الإسراء آية من آيات الله تعالى الَّتي لا تعدُّ ولا تحصى، وهو انتقال عجيب بالقياس إلى مألوف البشر، ولهذا فقد أثير حوله جدل طويل وتساؤلات كثيرة، فيما إذا كان قد تمَّ بالروح والجسد، أم بالروح فقط؟. والمتفق عليه لدى جمهور العلماء أنه تمَّ بالروح والجسد معاً، لأنه لو كان بالروح فقط لما أحدث خلافاً، إذ أننا نسري بأرواحنا كلَّ ليلة عند نومنا. ومع ذلك فإن الَّذين يدركون شيئاً من طبيعة القدرة الإلهيَّة، لا يستغربون واقعة كهذه، لأن تلك القدرة إرادة نافذة، تهون أمامها جميع الأعمال الَّتي تبدو في نظر الإنسان صعبة أو مستحيلة، حسبما اعتاده ورآه، وانطلاقاً من قدراته وطاقاته المحدودة. ولو كان الأمر موافقاً لهذه القدرات، لما كان فيه معجزة تشهد لصاحبها بصدقه فيما جاء به، فالنُّقلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى وتلقِّي القرآن والرسالة عنه، وقد صدق أبو بكر رضي الله عنه وهو يردُّ المسألة المستغرَبة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول: (إني لأصدِّقه بأبعد من ذلك، أصدِّقه بخبر السماء). وقد جزم جمهور علماء المسلمين على أن الإسراء كان بالروح والجسد يقظة لا مناماً، معتمدين على أدلَّة كثيرة منها:
1 ـ إن التسبيح والتعجُّب في قوله تعالى: {سبحان الَّذي أسرى بعبده} إنما يكون في الأمور العظام، ولو كان ذلك مناماً لذكره الله تعالى (كما ذكره عن إبراهيم وولده إسماعيل في قصَّة الذبح المعروفة) ولمَا كان له كبير شأن، ولما كان دليلاً على نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولا حجَّة له على صدقه في رسالته.
2 ـ إن قوله تعالى: {بعبده} يدلُّ على مجموع الروح والجسد.
3 ـ إن عملية الإسراء بهذه السرعة ممكنة في نفسها، بدليل أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه السَّلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة، قال تعالى: {وَلِسليمانَ الرِّيحَ عاصفةً تجري بأمره إلى الأرضِ الَّتي باركْنَا فيها وَكُنَّا بكلِّ شيء عالمين} (21 الأنبياء آية 81).
والسؤال الَّذي يطرح نفسه: لماذا كان الإسراء إلى المسجد الأقصى بالذات؟، ولماذا رُفع السيِّد المسيح من المسجد الأقصى بالذات؟، هل يمكن أن تكون هناك قاعدة فضاء سماوية مهيَّأة لرفع الأنبياء جسداً وروحاً في بيت المقدس؟؛ ويأتينا الجواب من قِبَل ربِّ العالمين في قوله سبحانه: {المسجدِ الأقصى الَّذي باركنا حوله} أي أحطناه ببركات الدِّين والدنيا لأنه مهبط الوحي والملائكة، ومحراب الأنبياء ومكان عروجهم إلى عالم السماء.
أمَّا المعراج فهو الارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء، وقد حدثت هاتان الرحلتان، الرحلة الأرضية (الإسراء) والرحلة السماوية (المعراج) في ليلة واحدة قبل الهجرة بسنة، ليمحِّص الله المؤمنين، وليميِّز من كان صادق الإيمان فيكون خليقاً بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة، وجديراً بما يحتمله من أعباء وتكاليف. وقد أطْلَعَ الله سبحانه وتعالى رسوله في هذه الليلة على آيات كونيَّة تنطق بما في الكون من العظمة والجلال، ليكون ذلك درساً عملياً يتعلَّم فيه الرسول بالمشاهدة والنظر، لأنه أجدى أنواع التعليم وأشدُّها رسوخاً، ولقد كفل له ربُّه ذلك بما أراه من آياته الكبرى، وما أطلعه عليه من مشاهد تلك العوالم الَّتي لا تصل أذهاننا إلى إدراك كنهها إلا بضرب من التخيُّل، فأنَّى لنا أن نصل إلى ذلك وقد حبس عنَّا الكثير من العلم، وما أوتينا منه إلا قليلاً، قال تعالى: {ويَسئَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُل الرُّوحُ من أمرِ ربِّي وما أُوتيْتُم من العلمِ إلاَّ قليلاً} (17 الإسراء آية 85). ولا يخفى أن هذا ليـس بخلاً من الله عزَّ وجل، فهو سبحانه لا يبخل على عباده، بل أعطى كلَّ نوع من مخلوقاته علوماً تتوافق مع استعداده وفطرته ومهمَّته في هذا الكون. إن روحانية الأنبياء تتغلَّب على كثافة أجسامهم، فما يخيَّل إلينا أنه مانع من الوصول إلى عالم الملأ الأعلى، لتخلخل الهواء ثمَّ انعدامه، واستحالة الوصول إلى الطبقات العليا من السماء، ما هو إلا بالنظر إلى الأجرام والأجسام المشاهدة في عالم الحسِّ والقوانين الَّتي تحكمها، أمَّا الأنبياء والملائكة فإن لروحانيتهم أحكاماً أخرى لم يصل العقل البشري إلى تحديدها وإبداء الرأي فيها. ولا يخفى على كلِّ ذي بصيرة آمن بالله عزَّ وجل أنَّ الله تعالى واضع نظام هذا الكون وقوانينه، وأن من وضع قوانين التنفُّس والجاذبية والحركة والانتقال والسرعة وغير ذلك، قادر على استبدالها بغيرها عندما يريد ذلك، وإن الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم ثمَّ العروج به إلى السموات العلى لا يخرج عن هذه الحقيقة.
وقد أَطْلَعَ الله تعالى نبيَّه الكريم على أصناف من الناس يواجهون عواقب ما عملوا في الدنيا، ليكون في ذلك موعظة لمن يبلِّغهم الرسالة، فقد أخرج أحمد وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمَّا عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون في وجوههم وصدورهم، فقلت من هؤلاء ياجبريل؟ قال: هؤلاء الَّذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (أي يغتابونهم). وأخرج ابن مردويه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة أسري بي مررت بناس تُقْرَض شفاههم بمقارض من نار، كلَّما قُرضت عادت كما كانت. فقلت من هؤلاء ياجبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمَّتك الَّذين يقولون ما لا يفعلون». وأخرج ابن مردويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة أسري بي رأيت رجلاً يَسْبَحُ في نهر يُلقَم الحجارة فسألت: من هذا؟ فقيل لي: هذا آكل الربا».
والغاية من الإسراء والمعراج أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم آيات ربِّه، الَّتي ما شُرِّف برؤيتها أحد من الأولين أو الآخرين، حيث إنَّ المعراج لم يكن إلى مكان بعينه دون سواه، فإنه تعالى لا يحدُّه مكان ولا يقيِّده زمان. ونظراً لإنكار المنكرين لهذه الحادثة، فإن الله تعالى يؤكِّدها في سورة النجم، وبأسلوب مثير، يؤكِّد صدق محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ويدلُّ على أنها حقيقة واقعة قد تمَّت بالروح والجسد معاً، قطعاً لكلِّ شكٍّ، ووأداً لكلِّ فتنة. ويُقسم سبحانه بالنجم حين يهوي، ولو قُدِّر لنا أن نرى نجماً مضيئاً، يهوي من أعالي السماء بسرعة عجيبة رهيبة، ثمَّ يزول ويتلاشى، لتملَّكنا الرعب من هول المنظر، والدهشة من قدرة الواحد الأحد، ولأُلْجِمَتْ أفواهنا من هول ما نرى، وهذا ما يحدث في الكون فعلاً بقدرة الله تعالى، ولهذا يُقسم تعالى بهذه الظاهرة الحقيقية، بياناً لعظمة ما يأتي بعد القسم فيقول: {والنَّجمِ إذا هوى * ما ضلَّ صاحبُكم وما غوى * وما ينْطِق عن الهوى} أي أن ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسراء والمعراج صحيح تماماً، لأنه كان على أفضل حال من الإدراك والوعي، عندما عُرج به إلى السماء العليا لمناجاة ربِّ العالمين، ولمشاهدة عوالم الآخرة من جحيم ونعيم. وفي هذا القَسَمِ إشارة إلى أن هناك عوالم وأجراماً علوية يجب علينا أن نتعرَّف أمرها لنستدل على عظيم قدرة مبدعها وروعة صنعه. وقد أثبت العلم الحديث ما يدعو إلى العجب من أحوال هذه الأجرام وسرعة سيرها وكبر حجمها، وأسباب اندثارها وتلاشيها. وجواب القسم فيه تبرئة للرسول صلى الله عليه وسلم ممَّا نُسب إليه من اتِّهامات باطلة، بأنه شاعر أو كاهن أو مجنون، وتأكيد لحقيقة أنه لا ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى إليه من الله تعالى. وأَمْرُ الوحي أمر واضح مشهود، ورؤية محقَّقة، ويقين جازم، وعلى هذا اليقين تقوم دعوته الَّتي ينكرونها عليه ويكذِّبونه، ويشكُّون في صدق الوحي إليه، وهو صاحبهم الَّذي خبروه، وربُّه يصدِّقه ويقسم على صدقه، ويقصُّ عليهم كيف أوحى إليه، وفي أيِّ الظروف، وعلى يد مَن، وكيف لاقاه، وأين رآه! روى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: «كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهاني البعض فقالوا: إنك تكتب كلَّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله بشر يتكلَّم في الغضب، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اكتب فوالَّذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحقُّ».
أمَّا مسألة إمكانية رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربِّ العالمين، في هذا الصعود المعجز، فقد اختلف فيها المفسرون، وأكثرهم قال بأنه رأى جبريل، ونحن نرجِّح الرأي القائل بأنه رأى ربَّ العزَّة بعين الفؤاد القلبية، وهي عين روحانية ــ وليسـت جارحة من الجوارح ـ مهيَّئة لرؤية انعكاس الأنوار الإلهيَّة على صفحات القلب. والسبب في اعتقادنا هذا، هو سابقة الرؤيا والعلاقة بين النبي عليه السَّلام وجبريل، فقد رآه صلى الله عليه وسلم مسبقاً بعدَّة صور، منها بشرية ومنها ملائكية، وما كان لرؤيته في السماء أي مغزى أو معنى جديد حين عروجه عليه السَّلام، لذا نفضِّل الرأي القائل برؤية حضرة الله تعالى، رؤيا روحية تبصُّرية لظلال من أنوار الله تعالى {مَا كَذَبَ الفُؤُادُ مَا رَأَى}، ممَّا يعطي للمعراج زخماً روحياً وفيراً، وأُنْساً ربَّانيّاً لا يُضاهى. أخرج ابن المنذر وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: «يارسول الله! هل رأيت ربَّك؟ قال: لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين، ثمَّ تلا: {ثمَّ دنا فتدلَّى}». بينما رأى صلى الله عليه وسلم ملكوت السماء وسدرة المنتهى، والبيت المعمور والجنَّة والنار، وجبريل وغير ذلك رؤية حقيقية {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى}، وإنَّ دنوَّه صلى الله عليه وسلم من ربِّه ليس دنوَّ مكان ولا قرب مدى، إنما هو إظهار لعظيم منزلته، وتشريف لرتبته وإشراق لأنوار معرفته، ومشاهدة لأسرار غيبه وقدرته، وتفضُّل من الله عليه وإيناس له وإكرام.
أمَّا عن أحداث تلك الليلة، فقد جاء في الحديث الشريف، أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى فيها إماماً بالأنبياء، وهذا يرشد إلى أنه جاء بشريعة ختمت الشرائع السالفة كلَّها، وأقرَّتها واستكملتها، وفي هذا مغزى جدير بالتأمُّل والتفكُّر، وهو أن جميع الأنبياء على وفاق ووئام، أتوا لتبليغ عباد الله الدِّين الحقَّ، وشريعة ربِّهم الَّذي أرسلهم، ممَّا يستوجب على متَّبعيهم أن يقتفوا سُنَّة رسلهم، وأن يجعلوا أمرهم سَلَماً بينهم، وأن يجعلوا الشريعة الأخيرة والقانون الَّذي جاءت به، الشريعة الَّتي يُقضى بها بين الناس، كما هو المتَّبع في القوانين الوضعية، فإن الَّذي يجب العمل به هو القانون الأحدث. وبهذا تكون الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، رحلة مختارة من اللطيف الخبير، لتربط بين شرائع التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام إلى محمَّد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، وتربط بين الأماكن المقدَّسة برسالات التوحيد جميعاً، وهذا ما أكَّده كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ قال الله تعالى: {شَرَعَ لكم من الدِّينِ ما وصَّى به نوحاً والَّذي أوحينا إليك وماَوصَّيْنَا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدِّينَ ولا تتفرقوا فيه...} (42 الشورى آية 13) وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في أحاديث كثيرة ومنها ما أخرجه الترمذي وحسَّنه، والطبراني وابن ماجه، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يامحمَّد! أقرئ أمَّتك مني السَّلام، وأخبرهم أن الجنَّة طيِّبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوَّة إلا بالله»(قيعان: أي لاغراس فيها). وأخرج البزار وأبو يعلى وابن جرير وابن مردويه والبيهقي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء لقي أرواح الأنبياء عليهم السَّلام فأثنَوْا على ربِّهم فقال صلى الله عليه وسلم : كلُّكم أثنى على ربِّه، وإني مُثنٍ على ربِّي فقال: الحمد لله الَّذي أرسلني رحمة للعالمين، وللناس كافَّة بشيراً ونذيراً، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان لكلِّ شيء».
ولابد أن نشير في ختام هذا الفصل إلى ورود كثير من الروايات حول ما شاهده النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المثيرة، رواياتٌ الاختلاقُ فيها واضحٌ، والدسُّ والافتراء فيها أكثر وضوحاً، وكأن هذه الرحلة كانت فرصة لأصحاب النوايا السيئة لكي ينفثوا سمومهم وأوهامهم، لأغراض بثِّ الفتنة، والتلاعب بعواطف المسلمين، والشواهد على ما نقول كثيرة.