فتى تحول حلمه إلى غير موضعه
كاد يجنُّ من الفرح ، و يطير من فرط السعادة ؛ ولم تسعه ثيابه كما يقال ؛ عندما سمع نبأ قبوله في البعثة الخارجية إلى فرنسا
شيءٌ واحدٌ كان يؤرقه .. ويقضُ مضجعه .. كيف أترك مكة ! سنين طوالاً وقد شغف بها فؤادي وترعرعت بين أوديتها ، وشربت من مائها الحبيب من زمزم العذب.
انتظم في دراسته .. وكانت الطامة الأخرى !! يقعد معه على مقاعد الدراسة .. بناتٌ مراهقاتٌ قد سترن نصف أجسادهن .. وأبحن النصف الآخر للناظرين ! ؛ كان يدخل قاعة الدرس ورأسه بين قدميه حياءً وخجلاً !! ولكنهم قديماً قالوا : كثرةُ الإمساس تُفقد الإحساس .. مرَّ زمنٌ عليه .. فإذا به يجد نفسه تألف تلك المناظر القذرة .. بل ويطلق لعينيه العنان ينظر إليهن .. فالتهب فؤاده .. وأصبح شغله الشاغل هو كيف سيحصل على ما يطفئ نار شهوته .. وما أسرع ما كان ! .
وإذا به يقع في أسر إحداهن من ذوات الأعين الزرقاء ! والعرب قالوا قديماً : زرقة العين قد تدل على الخبث[
ملكت عليه مشاعره في بلد الغربة .. فانساق وراءها وعشقها عشقاً جعله لا يعقل شيئاً .. ولا يشغله شيءٌ سواها .. فاستفاق ليلة على آخر قطرة نزلت من إيمانه على أعقاب تلك الفتاة .. فكاد يذهب عقله .. وتملكه البكاء حتى كاد يحرق جوفه .. ترأى له في أفق غرفته .. مكةُ .. والكعبةُ .. وأمُّه .. وبلاده الطيبة ! احتقر نفسه وازدراها حتى همَّ بالانتحار ! لكن الشيطانة لم تدعه .. رغم اعترافه لها بأنه مسلمٌ وأن هذا أمرٌ حرمه الإسلام ؛ وهو نادمٌ على ما فعل ..
إلاَّ أنها أوغلت في استدارجه إلى سهرة منتنةٍ أخرى
ثم قدّمت له تلك الهدية الفاخرة التي لم تكون سوى صليبٍ من الذهب الخالص !! وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة ؛ أحاطت به بيدها فربطت الصليب في عنقه وأسدلته على صدره وأسدلت الستار على آخر فصل من فصول التغيير الذي بدأ بشهوةٍ قذرة ؛ وانتهى بِردّةٍ وكفرٍ ؛ نسأل الله السلامة والعافية !.
اقتربت الدراسة من نهايتها .. وحان موعد الرجوع .. الرجوع إلى مكة .. ويا لهول المصيبة .. أيخرج منها مسلماً ويعود إليها نصرانياً ؟! وقد كان .. نزل في مطار جدة .. بلبس لم يعهده أهله[2] .. وقلبٍ « أسود مرباداً كالكوز مجخياً .. لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً » [3] .. عانق أمَّه ببرودٍ عجيبٍ .. رغم دموعِها .. وفرحةِ اخوته وأخواته .. إلاَّ أنه أصبح في وادٍ ؛ وهم في وادٍ آخر .. أصبح بعد عودته منزوياً كئيباً حزيناً
لاحظ أهله عليه أنه لم يذهب إلى الحرم أبداً طيلة أيامه التي مكثها بعد عودته ؛ ولفت أنظارهم عدم أدائه للصلاة .. فحدثوه برفق فثار في وجوههم وقال لهم :" كل واحد حر في تصرفاته .. الصلاة ليست بالقوة " .. أما أمُّه فكانت تواري دموعها عنه وعن اخوته كثيراً وتعتزل في غرفتها تصلي وتدعو له بالهداية وتبكي حتى يُسمع نشيجُها من وراء الباب
في يوم .. دخلت أمه عليه .. وقالت له
قم أوصلني بسيارتك ! وكان لا يرد لها طلباً ! فقام .. فلما ركبا في السيارة .. قال لها :- إلى أين !
قالت : إلى الحرم أصلي العشاء
قال لها بلهجة حادة .. انزلي أنت وصلّي .. وأنا سأنتظرك هنا ! فلما وصل إلى الحرم
فنزلت الأم .. وهي تبكي .. وقبع هو في السيارة .. أغلق زجاج الأبواب .. وأدخل شريطاً غنائياً (فرنسياً) في جهاز التسجيل .. وخفض من صوته .. وألقى برأسه إلى الخلف يستمع إليه ..
قال:-
فاجأني إلا صوتٌ عظيمٌ يشق سماءَ مكة وتردده جبالها .. إنه الأذان العذب الجميل ؛ بصوت الشيخ / علي ملا .. الله أكبر .. الله أكبر .. أشهد ألا إله إلا الله ...… فدخلني الرعبُ.. فأطفأت (المسجل) وذهلت .. وأنا أستمع إلى نداءٍ ؛كان آخرُ عهدي بسماعة قبل سنوات طويلة جداً ؛ فوالله وبلا شعورٍ مني سالت دموعي على خديّ .. وامتدت يدي إلى صدري فقبضت على الصليب القذر ؛ فانتزعته وقطعت سلساله بعنفٍ وحنق وتملكتني موجةٌ عارمة من البكاء لفتت أنظار كل من مر بجواري في طريقه إلى الحرم . فنزلت من السيارة .. وركضت مسرعاً إلى ( دورات المياه ) فنزعت ثيابي واغتسلت .. ودخلت الحرم بعد غياب سبع سنواتٍ عنه وعن الإسلام ! . فلما رأيت الكعبة سقطت على ركبتيّ من هول المنظر ؛ومن إجلال هذه الجموع الغفيرة الخاشعة التي تؤم المسجد الحرام ؛ ومن ورعب الموقف .. وأدركت مع الإمام ما بقي من الصلاة وأزعجت ببكائي كل من حولي .... وبعد الصلاة .. أخذ شابٌ بجواري يذكرني بالله ويهدّأ من روعي .. وأن الله يغفر الذنوب جميعاً ويتوب على من تاب ..شكرته ودعوت له بصوت مخنوق ؛ وخرجت من الحرم ولا تكاد تحملني قدماي .. وصلت إلى سيارتي فوجدت أمي الحبيبة تنتظرني بجوارها وسجادتها بيدها .. فانهرت على أقدامها أقبلها وأبكي .. وهي تبكي وتمسح على رأسي بيدها الحنون برفق .. رفعت يديها إلى السماء .. وسمعتها تقول :_ "يا رب لك الحمد .. يا رب لك الحمد .. يا رب ما خيبت دعاي .. ورجاي .. الحمد لله .. الحمد لله " .. فتحت لها بابها وأدخلتها السيارة وانطلقنا إلى المنزل ولم أستطع أن أتحدث معها من كثرة البكاء .. إلاَّ أنني سمعتها تقول لي:_ " يا وليدي .. والله ما جيت إلى الحرم إلاّ علشان أدعي لك .. يا وليدي
بعد عودتي إلى المنزل أحرقت كل ما لدي من كتب وأشرطة وهدايا وصورٍ للفاجرات .. ومزقت كل شيء يذكرني بتلك الأيام السوداء وهنا دخلت في صراعٍ مرير مع عذاب الضمير .. كيف رضيت لنفسك أن تزني ؟ كيف استسلمت للنصرانيات الفاجرات ؟ كيف دخلت الكنيسة ؟ كيف سمحت لنفسك أن تكذّب الله وتلبس الصليب ؟ والله يقول : { وَمَا قَتَلوه وما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } [النساء] من الآية157) كيف ؟ وكيف ؟! أسئلة كثيرة أزعجتني .. لولا أن الله تعالى قيّض لي من يأخذ بيدي .. شيخاً جليل القدر .. من الشباب المخلصين ؛ لازمني حتى أتممت حفظ ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم في فترة قصيرة ولا يدعني ليلاً ولا نهاراً .. وأكثر ما جذبني إليه حسن خلقه وأدبه العظيم .. جزاه الله عني خيراً .. اللهم اقبلني فقد عدت إليك وقد قلت ياربنا في كتابك الكريم { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف } ..وأنا يا رب انتهيت فاغفر لي ما قد سلف.. وقلت : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .. وأنا يا رب قد أسرفت على نفسي في الذنوب كثيراً كثيراً .. ولا يغفر الذنوب إلاَّ أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم .. ..