أنه لا حرج في السعي في المسعى الجديد، وأن المسعى الجديد هو في زيادة يشملها المسعى لأن النبي سعى في مكان واحد وهذا المكان لا نعرفه، وهاجر –كما قال ابن عباس في البخاري- سعت في مكان معين فلو كان لا يجزئ هذا السعي إلا فيه، لحجرنا واسعاً، وضيقنا على الناس بما لا طائل تحته، ولا فائدة منه، إذ لا أثر ولا مستند عليه وله.
والعبرة أن يكون السعي بين الصفا والمروة، وقضت سنة سبحانه أن لا يحدد الرواة مكان سير رسول الله ، ولا مكان سير هاجر، وألهم نبيّه محمداً أن يسعى ماشياً أحياناً وراكباً أحياناً، ليعلم أمته أن العبرة ليست في تتبع آثار الأقدام، ولا في الخط الذي سارت فيه، بل في سعيه راكباً دليل على عدم اشتراط مس الأقدام للمسعى، وأنه لو وضع عليه ردم فانتفخ، أو قطع الجبل، وأزيل ارتفاعه، وسعي في أصل أرضه لجاز، بل في سعيه راكبا إشارة –والله أعلم- إلى جواز السعي في الأدوار العلوية، فتأمل!
ويستفاد من ذلك أيضاً صحة السعي مع تغير تضاريس الجبلين الصفا والمروة وبوجود الردم والهدم مع مرور الزمن كما حصل في التوسعة السعودية قبل الأخيرة التي وقعت سنة 1375هـ بدأوا يحفرون وينزلون في أرض المسعى حتى وجدوا الأدراج، والذي يقرأ كتب الفقهاء في الحج يجد أنه يجب عليه أن يصعد على الدرج والآن ليس هناك درج، وقبل فترة قصيرة كانت هناك أدراج والأدراج الأولى دفنت ثم بنوا أدراجاً جديدة، ويقول صاحب "التاريخ القويم" -الكردي-: "المسافة التي كانت بين الأدراج التي رأيناها بعد الحفر قرابة المترين" والجبل قمة وقاعدة الجبل أوسع من رأس الجبل، فإذا سعينا على رأس الجبل نسعى في مكان ضيق، فإذا قطعنا رأسه وسعينا في قاعدته اتسع المكان ثم السعي.
فالعبرة بالسعي أن يكون بين جبل الصفا وجبل المروة ويبعد واقعاً وعقلاً أن يكون الجبل ممتداً فقط عشرين متراً، واليوم عرض المسعى بالضبط عشرون متراً، ولو كان كذلك، فيبعد أن يكون الجبلان (الصفا) و (المروة) يقابل بعضهما بعضاً بمسافة واحدة، لا يخرج هذا عن حدِّ هذا في العرض، ولو كانا كذلك لما ترك العلماء التنصيص على ذلك، وقد ذكر غير واحد أن المروة بإزاء الصفا بمعنى أن عرض كل منهما ليس بمتساوٍ تماماً، وهذا يدل دلالة واضحةً أن حال المسعى اليوم من حيث العرض من جراء الحفريات، فاقتطع من الجبلين مسافة تسامت الأخرى، وأن عرض كل منهما ممتد، على ما شهد به مجموعة من الثقات، ممن شاهد، وبعضهم –كأصحاب كتب الرحلات إلى الديار المقدسة- أقر ذلك، وهم جماعة كبيرة تباينت أمصارهم، وتغايرت أعصارهم، ويستحيل تواطؤهم على الكذب، والموقع الذي فيه المسعى الجديد من ضمن المسافة الممتدة من جهة الشرق، يظهر هذا جليّاً لكل من تابع الشهادات والمشاهدات، سواء المرقومة منها أو المسموعة.
فتوى من الشيخ مشهور حسن آل سلمان
آخر تعديل مجرمـ الخفجي يوم 18-06-2008 في 10:09 AM.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا شك أنّ عبادة الحج والعمرة عبادة ضرورية لصلاح قلب كل مسلم ومسلمة استطاعوا السبيل إلى بيت الله الحرام، لا يقوم غيرهما مقامهما في تحصيل الهداية والنور والصلاح، ولذا جعلهما الله سبحانه فريضة على عباده فقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [سورة آل عمران: من الآية 97]، وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم الركن الخامس من أركان الإسلام، ولابد أن يحرص كل مسلم على تأدية هذه المناسك كما شرعها الله.
والأماكن التي جعلها الله منسكًا لها خصوصية في تحصيل التزكية لا تحصل بغيرها، ولو تأملنا دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يبنيان البيت: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة: 127-129]، لوجدنا أن دعوة {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} وسط أعظم الضرورات الدينية والأخروية من القبول عند الله وتحقيق الإسلام لهما ولذريتهما، والتوبة، وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو لم تكن معرفة المناسك ضرورة من الضرورات لما كان هذا موقعها وسط هذه الدعوات والمطالب الشريفة.
ووسط الخلافات المعاصرة حول مشروع توسعة المسعى والسعي في المسعى الجديد حيث لا يمكن للمعتمر الآن إلاّ أن يسعى في المسعى الجديد، ولربما ما تمكن أحد من السعي إلاّ فيه لو جعل المسعى القديم من المروة إلى الصفا، والجديد من الصفا إلى المروة وأظنه المقرر، فإنّنا ندعوا بهذه الدعوة {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} سائلين الله الهداية في هذه المسألة العظيمة الجليلة قبل أن نتكلم فيها.
قد تباينت وجهات النظر في حكم المسألة وطريقة الاستدلال وطريقة معالجة الخلاف تباينًا كبيرًا، نسأل الله تعالى أن ييسر إزالة آثاره السلبية على المسلمين.
فمن قائل: "بأن العمرة لا تجوز حتى ينتهي العمل، ويعود المسعى القديم إلى العمل لأن السعي ركن". ولا أدري ما يقول أصحاب هذا الرأي في الحج لو استمر الأمر على ما هو عليه أو جُـعِـل المسعى القديم اتجاهًا واحدًا، فإنّ السعي في الاتجاه المعاكس لاتجاه النّاس في زحام الحج سيؤدي إلى كارثة حقيقية، وتعطيل فريضة الحج لا يقول به عالم.
ومن قائل: "بوجوب الدم على من سعى في المسعى الجديد لأنّه ترك واجبا"ً.
ومن قائل: "بأنّ من أحرم بعمرة فهو محصَـر وعليه هدي الإحصار".
ومن قائل: "بجواز التوسعة ولو إلى خارج حدود ما بين الصفا والمروة" زاعماً بأنّ الزيادة لها حكم المزيد، هكذا بإطلاق.
ومن قائل: "بجواز السعي في المسعى الجديد، لأنّه في حدود ما بين الجبلين بالشواهد التاريخية والجيولوجية وشهادة الشهود ولا تجوز الزيادة عن ما بين الجبلين".
وقد طالعت أدلة كلٍ فوجدت المانعين ـ ومنهم أكثرية علماء هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية التي اتخذت بالأكثرية منذ سنتين قرارًا بعدم جواز التوسعة الأفقية بمن فيهم سماحة المفتي العام للمملكة ـ يبنون كلامهم على فتوى سابقة للشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ بأنّ المسعى القديم ـ في التوسعة السعودية الأولى ـ مستوعب لمكان السعي عرضًا لا تجوز الزيادة عليه، واعتماد هذه الفتوى على ما ذكره بعض العلماء المتقدمين من أنّ عرض المسعى بنحو من خمسة وثلاثين ونصف ذراعًا ـ على ما ذكر الأزرقي في كتابه أخبار مكة 2/95 ـ، وأنّ هذا العرض حد للمسعى، وأنّ هذه الحدود هي من المشاعر التي حافظت عليها الأجيال، وأنّه لا مجال للاجتهادات في تغيير المشاعر وأحكام الحج ـ كما ذكر ذلك الشيخ الفوزان حفظه الله ـ.
وأمّا الفريق الآخر الذي يجيز التوسعة فمنهم من يبني كلامه على التيسير على المسلمين، وأنّ المحدود ـ وهو عرض المسعى ـ لا يمكن أن يتسع لغير المحدود ـ وهو أعداد المعتمرين والحجاج المتزايدة ـ فلابد من التوسعة ولو زادت سبعين ضعفًا ـ كما قال بعضهم ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ـ.
ومنهم من بنى كلامه على أنّه لابد من السعي بين الصفا والمروة، ولكن اتساع الجبلين وامتدادهما كان أكثر مما هو عليه الحال في العمارة الحالية، وذلك بشهادة الشهود العدول وبالحقائق الجيولوجية المشاهدة، وبالأخبار المذكورة عن المتقدمين من العلماء.
مناقشة أدلة المانعين:
وبالنظر في أدلة المانعين لا نرى أنّ ما احتجوا به يصلح دليلًا على المنع؛ لأنّ النص القرآني: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: 158]، لم يشترط إلاّ أن يكون السعي بينهما، فكل ما كان بين الجبلين وحدودهما القديمة من أيام النبي صلى الله عليه وسلم فهو مكان للسعي، وقد ثبت بالدلائل المشاهدة والمسموعة حصول تغيير في حجم الجبلين في العمارات المتعددة، فالعبرة بما كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما قبله وما هو مشاهد من آثار التغيير، وليس أنّ إزالة جزء من صخور الجبلين يغير الحكم الشرعي في السعي بين مكان هذه الصخور ولو سوي بالأرض.
وفي قرارات هيئة كبار العلماء زمن الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ النص على الموافقة على الاقتراح بتكسير صخر الصفا والمروة؛ لتيسير حصول السعي في العربات، وهذا الذي تم في العمارة السعودية الأولى، ثم ما كان في التوسعة الثانية من إنشاء طريق للمشاة بين جبل الصفا وجبل أبي قبيس، وذلك بإزالة جزء من جبل الصفا كما هو معلوم من كلام أهل العلم في تعريف جبل الصفا، وأنّه جبل في سفح جبل أبي قبيس، وقد ذكر أبو إسحاق الحربي في وصفه لجبل الصفا أنّ طرفًا من جبل أبي قبيس يتعرج خلف جبل الصفا.
والصور الفوتوغرافية الملتقطة تدل على امتداد جبل الصفا إلى جبل أبي قبيس ـ الذي عليه الآن قصر الضيافة ـ، وقد ذكر فضيلة الشيخ عويد المطرفي: "أنّ التغيير الذي وقع لجبل الصفا وقع على مرحلتين أولاهما عام 1375هـ، حين قطعت أكتاف جبل الصفا، وفتح عليها شارع لمرور السيارات يصل بين أجياد والقشاشية، والثانية: في عام 1401هـ حين أزيل هذا الشارع وقطع الجبل من أصله وفصل موضع الصفا عن الجبل، وفتح بينه وبين الجبل الأصلي طريق متسع للمشاة بين ما بقي من أصل الجبل وبين جُـدُر الصفا، بيد أن أصله وقاعدته موجودة تحت أرض الشارع المذكور".أ.هـ. من عويد المطرفي في كتابه [رفع الأعلام بأدلة توسيع عرض المسعى المشعر الحرام ص9].
والشيخ المطرفي أثبت شهادته كتابة، وشهادة في المحكمة العامة بمكة بتاريخ 25/12/1427هـ مع غيره من الشهود أمام القاضي الشيخ عبد الله بن ناصر الصبيحي، نقلًا عن كتاب [توسعة المسعى عزيمة لا رخصة] أ. د/ عبد الوهاب أبو سليمان.
وقد يسر الله لي شخصيًا الدخول إلى موقع المشروع الحالي في شهر جمادى الأولى 1429هـ، إلى موقع هذا الشارع المذكور فرأيت بنفسي امتداد صخور ما بقي من جبل الصفا ـ وهو ما كان يقف عليه النّاس داخل المسعى القديم ـ إلى سفح جبل أبي قبيس ـ الذي عليه قصر الضيافة ـ مما لا يشك معه الناظر أنّه امتداد للجبل، وأنّه صخر واحد متصل، فضلًا عن الدراسات الجيولوجية المؤكدة لذلك، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى ذلك، لأنّه في منتهى الوضوح. وأنا أدعو المشايخ الذين منعوا من توسعة المسعى إلى إدراك الفرصة قبل أن يتم العمل، ويتغطى المكان بالرخام وغيره، وأن ينزلوا بأنفسهم لمعاينة المكان وعندها أظن أنّ الأمر سيختلف في كلامهم.
وكذا في أمر المروة فإنّ امتداد الصخر امتدادًا واحدًا إلى أوسع من مساحة المسعى الجديد عرضًا بحيث أنّها تتسع لمزيد من التوسعة، وكلها بين الصفا والمروة حيث أنّ المروة جزء من سفح جبل قعيقعان، وامتداد صخوره شرقًا واضح ظاهر للعيان.
وقد أخبرني من شاركوا في أعمال الحفر من إخواننا العمال المصريين أنّ أرض المسعى بعد الجبلين، إنّما هي أتربة خالية من الصخر إلى أن يصل الحفر إلى الماء، بخلاف موضع الجبلين فإنّ صخورهما واضحة الامتداد، وكانت قبل ذلك مرتفعة عن سطح الأرض كما دلت عليه الصور وشهادة الشهود والكلام التاريخي للعلماء(1).
وأمّا ما ذكره بعض المتقدمين من تحديد عرض المسعى بـ 35.5 ذراعًا فهو في الحقيقة وصف للواقع الذي شاهدوه وليس ذلك بتحديد شرعي يلزم الرجوع إليه، بل الواجب أن يكون السعي بين الصفا والمروة، وقد كانت البيوت مقامة على الصفا وعلى المروة، والحوانيت التي أزيلت كانت أيضًا في المسعى قبل العمارة السعودية الأولى. فهل لو قيس المسعى عرضًا في وجودها يكون ذلك تحديدًا شرعيًا ملزمًا، وهي قد أخذت جزءً من المسعى كما أخذت البيوت القديمة جزءً منه؟
ولو أنّ أحدًا قاس قطر المطاف اليوم شمالًا وجنوبًا أو شرقًا وغربًا، ووصف ذلك الواقع هل يكون ذلك تحديدًا شرعيًا لا يجوز أن يوسع بعد ذلك؟
الذي لا نشك فيه أنّ هذا ليس تحديدًا شرعيًا؛ حيث لم يحدده النبي صلى الله عليه وسلم ولا حدده المسلمون بحدود معلومة كما حددوا وتناقلوا أعلام الحرم والمشاعر الأخرى، فكان الواجب في السعي هو أن يكون بين الصفا والمروة على ما كانا عليه قبل أن تنالهما التغييرات بالتكسير أو النسف أو البناء عليها أو بينهما.
ولذا نرى أنّ الأدلة التي بنى عليها المانعون كلامهم لا تصلح دليلًا للمنع.
وأمّا المجيزون فمن بنى كلامه على مجرد التيسير والمصلحة دون ضابط ما بين الجبلين، فيلزمه تغيير المناسك والمشاعر، ولا نشك في بطلان هذا المسلك؛ فالتيسير لابد أن يكون منضبطًا بضوابط الشرع وما حدده. فعرفة والمزدلفة ومنى والحرم، وغير ذلك من المشاعر أماكن معينة أراها اللهُ إبراهيمَ عليه السلام، وتناقلها المؤمنون إلى يومنا هذا وإلى ما بعده، لا يسع أحدًا أن يغير ما أُجمع عليه منها بزعم التيسير والمصلحة وإلاّ دخل في تشريع ما لم يأذن به الله سبحانه.
ولا شك أنّ قول من يقول إنّ المحدود لا يتسع لغير المحدود كلام باطل، واستدلال بالقواعد في غير موضعها. ثم كيف لا يكون عدد الحجاج محدودًا وهم في النهاية بشر معدودون ليسوا يزيدون إلى ما لا نهاية؟ ثم التوسعة الرأسية مع الأفقية كافية ـ إن شاء الله ـ لأضعاف هذه الأعداد، مع الالتزام بأماكن المشاعر وحدود المناسك التي شرعها الله، وإنّما تضيق الأمور بسبب من صنع النّاس كما ضاقت منى بسبب طريقة بناء الخيام الواسعة، وحجز أماكن لأناس مخصوصين، ولو استعملت التوسعة الرأسية لما ضاق الأمر ـ إن شاء الله ـ.
وأنا أنتهز هذه الفرصة لإسداء النصح للقائمين على المشاعر ـ وفقهم الله ـ، بشأن امتداد الخيام إلى مزدلفة لعدم وجود الأماكن بمنى مع سعتها بوجوب إعادة النظر في ذلك، فإنّه كان سببًا في تضييق مزدلفة بالمساحات الهائلة التي ملئت بالخيام التي لا تُستعمل ليلة النحر ـ ليلة مزدلفة ـ، ممّا أدى إلى افتراش النّاس الطرق المرصوفة ممّا يؤدي كل عام إلى بقاء الآلاف في عرفة في سياراتهم إلى الفجر، بل وإلى ما بعد طلوع الشمس ممّا يفوت عليهم واجب ذكر الله عند المشعر الحرام، وهو إمّا واجب أو ركن عند البعض من أهل العلم، بخلاف المبيت بمنى فإنّه ليس ركنًا عند أحد من أهل العلم ويسقط للعذر كالرعاة والسقاة، فمن لم يجد بمنى مكانًا سقط عنه ذلك، ولا وجه لإلزامه بالمبيت بمزدلفة بدلًا منها بدعوى اتصال الخيام فالخيام ليست مقصودة شرعًا، بل هي مجرد وسيلة بخلاف صفوف الصلاة.
ويمكن لمن لم يجد مكانًا بمنى ـ إن عجزنا عن التوسعة الرأسية ولو بالبناء فإنّ حديث النهي عن البناء بمنى حديث ضعيف ـ، يمكنه أن يبيت بمكة أو بأي مكان من الحرم، وليقترب من منى إن استطاع ويمكنه أن يقضي أكثر من نصف الليل بمنى ثم يرجع إلى حيث يجد مكانًا بمكة، هذا حتى تتسع مزدلفة لنازليها بدلًا من تعطل النّاس عن هذا النسك.
وأمّا أدلة المجيزين لتوسعة المسعى بضابط ما كان بين الجبلين قبل التغييرات، فنحن معهم ونقول بقولهم والواقع يثبت أنّ المسعى الجديد هو داخل ما بين الصفا والمروة، بل والأمر يتسع لأكثر من ذلك.
وفي خاتمة هذا المقال نوجه نصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم وللقائمين على أمر المسعى وشئون المسجد الحرام:
أنّه ينبغي أن يكون المسعى القديم والمسعى الجديد كل منهما ذهابًا وإيابًا حتى لا يتحرج من يرى من العلماء والمشايخ الكرام ـ وهم من كبار أهل العلم ـ بعدم جواز التوسعة فلو أُلزِم النّاس باتجاه المسعى القديم إيابًا من الصفا إلى المروة فقط لوقع الآلاف في الحرج؛ لأنّهم يقلدون مشايخهم القائلين بالمنع، ولو سعوا في الاتجاه المعاكس للنّاس لحصل ضرر عظيم بخلاف ما لو سمح بجعل المسعى القديم اتجاهين، والجديد كذلك، فإنّه وإن وجد الزحام في القديم أكثر من الجديد إلاّ أنّ الحاجة دافعة أكثر النّاس إلى الأخذ بالقول الآخر خاصة أنّ عوام المسلمين يسعهم في ذلك تقليد من يثقون فيه من علماءهم القائلين بالجواز.
وكما وجد من لا يرى جواز السعي في الطابق الثاني والثالث عند بنائهما، ولا يزال السعي في الطابق الأرضي أكثر زحامًا إلاّ أنّ الحاجة دافعة الأكثر إلى السعي في الطوابق العليا، وصار القول بالمنع من ذلك مهجورًا مع مرور الزمن، فكذلك عسى أن يكون الأمر في أمر المسعى الجديد، دون إحراج لأهل العلم ولمن يتبعهم ودون استعمال سلطة ولي الأمر في أمر فيه اختلاف واجتهاد، وليس هو مما قال فيه البعض: "إن حكم الحاكم يرفع الخلاف"، بل هذه القاعدة في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقد تدارست هذا الموضوع مع إخواني الأفاضل: الشيخ د/ محمد إسماعيل المقدم، والشيخ د/ أحمد حطيبة، والشيخ د/ سعيد عبد العظيم ـ حفظهم الله جميعًا ـ، فوجدت كلهم يوافق على السعي في المسعى الجديد، والحمد لله رب العالمين.
وأسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الهدى، وأن يرينا مناسكنا، وأن يتوب علينا إنّه هو التواب الرحيم.
(1) وثقت شهادة الشهود بالمحكمة العامة بمكة المكرمة لدى القاضي الشيخ عبد الله بن ناصر الصبيحي، وصدر بها صك شرعي برقم 158/44/11 تاريخ 25/12/1427هـ جاء فيه:
"في يوم الأحد الموافق 24/ 12/1427هـ، حسب تقويم أم القرى حضر عميد معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج الدكتور أسامة بن فضل البار، وأحضر معه فوزان بن سلطان بن راجح العبدلي الشريف حامل البطاقة رقم 100164066 وهو من مواليد عام 1349هـ، فقرر قائلًا: "إنّني أذكر أنّ جبل المروة يمتد شمالًا متصلًا بجبل قعيقعان، وأمّا من الجهة الشرقية فلا أتذكر، وأمّا موضوع الصفا فإنّني أتوقف".
كما حضر الدكتور عويد بن عياد بن عايد الكحيلي المطرفي حامل دفتر العائلة رقم 1001787769 وهو من مواليد عام 1353هـ، وقرر قائلًا: "إنّ جبل المروة كان يمتد شرقًا من موقعه الحالي بما لا يقل عن ثمانية وثلاثين مترًا، وأمّا الصفا فإنّه يمتد شرقًا بأكثر من ذلك بكثير".
كما حضر فضيلة كبير سدنة البيت الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد القادر شيبي حامل البطاقة رقم 1007139940 وهو من مواليد عام 1349هـ، فقرر قائلًا: "إنّ جبل المروة يمتد شرقًا وغربًا وشمالًا ولا أتذكر تحديد ذلك بالمتر، وأمّا الصفا فإنّه يمتد شرقًا بمسافة طويلة حتى يقرب من القشاشية بما لا يزيد عن خمسين مترًا".
كما حضر حسني بن صالح بن محمد سابق حامل البطاقة رقم 1004080568 وهو من مواليد عام 1357هـ، وقرر قائلًا: "إنّ جبل المروة يمتد غربًا ويمتد شرقًا بما لا يقل عن اثنين وثلاثين مترًا. وكنا نشاهد البيوت على الجبل، ولما أزيلت البيوت ظهر الجبل، وتم تكسيره في المشروع، وأمّا جبل الصفا فإنّه يمتد من جهة الشرق بأكثر من خمسة وثلاثين أو أربعين مترًا".
كما حضر مدير جامعة الملك عبد العزيز السابق معالي الأستاذ الدكتور محمد بن عمر بن عبد الله زبير حامل البطاقة رقم 1050640554 وهو من مواليد عام 1351هـ، وقرر قائلًا: "إنّ المروة لا علم لي بها، وأمّا الصفا فالذي كنت أشاهده أن الذي يسعى كان ينزل من الصفا، ويدخل في برحة يمينه، وهذه البرحة يعتبرونها من شارع القشاشية، ثم يعود إلى امتداد المسعى بما يدل على أنّ المسعى في تلك الأماكن أوسع".
كما حضر الدكتور درويش بن صديق بن درويش جستنيه حامل البطاقة رقم 1019559580 وهو من مواليد عام 1357هـ، فقرر قائلًا: "إنّ بيتنا سابقًا كان في الجهة الشرقية من نهاية السعي في المروة، وكان يقع على الصخور المرتفعة التي هي جزء من جبل المروة، وقد أزيل جزء كبير من هذا الجبل بما في ذلك المنطقة التي كان عليها بيتنا، وذلك أثناء التوسعة التي تمت في عام 1375هـ، وهذا يعني امتداد جبل المروة شرقًا في حدود من خمسة وثلاثين إلى أربعين مترًا شرق المسعى الحالي، وأمّا الصفا فإنّها كانت منطقة جبلية امتدادًا متصلًا بجبل أبي قبيس ويعتبر جزءً منه، وكنت أصعد من منطقة السعي في الصفا إلى منطقة أجياد خلف الجبل".
كما حضر محمد بن حسين بن محمد سعيد جستنيه حامل البطاقة رقم 1001770203 وهو من مواليد عام 1361هـ، وقرر قائلًا: "إنّ جبل المروة كان يمتد من الجهة الشرقية، والظاهر أنّه يمتد إلى المدعى، وأمّا جبل الصفا فإنّه يمتد شرقًا أيضًا أكثر من امتداد جبل المروة".
فأمرت بتنظيم صك بذلك، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 24/12/1427هـ.
أ.د. سعود بن عبد الله الفنيسان 10/4/1429
16/04/2008
مقدمة:
لقد بدأ العمل في توسعة جديدة للمسعى بين الصفا والمروة، ونظراً لكون هذه التوسعة خُطِّط لها أن تمتد أفقياً باتجاه الشمال حتى تصل إلى مكان يراه البعض خارجاً عن مسامتة كل من الصفا والمروة، فقد ثار خلاف بين العلماء حول صحة السعي في هذه التوسعة، وكنا قد نشرنا للشيخ أ.د. سعود الفنيسان رأياً مفصلاً المسعى بعد التوسعة الجديدة بين فيه صحة السعي في هذا المسعى الجديد، وقد سعدنا بتعقيب أحد الزوار عليه، وحولنا التعقيب إلى فضيلة الشيخ الذي تفضل مشكوراً بالرد على هذا التعقيب، ويسعدنا أن ننشر للقراء الكرام الرد والتعقيب عليه؛ إكمالاً للفائدة، وتوضيحاً للحكم الشرعي.
التعقيب :
إخواني (سبعة عشر عالماً لا يجيزون المسعى الجديد).
فماذا يعني هذا الكلام؟ يعني أن رأي الأغلبية لا بد أن يؤخذ به، وليس رأي قلة من العلماء. ومعلوم أن العالم قد يخطئ ، لكن "لا تجتمع أمتي على ضلالة" والمقصود من الحديث العلماء، فهم الآن اجتمعوا على تحريم ذلك، فلماذا نلغي الأحاديث؟
في عصر الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ ابن باز، كوِّنت لجنة، وحدَّدت طول (وعرض) المسعى، والفتوى موجودة .
فكيف يقول الشيخ أ.د. سعود بن عبد الله الفنيسان إن العرض غير محدَّد؟!
لقد حدَّده العلماء قبل أن تضاف التوسعة العلوية، حتى إن العلماء عندما أفتوا بالتوسعة في الأعلى اشترطوا شرطا: أن لا يزيد عرضه عن عرض المسعى الأرضي.
فهل هذا الشرط ليست له قيمة فيما يختص بعرض المسعى؟
أتوقع أن المسألة واضحة جدًّا: والمسعى الجديد -باختصار- خطأ لا بد أن يُصَحَّح..
التوضيح والبيان:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أشكر للأخ غيرته ومعارضته لما قلته في جواز توسعه المسعى، حيث لا يوجد في الشارع ما يمنع من ذلك. وأزيده بياناً وتوضيحاً –إن كان طالب حق وأحسبه كذلك- فأقول:
أولاً: قرار هيئة كبار العلماء الذين منعوا فيه توسعة المسعى بالأغلبية –لم يذكروا فيه دليلاً واحداً من القرآن أو السنة، ولا قول صحابي واحد على ما أوردوه. وكل ما استندوا عليه هو فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله على رأي اللجنة التي شكَّلها في ذلك الحين، وفي نص قرارهم ما يلي:
(.. لقد جرت مراجعة كلام العلماء فيما يتعلق بذلك –عرض المسعى- ولم نجد للحنابلة تحديداً لعرض المسعى. وجاء في (المغني) لابن قدامة: يستحب أن يخرج إلى الصفا من بابه فيأتي الصفا فيرقى عليه حتى يرى الكعبة ثم يستقبلها. ولم يذكروا تحديد العرض.. وقال شمس الدين الرحلي الشافعي: قال (نهاية المحتاج): (ولم أر في كلامهم –الشافعية- ضبط عرض المسعى وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه).
وقال النووي في شرح المجموع: (الظاهر أن التقدير لعرضه بخمسة وثلاثين ذراعاً أو نحوها –على التقريب؛ إذ لا نص فيه يُحْفَظ من السنة) ا.هـ. وما دام أنه لم يثبت في تحديد عرض المسعى شيء فالأصل فيه الحل والجواز، لا سيما إذا دعت الحاجة أو الضرورة إليه، ففي حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه عند الترمذي وأبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال ما أحلَّ الله في كتابه، والحرام ما حرَّمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو عفو". ومعلوم أن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- بما فيها من الأمر والنهي – داخلة ضمن كتاب الله لقوله "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب".
ثانياً: المشايخ المانعون للتوسعة مجتهدون مأجورون إن شاء الله، ولهم أجر على اجتهادهم وإن لم يوفقوا للصواب، والعلماء المجيزون مجتهدون مأجورون ولهم أجران، أجر على اجتهادهم والآخر لموافقتهم الصواب. أما الكثرة فليس دائماً يكون الصواب حليفها. وكم خالف العالم المجتهد جمهور العلماء كابن تيمية، والعز بن عبد السلام، ومحمد بن عبد الوهاب، وعبد العزيز بن باز، وعبد الرحمن بن سعدي وآخرون. والله يقول في محكم كتابه "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " ويقول: "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين".
ثالثاً: أما استدلالك (لا تجتمع أمتي على ضلالة) فليس بحديث كما نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بل عامة العلماء أنكروا نسبته كحديث، ولم يعرف له إسناد البتة، بل هو من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ويستدل له بعض العلماء بأدلة ثبوت الإجماع كأصل. وكون الإجماع مصدراً من مصادر الشريعة ثابت بأدلة أحرى وأقوى من هذا الدليل، والإجماع للعلماء مع وجود المخالف.. وقد ناقشت قول ابن مسعود هذا في كتابي: "حديث اختلاف أمتي رحمة- رواية ودراية". فراجعه إن شئت. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. آمين.
قال الشعبي لأصحابه
لاتقدموا على أمر تخافون أن تقصروا دونه
ولا تعدوا أحداً عدة لا تستطيعون إنجازها
ولا تحدثوا من الناس من تخافون تكذيبه
ولاتسألوا أحداً تخافون منعه