بعضنا صامه عشرين مرة، وبعضنا ثلاثين، وبعضنا لأول مرة!
إنها سنين متفاوتة لا نتشابه في عددها.. لكننا نعيش فيها جميعاً البرنامج نفسه،
فما مقابل ذلك من التغير في حياتنا.. من اكتساب جميل الخلال وعظيم الخصال
ونحن نعيش هذا البرنامج منذ سنوات؟!
رمضان.. وكالمعتاد، يهل علينا بجماله وألقه.. وكماله وأنواره، بالقراءات والصدقات،
بالخفوت والدعاء والسكون، بالحلم والهدوء..
رمضان.. زمان شرفه الله بكرائم وعظائم، حيث تسلسل الشياطين وتفتح الجنات وتغلق أبواب النيران،
وفيه الليلة الفريدة الوضيئة التي لا يشوبها الظلمة والغلس.. وأنفاس أهلها لا يحلق إليها هوى ولا نفس!
هذا الصوم.. لماذا صار ثلاثين يوماً؟ ولم يصرعشرة أيام أو شهرين أو أكثر أو أقل؟!
لماذا تتماثل العشرون الأول، بينما العشر الأخيرة تغاير الأول بطول القنوت.. وكثرة التعبد والخلوة؟!
ولماذا يصام عن الأكل والشرب والنكاح رغم انها من ضرورات حفظ الإنسان ونوعه،
فما بالها حرمت في نهار رمضان وقد كانت قبله حلالاً.. لماذا؟!
ولماذا رغب كثيراً كثيراً بالقيام الليلي، والاستماع للقرآن متلواً،
فيهل على القلوب كما القطرات العذبة يبللن الصدى؟
إنها تساؤلات ترد بخواطر المتأملين، لكننا سنعرف جوابها إذا علمنا أن رمضان يمثل برنامجاً فعالاً
يستمر عشرون يوماً من العمل الرتيب، ثم يأتي في الأخيرة نشاط مكثف متمثل في العشر الأواخر،
التي غايرت العشر الأول لكون النفوس قد تمرنت على الأعمال وتعودت عليها،
فتناسب حينئذ مضاعفة العمل لاكسابه صفة الديمومة، كما أن فيها ليلة القدر العظيمة الشريفة،
فحري بالعباد تكثيف النشاط لعلهم يوافقونها، وهذا من أسرار اخفائها عن الخلق!
وأما تحريم الطعام والشراب والنكاح وقد كان حلالاً فلذلك فوائد عديدة، منها تحريك الإرادة لدى المرء،
فلا يستعبده شيء من الدنيا إلا فإنه "تعيس" لحديث: تعس عبدالدرهم..
أيضاً، مادام الله قد حرم الحلال لوقت معين، والمسلمون يمتثلون ذلك "ولابد"، ومن لم يمتثل فليس مسلماً، فما بال من يفعل الحرام ويترك الواجب الفرض دائماً وأبداً؟ إذا كان هذا.. فالله غني عن جوعة المتغشي الحرام، كما في الحديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة ان يدع طعامه وشرابه". الحديث.
ان رمضان أعظم موسم عبادة، ويملك مقومات البرنامج الناجح لأمور عديدة:
الزمان: المتمثل في ثلاثين يوماً.
المعلومات: المتمثلة في أحكامه القرآنية والفقهية.
الأساليب: المتمثلة في التكرار والمعاودة والتكثيف (الامساك والإفطار والأذان والشروق والغروب).
التطبيقات: المتمثلة في الصوم والصلاة والصدقة (نافلة وفريضة)، والصلة والقراءة وغيرها.
المعينات: الأداء الجماعي، إغلاق النيران، تفتح الجنان، تصفد الشياطين، أن يدرك الإنسان الفجر وهو جنب، الترخيص للناس بالفطر في العذر، عدم اللوم في الأكل والشرب بنسيان.. الخ.
المحفزات، مثل:
- ان فم الصائم أطيب من ريح المسك.
- ان من صام أو قام رمضان ايماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
- وجود ليلة القدر الوضيئة في العشر الأخيرة واخفاؤها.
- ان من قام ليلة القدر غفر له ما تقدم من ذنبه.
- أن لله عتقاء من النار في كل ليلة.
حفل الختام:
المتمثل في العيد، وهو حفل مهيب لتوزيع الجوائز!
آتوني بأي برنامج في العالم يقارب (ولا أقول يماثل) هذا البرنامج الرباني الناجح؟
وهو ليس كبرامج البشر يطبقها فئات بسيطة من الناس،
بل انه لمئات الملايين منهم، يمسكون في الوقت نفسه، ويفطرون في الوقت نفسه!
م.ن