قبل اثني عشر عاماً جاء من بلده المجاور واستقر به الحال هنا، حيث عمل موظفاً بسيطاً في إحدى الوزارات كان «م» رجلاً غير متعلم، فبالكاد يستطيع أن يقرأ ويكتب ورغم أن والده كان يلح عليه لإكمال دراسته إلا أنه ترك المدرسة من الصف الخامس الابتدائي وجاء إلى هنا باحثاً عن عمل، لم يفكّر «م» في وظيفة مرموقة لأنه يعرف قدراته وإمكانياته جيداً، فقد كان على استعداد لأن يقبل أي وظيفة ما دامت تُدر عليه دخلاً ثابتاً.
وظيفة في إحدى الوزارات
عندما وصل (م) إلى وجهته استقبله أحد أقاربه وأسكنه عنده، وبدأ يبحث له عن عمل لم يدم البحث طويلاً، فقد تمكّن قريبه من إيجاد وظيفة «مراسل» له في إحدى الوزارات، ورغم أن المرتب الذي كان يتقاضاه لم يكن كبيراً، إلا أنه كان فرحاً به، فقد كان يدخر جزءاً منه ويرسله إلى والده، كان والد «م» عندما يتسلم المبلغ يقوم بإيداعه في البنك حتى أصبح المبلغ كبيراً نوعاً ما وعندها قام والد «م» ببناء بيت صغير لأبنه بجانب بيته على أمل أن يقدمه له هدية عندما يتزوج.
لذا عندما اكتمل البيت اتصل والد «م» بابنه يبلغه الخبر السعيد وطلب منه أن يعود إلى بلاده، وأن يكمل نصف دينه ويتزوج واقترح والد «م» على ابنه أن يتزوج من إحدى بنات عمه، ومع أن «م» تقبّل فكرة الزواج إلا أنه رفض أن يتزوج من الفتاة التي رشحها له والده، اختمرت فكرة الزواج في رأس «م» وبدأ يبحث عن فتاة أحلامه، واضعاً مقاييس جمالية خاصة بها، فهو يريدها بيضاء البشرة شقراء الشعر ممشوقة القوام حسنة الوجه.. الخ.
لكنه بدأ يسأل نفسه من أين سيأتي بهذه الفتاة وإذا وجد فتاة بهذه المقاييس الجمالية فهل ستقبل به زوجاً لها رغم بشرته السمراء الفاضحة وتواضع وسامته إضافة إلى انه غير غني ولا يملك مؤهلاً علمياً وليس له وظيفة مرموقة كل ذلك جعله يقول إنه غير قادر على تحقيق أحلامه، لكن (م) لم ييأس فقد جاءته الفرصة على طبق من ذهب وساقت له الأقدار فتاة بنفس المواصفات التي يريدها بل أكثر من ذلك بكثير فقد تعرف (م) على عائلة وكانت تتردد على هذه العائلة فتاة (روسية) أسلمت حديثاً وكانت الفتاة الروسية تأتي إلى العائلة كي تتعلم المزيد من تعاليم الدين الإسلامي، فما كان من (م) إلا أن طلب من العائلة مساعدته في الزواج من الفتاة الروسية التي وجد فيها كل ما يتمناه.
مراسم الزواج
عندما عرضت العائلة على الفتاة الروسية مسألة زواجها من (م) لم تتردد في قبولها لكنها اشترطت على (م) أن يعاملها بالحسنى وأن يعلمها كيف تقرأ القرآن، فرح (م) بهذين الشرطين ووافق عليهما بدون نقاش وتمت مراسم الزواج، وهكذا بدأ (م) حياة جديدة مع زوجته، قضى معها أربع سنوات رزق خلالها بطفلين أحدهما يبلغ من العمر ثلاث سنين والآخر أربعة أشهر، كانت العلاقة بين (م) وزوجته على خير ما يرام فمن ناحيته كان يعاملها بالحسنى أما هي فقد كانت ملتزمة دينياً .
وتتعلم كل يوم شيئاً جديداً من القرآن كما بدأت تتحدث العربية في حين أن طلباتها أقل من العادية، حتى أنها لم تكلف زوجها أي طلبات أصلاً فقد فتح الله عليها الهداية من أوسع أبوابها وركزت كل تفكيرها على آخرتها وسعادة زوجها وولديها خلال فترة زواجه لم يذهب (م) إلى بلاده سوى مرة واحدة وكانت مدة الزيارة (24) ساعة عاد بعدها إلى أسرته وعمله فلم يأخذ معه أسرته في تلك الزيارة لأن زوجته كانت في أيام حملها الأخيرة .
مرت الأيام والسنون سعيدة وهانئة في حياة (م) فلم يسمع أو يرى من زوجته إلا كل خير حتى عندما كان يمر بضائقة مالية أو نفسية كانت زوجته تقف إلى جانبه وتذكره ببعض الآيات والأحاديث التي تهدئ نفسه وتشد من أزره ،في أحد الأيام تلقى (م) اتصالاً هاتفياً من أخته تخبره فيه أن والده مريض وعليه أن يحضر هو وأولاده وزوجته لأن الأب يريد أن يرى أحفاده قبل أن يموت .
عندما تلقى (م) المكالمة تأثر بها كثيراً لذا قرر أن يستقيل من وظيفته ويعود نهائياً إلى بلاده ليبقى بجانب والده العجوز، وبعد التشاور مع زوجته وافقته على رأيه وفعلاً قدم (م) استقالته وأخذ مستحقاته حيث اشترى بنصفها تقريباً سيارة جديدة ليتوجه بها إلى بلاده.
مفاجأة غير سارة
عندما أكمل (م) استعداده للسفر ذهب إلى سفارة بلاده كي يسجل ابنيه إلى جواز سفره ويستخرج تأشيرة لزوجته، لكن المفاجأة التي لم تخطر له على بال هو أن الموظف في السفارة طلب منه قبل أن يسجل ابنيه في جواز سفره، تصريحاً من وزارة الداخلية يسمح له بالزواج من أجنبية، فقال له (م) إنه لا يملك تصريحاً بذلك لأنه لأول مرة يعرف أن عليه أن يستأذن وزارة الداخلية حتى يتزوج من أجنبية، دار نقاش طويل بين (م) وموظف السفارة قدم خلاله «م» للموظف جميع الإثباتات التي تدل على أن هذه المرأة زوجته وهذين الطفلين ولداه فقد قدم عقد الزواج الموقع من دائرة الأوقاف التابعة للوزارة التي كان يعمل مراسلا فيها كما قدم شهادتي ميلاد ابنيه مصدقتين من مستشفى حكومي معروف.
إلا أن كل ذلك لم يجد نفعا فقد أصر موظف السفارة على إحضار ورقة يثبت من خلالها «م» أن وزارة الداخلية في بلاده لا تمانع من زواجه بأجنبية حاول «م» مرة أخرى مؤكدا للموظف أنه إنسان بسيط وغير متعلم ولا يعرف القوانين فرد عليه موظف السفارة أن كل ذلك لا يعفيه من تحمل المسؤولية وهو زواجه من أجنبية بدون استئذان من وزارة الداخلية عاد «م» إلى أسرته مهموما وأخيرا قرر أن يذهب إلى بلاده ومعه زوجته وولداه فهذا حقه.
كما أن والده مريض ويريد أن يراه قبل أن يحصل له أي مكروه. في اليوم التالي توجه «م» مع أسرته بالسيارة إلى بلاده لكنه ما كاد يصل النقطة الحدودية حتى سمع من الضابط المسؤول هناك الكلام نفسه الذي سمعه من موظف السفارة فلم يسمح لزوجته وطفليه بالدخول قبل الحصول على موافقة وزارة الداخلية أحس «م» بأن الدنيا بدأت تسود في عينيه فكيف له أن يتخلص من هذا الكابوس الذي وقع فيه دون أن يدري.
معاناة جديدة
عاد «م» مع أسرته من حيث أتى حيث ذهب مرة أخرى إلى سفارة بلاده شارحا لمسؤول كبير في السفارة الظروف التي تزوج فيها ومؤكداً للمسؤول بأنه لم يكن يعرف أن عليه أن يأخذ إذنا من وزارة الداخلية قبل أن يتزوج من أجنبية، ثم وضح للمسؤول أنه رجل بسيط فهو ليس دبلوماسياً لامعاً ولا عسكرياً فذاً حتى يأخذ إذناً من وزارة الداخلية في بلاده قبل الزواج من أجنبية، ثم إنه أولاً وأخيراً لا يعرف القانون، إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، بدأ (م) يبكي وهو يرى أسرته تضيع أمامه بسبب قانون لا يعرفه وذنب لم يرتكبه عاد (م) إلى بيته محطماً، فقد أضاع وظيفة لن يستطيع استردادها مرة أخرى.
كما انه أنفق نصف مستحقاته في شراء سيارة جديدة، فمن أين له بالمال حتى يستأجر شقة ويؤثثها ويبدأ من جديد، وسط هذه الظروف القاسية اقترحت عليه زوجته أن يبقيها هي وولديها عند أسرة صديقة لهم وأن يذهب هو إلى بلاده لرؤية والده المريض وأن يحاول من هناك استخراج ورقة من وزارة الداخلية تسمح له بالزواج (من زوجته) التي اقترن بها قبل أربع سنوات وأنجب منها طفلين.
راقت الفكرة إلى (م)، حيث توجه إلى مسقط رأسه حاملاً لوالده المريض ألبوم صور فيه بعض الصور لولديه وزوجته مع أمل أن يلتئم شمل الأسرة ويستطيع والد (م) أن يرى حفيديه ويضمهما إلى صدره قبل أن يموت.
منقول من جريده البيان الاماراتيه
المواضيع المتشابهه
العرض العادي
