلتُ: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلاّ من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها».
إن التنوّع في الطرائق والأساليب والقدرات ما دام في إطار أهل السنة والجماعة هو إثراء للمجتمع المسلم وقوة له، لكن شريطة ألاّ يكون هناك مغالبة وخلط في الإحلال.
إن وجود مجموعات أو افراد من العلماء والصالحين الزهاد الذين هجروا الدنيا، وعافوا حتى مباحاتها، وغلب على نفوسهم الخوف من عواقب الآخرة والتزود لها أمر لا يُنكر ولا يزعِج، ولا ينبغي أن يكون مدعاة للتذمر، فوجود هؤلاء ضرورة توازنية ومواعظ تخفّف من غلواء التكالب على الدنيا، فكم من غافل ساهٍ توقف أمام موعظة بل أمام منظر أو قصة زاهد ليرعوي قلبه، ويخفف من تمسكه بالدنيا، ولهذا كان الرشيد وغيره من الأئمة كلما أحسوا بقساوة القلب والانغماس في شؤون الدنيا والسياسة والحكم يتطلبون العلماء والزهاد منهم خاصة للعظة والاعتبار.
لكنّ من كان هذا حاله فإنّه يغلب عليه التفكير العاطفي أكثر من السياسي أو التقني الاحترافي، فيكون هذا سبباً في ضعفه من الجوانب الأخرى، وهذا ما لاحظه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في أبي ذر فقال له: إنك ضعيف.
هنا نلاحظ مسألة الكفاءة، فامتناع النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن توليته سببه ما يعلمه من شخصية أبي ذر الّتي لا ينقصها الأمانة، بمعنى المحافظة على الحقوق العامة، ولا الخوف من الله والتقوى والزهد، لكنّ الولايات العامة لا يصبر على سياسة الناس فيها من غلب عليه الجانب العبادي مثل أبي ذر .
وعند الحديث عن المنهج الإسلامي في التربية والتنمية فإنّك لا تستطيع أن تغفل اهتمامه بالفروق الفردية والسمات الشخصية وتكريسها وتطويرها والاهتمام بها؛ فالمنهج الإسلامي يعترف بالقدرات الحسيّة والمعنوية النفسيّة، ولا يحجّر واسعاً على أي مسلم يرى أنّ طريقاً ما هو الأصلح له في عمارة دنياه والتزوّد لآخرته.
وهذا الأمر بدا جلياً واضحاً من عهد الصحابة، أي منذ وضع اللبنات الأولى في بناء الجيل الأمثل والأوّل الذي قامت عليه وفيه الدولة الإسلامية، ولهذا أمثلة عديدة لا أريد الاستطراد فيها لكونها معلومة، ومنها ملاحظة النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لهذه السمات، فكان وزيراه أبو بكر وعمر، وكان على جيوشه خالد بن الوليد، وأسامة، وأبو عبيدة ونحوهم، وكان للكتابة معاوية وعبدالله بن عمرو، وكان للجانب الإعلامي شاعره حسان وخطيبه كعب، وأمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود فتعلمها في أيام معدودات، وغير ذلك كثير يعلمه من يطلع على سيرته صلّى الله عليه وسلّم .
والصحابة الكرام كانوا ملاحظين لهذا الأمر، فعملوا به في خاصة أنفسهم وفيمن تحتهم، فهذا أبو بكر وعمر يسيران في الأمر بنفس السيرة، فانظر للذين تولوا الولايات في عهدهم كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم تجدهم ليسوا في العبادة والتقوى مثل من هم فوقهم، لكنّهم كانوا الأصلح والأكفأ .
ولم يكونوا -رضي الله عنهم- هواة استنساخ وتكرار، بل كل واحد منهم عارف بنفسه مستغل لها فيما تحسن، فمثلاً: في الوقت الذي امتهن بعض الصحابة التجارة فكانوا من الأثرياء كعثمان وعبد الرحمن بن عوف، لم يطق بعض الصحابة أن يجمع بين التجارة وبين العبادة، وقد كان أبو الدرداء تاجرًا مشهورًا، فلما أسلم تفرغ للعلم والعبادة، وقال: «أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة، فلم يستقم، فتركت التجارة وأقبلت على العبادة» ولم ينكر أحد عليه ذلك، كما لم ينكر هو على غيره التجارة والثراء .
لست هنا بصدد الحديث عن مسألة القدرات، ولا أقصدها بالذات وإنّما أريد أن أدلف منها إلى شيء آخر، ألا وهو مسألة الكفاءة.
لقد غلب على كثير منّا ملاحظة الجانب العبادي والشهرة فيه عند تقييم الناس، ومن ثمّ تكليفهم وارتضاؤهم والرضا بهم، حتّى ضحّى من أجل ذلك بالجانب المهني الإتقاني والاحترافي للمهن والمناصب والوظائف .
إنّك تعجب حين ترى أنّ بعض المؤسسات الرسمية - والأهلية كذلك - يتكدس فيها كثير من الصالحين الّذين لا نقدح في دينهم وتقواهم، لكنّهم ليسوا أكفاء في شغل تلك الوظائف .
هذا الأمر أصبح مدعاة لنسبة التقصير والفشل الّذي يحتوش كثيراً من المؤسسات أو المشاريع الإسلامية إلى الإسلاميين أو الشرعيين، وفي هذا قدر كبير من الصحة، والسبب هو تغليب الجانب العبادي أو العلمي في شخصية شاغل المنصب، تحت ذريعة سدّ الثغرات .
وهذا حدث كذلك، ويحدث عندما تجري انتخابات لشغل وظائف ذات طابع مهني، فمن العجب أن يتم الانتخاب فقط بحسب الجانب العبادي أو السلوكي في شخصية المرشح.
أنا هنا لا أهمل الجانب الشرعي ودوره في (بعض) الوظائف، لكنّي أعترض على جعله هو المقياس الذي يندفع إليه الناس بدافع العاطفة .
في الحقيقة هذا السلوك لا علاقة له بالشرع ولا بالدين؛ فالشريعة تعطي التخصص وإتقانه والقدرة على العطاء فيه أولوية على سمات الشخص الدينية، وهذا أمر بلا شك يحتاج إلى ميزان .
قال عمر بن الخطاب لجلسائه يومًا: تمنوا. فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم، فأنفقها في سبيل الله. فقال: تمنوا. فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبًا، فأنفقه في سبيل الله. فقال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً من أمثال أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعمِلُهم في طاعة الله .
هذا يقوله عمر في عصر فيه الصحابة وكبار التابعين المشاهير في العلم والسنة والزهد والعبادة، ومع هذا كان عمر يفتقد رجالاً كأبي عبيدة وحذيفة ومعاذ. فما الذي كان يميزهم عن غيرهم؟
وهذا الأمر راجع في مجمله إلى الفقه الواقعي، الفقه الّذي يعترف بأثر التّغيير الّتي يطرأ على الأمّة وعلى الأفراد في طبائعهم وسلوكياتهم، وتغير بعض أنماط السلوك والتفكير لأسباب عديدة يطول ذكرها، لكن الشاهد أنّ الواقع الذي يعيشه المجتمع يفرض ضوابط وشروطاً وقواعد تحكم عملية الاختيار، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: «اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب -رضي الله- عنه يقول: اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية، الأصلح بحسبها .
فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزو؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيغزي مع القوي الفاجر .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال: «إن خالداً لسيف سلّه الله على المشركين» مع أنه أحياناً كان يعمل ما قد ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه - مرة - رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد». لما أرسله إلى خزيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتى وداهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وضمِن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب; لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل.
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم». نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفاً. مع أنه قد روي: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر»
وأمّر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل استعطافاً لأقاربه الذين بعثه إليهم، على من هم أفضل منه، وأمّر أسامة بن زيد، لأجل ثأر أبيه.
ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه، في العلم والإيمان.
وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه ما زال يستعمل خالداً في حرب أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها، بل عاتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة، في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه». انتهى كلامه رحمه الله.
وقد كان أصحاب الحديث أكثر من أبرز هذا المنهج، وأعلى من شأن التّخصّص، وعرف منزلة صاحبه. قال عمرو بن محمّد النّاقد: «سمعت وكيعاً وسأله رجل فقال له: يا أبا سفيان: تعرف حديث سعيد بن عبيد الطّائي عن الشّعبي في رجل حجّ عن غيره ثمّ حجّ عن نفسه؟ قال: من يرويه؟ قال: وهب بن إسماعيل، فقال: ذلك رجل صالح، وللحديث رجال» .
وقال زكريا الساجي عن يحيى بن معين قال: كان محمد بن عبد الله الأنصاري يليق به القضاء، فقيل له: يا أبا زكريا فالحديث؟ فقال:
للحرب أقوامٌ لها خُلِقُوا *** وللدواوين حُسّابٌ وكُتّابُ
وقال يحيى بن سعيد القطان: «آتَمِنُ الرجل على مائة ألف ولا آتمِنُه على حديث».
وعن ابن أبي الزناد عن أبيه قال: «أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يُؤخذ عنهم شيء من الحديث، يُقال: ليس من أهله».
وقال مالك بن أنس: «إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين، وأشار إلى مسجد الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتُمِنَ على بيت مال لكان به أميناً، إلاّ أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن».
وهذا الحِسّ التقييمي المنهجي قائم على البصر والمعرفة ما يؤول إليه حال الأمّة إذا تساهل الناس فيه، قال عليّ بن المديني:« لو تركتُ أهل البصرة لحال القدر، وتركتُ أهل الكوفة للتّشيّع: خربت الكتب» أي لذهب الحديث .
وقال سليمان بن أحمد الواسطي: « قلت لعبد الرّحمن بن مهدي: سمعتك تحدّث عن رجلٍ، أصحابنا يكرهون الحديث عنه؟ قال: مَن هو؟ قلت: محمّد بن راشد الدّمشقي، قال: ولِمَ؟ قلت: كان قدريّاً، فغضب وقال: ما يضرّه».
وقال محمّد بن عبدالله بن حمّاد الموصلي: « لست بتارك الرّواية عن رجل صاحب حديث يبصر الحديث بعد أن لا يكون كذوباً للتّشيّع والقدر، ولست براوٍ عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله، ولو كان أفضل من فتح الموصلي».
نحتاج كثيراً إلى توقف وتأمل في أوضاعنا الّتي تغوّلت فيها المصالح الشخصية أو الفئوية، وأحياناً الفهم المغلوط للمصالح الشرعية، والمظلوم في خضمّ هذا التغوّل هو الكفاءة والاحتراف والإتقان الّذي سيتلاشى، ويختفي أصحابه إذا لم يجدوا الإنصاف والتقدير، ونظرة خاطفة على الأقسام الشرعية في الجامعات والقضاء والمؤسسات الدعوية توقفك على حجم الخلل الذي دخلها من هذا الجانب، وقُلْ مثل ذلك في مجالات أقلّ مساساً بالجانب الشرعي، فتجد أشخاصاً ربّما يُلتمس لديهم البركة من دينهم وعبادتهم، ويلهمك النظر إلى وجوههم ذكر الله، ولكنّهم ليسوا بأهل لشغل ما هم فيه من الوظائف، وتحمل ما حُمّلوه من المسؤوليات، فيحصل من طرفهم من التقصير الشيء الكثير، ثمّ يُجاملون ويُتركون في أماكنهم حتّى يحصل الضرر العظيم، ويكون هذا فتنة للناس، وحجة للمنافقين الذين يلصقون بالدين وأهله كل نقيصة.