انت معركة الخفجي قصيرة، ولكنها شرسة كل الشراسة. فقد دارت أنشطتها متزامنة، إلى حدّ ما، في مواقع مختلفة وبأساليب مختلفة. بدأ الهجوم، بعد الثامنة صباحاً بقليل، يوم 31 يناير على محورين. المحور الأيمن، نفّذته الكتيبة الثامنة مشاة آلية من لواء الحرس الوطني مدعمة بسرية مشاة آلية قطَرية. والمحور الأيسر، نفّذته الكتيبة السابعة مشاة آلية من لواء الحرس الوطني مدعمة بسرية دبابات قطَرية وفصيل صواريخ مضادة للدبابات Hot. من قطر أيضاً. كان الهدف من الهجوم، التوغل إلى عمق المدينة وتدمير التجمعات العراقية الرئيسية فيها، بينما تتحرك، في الوقت نفسه، كتيبة مشاة بحرية سعودية على الطريق الساحلية بهدف منْع أية تحركات عراقية في اتجاه الجنوب.
وحين اقتربت العربات المدرعة للحرس الوطني من مدخل المدينة، تصدّى لها العراقيون بكثافة نيرانية من الدبابات والصواريخ. وكانت القوات العراقية متحصِّنة حيث اختبأت إلى جوار الأبنية أو في الخنادق المحصنة. كما تصدى القناصة كذلك لكل محاولات التقدم. وفي أول اشتباك عنيف كانت خسائر وحدات الحرس الوطني قليلة جداً، شهيدا واحدا وأربعة جرحى. وفي العاشرة أعيد تجميع تلك الوحدات وتحصنت في الطرف الجنوبي للخفجي .
كان السؤال المهم الذي واجه قواتنا وهي تستعد لاستئناف القتال هو، هل يمكِن للقوات العراقية المحاصَرة الحصول على تعزيزات؟ أَوْلَيْتُ الأمر كل اهتمامي آنذاك عندما تلقيت تقريراً بأن لواءً عراقياً مدرعاً ( رُصِدَ أكثر من 100 دبابة وناقلة جند مدرعة ) يتحرك بسرعة عالية من الكويت في اتجاه الحدود ومدينة الخفجي. كان اللواء العراقي في تشكيل قتالي يمتد لأكثر من ثلاثة كيلومترات، ولم تكُن تجري أية محاولة جادة من الجو لإيقافه. كانت تلك اللحظة من أحرج اللحظات بالنسبة إلينا. كنّا ندرك أن قواتنا المهاجِمة ستصبح في خطر مُحدِق إذا وصل ذلك الرتل العراقي المدرع إلى المدينة، إذ كان من شأن ذلك أن يُرَجِّح كفة القوات العراقية.
لذا، كان لا بد من إيقاف هذا اللواء. فصدرت الأوامر إلى كتيبة الدبابات من اللواء الثامن الآلي، التي أُسندت إليها مهمة قطع طريق التعزيزات إلى الخفجي، بالاشتباك مع العدو. وأَبْلَتْْ تلك القوات بلاءً حسناً. فبعد معركة استغرقت ثلاثين دقيقة، أبلغ قائد الكتيبة أنه نجح في تدمير 12 آلية عراقية، وأن العراقيين بدأوا الانسحاب ليقوموا بعملية إعادة تجميع خلْف الحدود. ولكن طائرات التحالف كانت لهم بالمرصاد في هذه المرة، فتكبَّد العراقيون خسائر جسيمة، مما أجبر بقية قواتهم على التقهقر السريع. وعندما رأى أحد ضباطنا، برتبة ملازم، العراقيين يُوَلّون الأدبار، انطلق في أثرهم ومعه عربتان أو ثلاث. ولسوء حظه، دخل منطقة للنيران الحرة كانت تُقْصف آنذاك من الجو بشدة. واستطاع أن ينجو بنفسه ولكن قُتل اثنان من رجاله بنيران صديقة من الجو. كان تصرفاً فردياً متهوراً، إذ لم يكن عليه أن يتقدَّم ولكنه تقدَّم، وتلك مخاطر الحرب التي يصعب التنبّؤ بها.
بعد أن أُجْهِضَت محاولة التعزيز العراقية الضخمة، تقدمت إلى المدينة الكتيبتان السابعة والثامنة مشاة آلية التابعتان للحرس الوطني، تساندهما سريتان قطَريتان، إحداهما سرية دبابات والأخرى سرية مشاة آلية مدعمة بفصيل صواريخ للدبابات Hot،س فانهالت عليها نيران القناصة العراقيين إلى جانب نيران الدبابات والرشاشات الثقيلة، كما عرقلت تقدمها أيضاً نيران المدفعية العراقية التي كانت تطلَق من شمال المدينة. خاضت قواتنا، ذاك الصباح كله، عدداً من الاشتباكات مع العراقيين من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت، تأخذ الأسرى وتكبّد العراقيين المدافعون خسائر فادحة.
وقرب الظهر، عندما استدعت قوات الحرس الوطني سيارات الإسعاف لكي تخلي الشهداء والجرحى في صفوفها، شنّت الدبابات العراقية هجوماً مضاداً عنيفاً، فدمرت سيارتي إسعاف وأمطرت قافلة الإغاثة بوابل من نيران الرشاشات.
وفي الساعة (1330)، سَعِدْتُ عندما عَلِمْتُ أن قواتنا المهاجمة شقّت طريقها إلى الجانب الآخر من مدينة الخفجي، وأن المقاومة العراقية انهارت أو تكاد. ويجب ألاّ ننسى هنا أن القتالَ داخل المدن قتالٌ صعب وخطِر بلا شك، إذ ظلت بعض جيوب المقاومة هنا وهناك، بعضها لا يجرؤ على الاستسلام، وبعضها الآخر عازم على مواصلة القتال. كانت أصوات الطلقات لا تكاد تنقطع. واستمر العراقيون، أثناء انسحابهم، في توجيه نيران مدافعهم وراجمات صواريخهم إلى المدينة. وحاول بعض العراقيين الفرار في اتجاه الشمال على إحدى الطرق الساحلية الوعرة بعد أن أَيْقَنوا بالهزيمة، ولكنهم لم يَسلموا من الهجمات الجوية وفقدوا 12 دبابة أخرى في محاولة الفرار تلك. كما أن بعض الآليات تركت سليمة بعد أن غادرتها أطقمها. لم تكن القوات العراقية على الأرض تتمتع بأية مساندة جوية، فغدت بذلك عرضة لهجمات التحالف الجوية، أمّا المدافع السوفيتية الصنع المضادة للطائرات من عيار 57 مم التي كانت بحوزة العراقيين، فلم تُسْتخدم بشكل فعال.
وخلاصة القول، إنّ المعركة كانت شرسة حقاً، وخاضها العراقيون بشجاعة وأبدَوا مقاومة عنيدة إلى أن انهارت معنوياتهم. وذَكر اللواء سلطان في تقريره الذي رفعه إليّ أن 32 جندياً عراقياً قتلوا وجُرِح 35 وتم أسْر 463 آخرين. وكانت خسائر الجانب العراقي في المعدات تدمير11 دبابة T -55، إضافة إلى 51 ناقلة جند مدرعة، كما تم الاستيلاء على 19 عربة مدرعة أخرى. أمّا الخسائر في الجانب السعودي، في نهاية اليوم، فكانت استشهاد 18 وجرْح 32 آخرين إضافة إلى فَقْد 11 عادوا جميعهم بعد ذلك من دون أن يلحق بهم أي أذى. ولم تكن هناك خسائر في الجانب القطَري. أمّا الخسائر في المعدات، فكانت ثلاث دبابات وراجمة صواريخ واحدة وسيارتي إسعاف. وهكذا انتهت المعركة، وكتب الله لنا فيها النصر المبين.
وبكل الفخر والاعتزاز، اتصلت هاتفيا بخادم الحرمين الشريفين، القائد الأعلى للقوات المسلحة لأزف إليه الخبر:
"مولاي.. حرّرنا الخفجي وطهّرنا تراب الوطن من دنس المعتدي. والخسائر كانت كذا وكذا وأعداد الأسرى كذا وكذا... ".
سعد الملك بهذا الخبر كل السعادة. كان يدري أن المعركة لم تكن سهلة على الإطلاق، وأنها قد "عركتني عرك الرّحى بثفالها". ضحك وقال: "قد أكون أغلظت لك القول في اليومين الماضيين، لكنني كنت واثقا بأنك أهلٌ لتنفيذ المهمة". وهزّتني تلك الكلمات من الأعماق.
أردف يسألني: "وماذا ستفعل الآن؟". قلت إننا سوف نبدأ استجواب الأسرى، أريد أن أسمع منهم وقائع الأحداث. كنّا نستعد لبدء الحرب البرية لتحرير الكويت بين عشية وضحاها، ولا بد أن يتوافر لنا أكبر قدر من المعلومات عن حالة الجنود العراقيين.
كانت توجيهات الملك في ذلك الشأن واضحة ومحددة، إذ قال لي: "لا تنس أن هؤلاء الأسرى أُجبروا على قتالنا، فَقَبْل أن تشرع في استجوابهم تأكد أنهم استراحوا واغتسلوا وأُلبسوا ملابس نظيفة وقُدّم إليهم الطعام ولا تستجوبهم قبل ذلك". نفذت تعليماته بكل دقة.
ملحوطة:ذكر قائد العمليات لقوات المارينز أن التحرير لم يكن من قبل جنود المارينز بل من قبل القوات السعودية...لمن لايفقه يراجع الفيلم الوثائقي لحرب الخليج الجزء الرابع وذكر أن من حرر جنود المارينز هم السعوديين